جاءت حادثة مقتل الطبيبة المصرية مروة الشربيني في قاعة إحدى المحاكم الألمانية علي يد متطرف ألماني بسبب ارتدائها للحجاب، بصورة بشعة، إذ طعنها 18 طعنة متتالية بسكين حاد تحت سمع وبصر كل الحاضرين وفي حراسة الشرطة الألمانية التي لم تتدخل إلا لرمي زوج الفقيدة بالرصاص، جاءت هذه الحادثة المأساوية المروعة، لتثير قضية مصيرية وبالغة الحساسية، ألا وهي قضية الآخر ومدي انسجامه مع المجتمعات التي يعيش فيها، ومدي قدرة هذه المجتمعات في التعاطي مع وجود شريحة من شرائحه مختلفة عنه قومياً وعرقياً ودينياً واجتماعياً، والنظرة الغربية للآخر، وكذلك النظرة الإسلامية للآخر، وذلك من خلال دراسة متأنية بخصوص هذه القضية الخطيرة التي تهم العالم الإسلامي الذي طالما تعرض لحملات دعائية شرسة من جانب الغرب تتهمه باضطهاد الأقليات، واغتيال حقوق الآخر، ومصادرة حاجاته الطبيعية، وهكذا مما أصبح تهمة ثابتة يطارد بها العالم الإسلامي منذ عهود، وتستل بها التنازلات المهينة والتراجعات المخزية من قبل العالم الإسلامي، في حين أن التاريخ والحاضر والواقع المشاهد والذي كان آخره ما جري للطبيبة المصرية بألمانيا، يدل بقوة علي أن فكرة اضطهاد الآخر ما هي إلا صناعة غربية، وموروث ثقافي راسخ في الأدبيات الغربية منذ مئات السنين .
الآخر والعالم الغربي
بداية لابد من التنبيه علي مسألة مهمة في قضية الآخر ألا وهي أن مصطلح الآخر هذا مصطلح غربي الأصل والصناعة والخلفية، لا علاقة للمجتمعات و الثقافة الإسلامية به ألا في الأونة الأخيرة التي تسربت خلالها العديد من المصطلحات الغربية ذات المدلولات الثقافية الغربية، والتي كان دخولها للثقافة والحياة الإسلامية يمثل إجحافاً بحق ثقافتنا وتراثنا الحضاري العظيم والكبير، ولولا الضعف والإهتراء الثقافي الذي عليه حال الأمة الأن، ما كان لأمثال هذه المصطلحات أن تدخل حياتنا الثقافية أبداً .
مصطلح الآخر مصطلح ولد بالغرب، وكان يسبق ظهوره مصطلح آخر هو الذي مهد السبيل لظهوره، وهو مصطلح " الأنا " ويعبر عن الغرب نفسه، وكان الغرب يري نفسه" الأنا" الذي هو مجمع الفضائل، ومركز الكون، وأصل الحضارة، أما بقية العالم فهو الآخر العاري من كل فضل وخير، فمصطلح الآخر ما هو إلا عنواناً للإستعلاء الغربي تجاه الآخرين، فالأنا الغربية هي نقطة البداية وزاوية الرؤية لفهم علاقة الغرب وتقييمه للآخر، وأدبيات الثقافة الغربية طافحة بما يدل علي استعلاء الغرب علي الآخر واحتقاره والحط من شأنه في كل المجالات، وأصبحت العلاقة بين الأنا و الآخر هي علاقة بين السيد والعبد، والخّير والشرير، والشريف والوضيع، والعالم والجاهل، والمتحضر والبربري الهمجي، فأرسطو مثلاً يري أن الآخر هو الغريب، وغيره من الفلاسفة والأدباء فيرون الآخر هو الشخص غير الطبيعي، أو العدو أو الشيطان أو البرابرة أو الخطر المميت، أو الشرير أو الأجنبي محل الريبة، وأخيراً الآخر هو الإرهابي الخطير الذي يجب محوه بالكلية من الوجود .
هذه التصورات العنصرية الاستعلائية هي التي دفعت الكاتب الشهير مونتسكو للسخرية من خلقة الزنوج حتى قال [ حاشا الله ذي الحكمة البالغة أن يكزن قد أودع روحاً أو علي الأخص روحا طيبة في جسد حالك السواد ]، وقال كاتب آخر هو رينان [ جنس واحد يلد السادة والأبطال وهو الجنس الأوروبي، فإذا نزلت بهذا الجنس لمستوي الحظائر التي يعمل بها الزنوج والصينيون، فإنه يثور ويغضب ] والنازيون الألمان يرون أنفسهم أصحاب الجنس الأرقى وغيرهم من الأجناس هم العبيد، ومن أجل ذلك شن هتلر حرباً عالمية راح ضحيتها الملايين،بحثاً عن سيادة العالم وتفوق الجنس الآري، وقد حاول فلاسفة الغرب المعاصرون تغليف استكبارهم واستعلائهم علي الآخر وعنصريتهم المقيتة بغلاف التفوق العلمي والبحث الإكاديمي، فبلومباخ الأوروبي مثلاً قد أسس نظريته الشهيرة في التفوق العلمي علي أساس أن ثمة توافق بين العبقرية وبين طبيعة العقل الأوروبي، وعلي منواله نسج من جاء بعده في البحث عن مسوغات علمية لتبرير التفوق والسيادة علي الآخر، وتكريس الأنا، ومن خلال هذه النظرة الاستعلائية تشكلت العقلية الغربية وطريقة التفكير والتعامل مع الآخر، من خلالها أباد الغرب الهنود الحمر، وشنت الحرب الصليبية علي العالم الإسلامي في القرون الوسطي، وأقيمت محاكم التفتيش المروعة بحق مسلمي الأندلس بعد سقوطها، وأبيدت شعوباً بأكملها في أفريقيا وأسيا واستراليا ليس لها أي ذنب سوي أنها صنفت في خانة الآخر الذي ليس له أدني حق في الحياة، حتى الشيطان الهالك مناحم بيجن يدلي بتصريح في الكنيست بعد مجازر صبرا وشاتيلا يصف فيه الفلسطينيين الذين ذبحوا في المجزرة بأنهم حيوانات تمشي علي رجلين ولا يستحقون الحياة .