قبل أسابيع قليلة من المؤتمر السادس لحركة فتح الذي كان يسعى عباس لإقامته في بيت لحم تحت حراسة جيش الاحتلال، كشف فاروق القدومي أحد القيادات التاريخية للحركة وأمين سرها ورئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، عن مفاجأة من العيار الثقيل عندما اتهم عباس ودحلان بالتآمر مع رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق أرييل شارون على قتل عرفات بالسم وقتل عدد من رموز المقاومة الفلسطينية مثل عبد العزيز الرنتيسي القيادي بحركة حماس، وأكد القدومي أن عرفات سلّمه نسخة من محضر اجتماع جمع محمود عباس ومحمد دحلان وشارون، ووزير حربه حينئذ شاؤول موفاز بحضور وفد أمريكي يضم عددا من ضباط المخابرات برئاسة وليم بيرنز في مارس 2004، للاتفاق على خيوط المؤامرة ـ وكان عرفات يتعرض في ذلك الوقت لضغوط أمريكية وصهيونية شديدة بشأن تقديم المزيد من التنازلات بشأن الأراضي والقدس وعودة اللاجئين ـ وأشار القدومي إلى أنه طلب من عرفات سرعة الخروج من الاراضي المحتلة إلا أنه أصرّ على البقاء والمواجهة.
دلائل الاتهامات:
القدومي لم يكتف بالكشف عن محضر الاجتماع الذي قال أنه تسلم نسخة منه من عرفات ولكنه أوضح أن ما حدث بعد ذلك وموت عرفات بهذه الطريقة الغامضة ورفض عباس تشريح الجثة وإجراء تحقيق في ملابسات موته زاد من تأكيد صحة ما ذهب إليه، كما لفت القدومي إلى ممارسات عباس خلال الفترة الماضية من اعتقال عناصر المقاومة والتعاون مع الاحتلال لتصفيتها وتحجيم كتائب الأقصى التابعة لحركة فتح وتجاهله للجنة المركزية للحركة والمجلس الثوري واتخاذ القرارات بمعزل عن مؤسساتها. وإذا كانت اتهامات القدومي قد كانت مفاجئة للبعض لبشاعتها إلا أن البعض الآخر رآها منسجمة مع الفكر الذي يتبناه عباس ودحلان وبعض القيادات الفتحاوية التي ارتمت في أحضان الاحتلال من أجل المحافظة على كراسيها ومصالحها الشخصية وهو ما أشارت إليه حركة حماس عند خلافها مع هذه الفئة في غزة ولعل تصريحات القدومي تؤكد براءة حركة حماس من افتعال الخلاف مع العناصر الاستئصالية التابعة لفتح في غزة والتخطيط للانقلاب على السلطة.
ارتباك في صفوف عباس
وقعت تصريحات القدومي كالصاعقة على رأس عباس ومعاونيه ولم يجدوا حلا سوى أن يصبوا جام غضبهم على قناة الجزيرة التي نقلت تصريحات القدومي وقاموا بتعليق عملها في الضفة ومقاضاتها بينما اكتفوا ببيانات نمطية لتكذيب ما جاء في تصريحات القدومي بشكل عام دون إعطاء براهين محددة على نفي وجود مثل هذه الوثيقة ومطالبته بإخراجها، وقد توعد عباس بمحاسبة القدومي على كافة المستويات التنظيمية، وأشار عباس إلى أن الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة كفيلة بإنهاء الانقسام الفلسطيني، على حد قوله.
ردود أفعال الفصائل الفلسطينية
تباينت ردود فعل الفصائل الفلسطينية حيال اتهامات فاروق القدومي لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس فمن جهتها، دعت حركة حماس على لسان القيادي الدكتور إسماعيل رضوان إلى فتح تحقيقٍ جديٍّ وحقيقيٍّ في حادثة وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات حتى "يتبين الشعب الفلسطيني من حقيقة وفاته التي غيَّبها البعض". وطالب رضوان بـ"ضرورة إعلان نتائج هذا التحقيق للتعرف على دوافع القتلة الذين ساهموا في اغتيال أبو عمار". كما طالب بـ"محاكمة وطنية وعلنية لكل المدانين في جرائم ضد المقاومة الفلسطينية وإدلاء معلومات عن قادتها وتوجيه العدو الصهيوني لأماكنهم". وكانت "حماس"، قد انتقدت باستمرار تغطية أركان سلطة رام الله لجريمة اغتيال عرفات وتبنت مرارًا مبادرات لفتح تحقيقٍ في هذه الجريمة السياسية دون أدنى تجاوب من أركان حركة "فتح". أما حركة "الجهاد" فقد طالب خضر حبيب القيادي في الحركة بفتح ملف لإنهاء التحقيقات حول "اغتيال" الرئيس الراحل عرفات، معتبرًا أن الملفات مفتوحة ويجب أن تُغلق بتحقيقٍ جديٍّ ووطنيٍّ وحقيقيٍّ، وأضاف حبيب: "يجب أن تُغلق هذه الملفات بعد انتهاء التحقيق فيها وتحميل المتورطين المسؤولية ومحاسبتهم أمام الشعب الفلسطيني كي نرتاح" مشددًا على أن المحاسبة مطلوبة لكل من تورط في استهداف أبو عمار واستهداف فصائل المقاومة وقادتها. بينما رفضت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التعليق على الاتهامات وفضلت التريث قبل إطلاق أي مواقف. وأكد أمين سر تحالف فصائل المقاومة خالد عبد المجيد أن الفصائل لا تريد الدخول في سجالات بانتظار أن تتضح الصورة في فتح بعد المؤتمر العام للحركة، لكنه شدد على أن ما يجري داخل فتح ليس شأنا داخليا بل هو شان وطني في ظل الاتهامات المتبادلة بين القدومي وقيادة الحركة في رام الله. وفي المقابل قال عضو المكتب السياسي في الجبهة الديمقراطية معتصم حمادة: إنه كان من الأفضل تقديم الاتهامات عبر الأجهزة التنظيمية لحركة فتح.
التآمر الثوري
تضعنا اتهامات القدومي أمام ظاهرة ينبغي الالتفات إليها وتمحيصها وهي مدى مصداقية الكثير من الحركات الثورية التي ظهرت في عالمنا العربي خلال القرن الماضي والتي التف حولها الكثيرون لرفعها راية محاربة الاحتلال الذي كان يجثم على العديد من البلدان في هذا الوقت، لقد كانت هذه الحركات تنطلق من أيديولوجيات علمانية وأغلبها كان يساري النزعة بما فيها حركة فتح، وقد شهدت العديد من هذه الحركات تنازعا محموما على القيادة ومؤامرات داخلية عنيفة أسفرت عن اغتيالات وتحالفات مع الأعداء، كما أن العديد منها تحاف مع الإسلاميين لثقة الشعوب فيهم وعندما لاح النصر في الأفق انقلبوا عليهم وأداروا لهم ظهر المجن .
إن طبيعة هذه الحركات وطريقة اختيار عناصرها وتصعيدهم إلى مراكز القيادة أدى إلى كوارث كبيرة عانت منها الشعوب العربية لوقت طويل، ولعل ما يحدث في فتح ومنها خلال الفترة الماضية ليؤكد تماما هذه الحقيقة.
1784