خلال هذا التراث العنصري لنظرة الغرب للآخر، عاني المسلمون بالمجتمعات الغربية من أشد صور الاضطهاد ومصادرة الحقوق، وطمس الهوية، حتى في الدول التي تتشدق بالحرية والمساواة والديمقراطية، حاول القائمون عليها فرض الثقافة الغربية فرضاً علي المسلمين، وإجبارهم علي نمط الحياة الغربية، ومنع المسلمون في أحيان كثيرة من ممارسة شعائر دينهم بحرية، بل منعوا من بناء المساجد ورفع الآذان لوقتنا الحالي في كثير من الدول الغربية، وذهبت وعود وأماني الحرية والمساواة والإخاء الإنساني أدراج الرياح، واعتبر المسلمون في الثقافة الغربية مواطنين من الدرجة الثالثة أو الرابعة، وبالأحرى بدون حقوق حقيقية، ولا يظن أحد أن هذه النظرة الإستعلائية والعنصرية في تعامل الغرب مع الآخر قد اختلفت أو تغيرت في العصر الحاضر، بل أن من الغفلة والجهل الشديد افتراض الحيادية والعدالة في التعامل الغربي مع الآخر، وإلا بما نبرر الهجمات الوحشية البربرية التي يشنها الغرب وأصحاب الحضارة الراقية كما يحلو لهم وصف أنفسهم علي بلدان العالم الإسلامي، فبأي ذنب قتلت الملايين من المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والبوسنة والشيشان وتايلاند والفليبين وتركستان الشرقية، وما المبرر العقلي أو السياسي أو الاجتماعي الذي يبرر مثل هذه المذابح المروعة بحق الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، ثم انظر للمبررات الواهية الساقطة التي يسوقها الغرب من أجل تبرير ذلك العدوان، والتي لا يصدقها إلا الأغبياء أو الأذلاء أو العملاء، ثم انظر للعدالة الغربية وهي تعاقب سفاحي سجن أبو غريب مثلاً والشيطان الذي اغتصب عبير الجنابي وقتلها وأهلها في أبشع جريمة، انظر للعقوبات الهزيلة التي ينالها الجناة علي جرائمهم البشعة بحق الآخر، ليعلم كل مغرور ومفتون وأحمق طبيعة العدالة الغربية، انظر للشرطة الألمانية التي أطلقت النار علي زوج الضحية النار ظناً منها أن العربي أو الآخر هو المجرم والإرهابي،ثم انظر كيف اقتحمت بيت الشهيدة فيما نحتسبها عند الله ، وهي تبحث عن أدلة تبرر للقاتل المتطرف العنصري جريمته، وما يدل علي أن الضحية كانت منتمية لتنظيم إرهابي، وقد أخذت الشرطة الألمانية مصحف الفقيدة التي كانت تعتاد القراءة فيه ليكون دليلاً علي إرهابها، وانظر للتعاطي الإعلامي الألماني والغربي مع القضية حيث لم يهتم بها أحد إلا بعد ثورة أهل مصر واحتجاجهم في ألمانيا وغيرها من الدول الغربية علي هذه الجريمة، بالجملة الشواهد كثيرة علي العقلية العنصرية العدوانية التي تحكم حياة الغرب حتى الأن في التعامل مع الآخر، الذي قال عنه الأديب الإنجليزي الشهير [ إدوار ألبي ] : أن الآخر هو الجحيم !
الآخر في العالم الإسلامي
أما في عالمنا الإسلامي فليس ثمة وجود لمصطلح الآخر أساساً، ولا يوجد في أدبياتنا ولا موروثاتنا الثقافية ما يدل علي وجوده، والتراث الإسلامي بأسره يخلو تماماً من كلمة الآخر، لفظاً ومعنىً، ذلك إذا ما استثنينا فكرة العصبية القبلية التي كانت تسيطر علي عقلية العربي قبل الإسلام، والتي حاربها الإسلام بقوة، ولكن بقيت آثارها تحت الركام تثور من حين لآخر، وهي لا تختص بغير المسلمين فقط بل هي تعصف في الأساس بالمجتمع المسلم في المقام الأول، لأن التناحر فيه بموجب القومية والقبلية وليس بموجب الدين أو اللون أو اللسان .
في عالمنا الإسلامي ليس ثمة مكان لمصطلح الآخر في حياتنا الاجتماعية والثقافية، بل هناك مصطلحات ضبطتها الشريعة الإسلامية التي نظمت العلاقات بين المسلمين وغيرهم، وهي مصطلحات تجسد بكل جلاء هذه العلاقة وأيضا العدالة والنزاهة الإسلامية، مثل مصطلح أهل الذمة، أهل الكتاب، المخالفون، أهل الأهواء، وكلها مصطلحات لا تتناول قومية ولا عرقية ولا لون ولا لسان، بل هي مصطلحات تشير لمن خالف المسلمين في العقيدة داخل المجتمعات الإسلامية، والتي رتب لهم الشارع الحكيم الحقوق والواجبات التي تتماشي مع وضعيتهم كأقلية محترمة داخل المجتمعات المسلمة، بل عظمت الشريعة من حقوق هذه الأقليات والأدلة علي ذلك أكثر من أن تذكر في هذا المقام، ومكانها كتب الفقه والشريعة.
وفي ظل هذه العقلية الإسلامية المستقاة من الشريعة المطهرة نعم أهل الذمة أو أهل الكتاب أو الآخر بالكثير من الحقوق والمزايا والنعم التي لا يتحصل علي عشر معشارها المسلمون الأن في المجتمعات الغربية، ونالوا ما لم ينالوه عندما كان بعضهم يحكم بعض، مثلما حدث مع يهود الأندلس بعد سقوطها، وما حدث مع أهل القسطنطينية بعد فتحها علي يد محمد الفاتح، والآخر في ظل المجتمعات الإسلامية ينال من الحقوق والمزايا ما دفعه للأشر والبطر والطغيان، حتى أننا نستطيع أن نقول بكل أمانة وحيادية أن الأقليات غير المسلمة داخل المجتمعات الإسلامية، قد تكون في بعض الأحيان أسعد حظاً من مسلمي هذه البلاد .
وخلاصة القول أن قضية الآخر ما هي إلا قضية غربية الصناعة والأصل أريد بها تبرير العدوان علي العالم الإسلامي، وهضم حقوق الأقليات المسلمة المنتشرة في جميع أنحاء العالم والتي تتعايش داخل مجتمعاتها بكل فاعلية ونشاط مما أثر بشدة في انتشار الإسلام في العرب، تعالت معه الصيحات المنادية بوجوب طرد المسلمين من الغرب حتى لا يعم الإسلام أرجاء المعمورة، ولكن الذي لا يعلمه هؤلاء المتعصبون الحاقدون أن دين الله غالب وسيدخل كل بيت من وبر ومن مدر بعز عزيز أو بذل ذليل، ولا يبوء المتطرفون العنصريون إلا بالخسران المبين.