إذا كان التاريخ قد انتقل مع رايات المجاهدين والفاتحين إلى ساحات المعارك ليدون تفاصيل الفتح ويسجل بحروف من نور العزة انتصار الحق وهزيمة الباطل، إلا إنه أيضًا لم ينس في فرحته وغبطته بنصرة الحق والدين، لم ينس أن يسجل فتوحات وإنجازات وانتصارات من نوع آخر، وهي فتوحات الدعاة المخلصين الذين جابوا الصحارى وقطعوا المفاوز وخاضوا لجة البحر وتغربوا وتشرقوا عشرات السنين في الدعوة والهداية والإرشاد، وإن كانت شهرة فتوحات المجاهدين قد غطت على فتوحات الدعاة، فلم يعد يعرف كثير من أبناء المسلمين شيئًا عن النصر والفتح إلا للمجاهدين، إلا إن ذلك لا يستطيع أبدًا أن ينفي الحقيقة الكلية الثابتة أن معظم من أسلم على وجه الأرض، أسلم على يد الدعاة وليس المجاهدين.
وبين أيدينا الآن قصة إسلام أمة بأسرها، هداها الله عز وجل وشرفها بالدين الحق على يد رجل واحد من الدعاة المخلصين الذين طواهم النسيان فلم يعد أحد يعرفهم أو يروي سيرتهم، وأي جريمة وخيانة ترتكب بحق هؤلاء العظماء أن تنسى إنجازاتهم وفتوحاتهم وتهمل بحيث ينسب الفضل لغيرهم أو حتى يطوي ذكرهم.
والأمة التي نتحدث عنها هي شعب أندونيسيا وتحديدًا جزيرة جاوة وسومطرة، والداعية الذي سننشر ذكره بين الناس هو هداية الله سونن جاتي والذي أسلم على يديه معظم أهل جاوة وسومطرة.
أندونيسيا والإسلام:
لا يعرف على وجه التعيين تاريخ دخول الإسلام إلى أندونيسيا ولكن من المؤكد أن نور الإسلام قد شع مبكرًا على سواحل هذه الجزائر العظيمة مع أفواج التجار المسلمين الذين كانت قوافلهم تمخر المحيطات والبحار، لا للتجارة وحدها بل للدعوة أيضًا، وقد رد ذكر جزيرة أندونيسيا في المراجع والمصادر العربية القديمة، فلقد أسماها المؤرخ المسعودي صاحب كتاب «مروج الذهب» بجزر المهراج، وغيره من المؤرخين المسلمين فيسمونها بأسماء جزرها: سومطرة وجاوة والملايو وهكذا، وبعض المؤرخين يطلق على سومطرة جاوة الكبرى، وجاوة اسم جاوة الصغرى.
وكان التجار المسلمون من جزيرة العرب ومن حضرموت وعمان تحديدًا هم أول من وصل إلى تلك الجزر النائية وذلك في أواخر القرن الهجري الثاني وأوائل الثالث، وقد أنشأوا لهم مراكز تجارية على سواحل سومطرة والتي كان يسمونها سمدرة، ثم تلا العرب الهنود من إقليم الكجرات أو جوجرة كما يسميها المؤرخ المسعودي، وكانت منطقة آتشية ـ التي تطالب بالانفصال الآن عن أندونيسيا ـ في شمال سومطرة هي أول البقاع التي دخلها الإسلام على يد داعية عربي اسمه عبد الله عارف.
ظل الإسلام لفترة طويلة مقصورًا على سواحل أندونيسا في سومطرة حتى أقام المسلمون هناك أولى ممالكهم الإسلامية وهي مملكة برلاك وهي التي زارها الرحالة المغربي ابن بطوطة سنة 1345م ـ 746هـ، كما زارها الرحالة الإيطالي ماركوبولو سنة 692هـ، بعد ذلك أخذ الإسلام ينتشر في جزر أندونيسا وقد لاقى مقاومة شديدة من الوثنيين؛ ذلك لأن الهندوكية كانت راسخة في تلك البلاد ولها العديد من الممالك القوية.
أما جزيرة جاوة من شبه جزيرة ملقا فلقد فتحها الله عز وجل على يد العديد من الدعاة المخلصين على رأسهم هداية الله سونن جاتي الذي سنتحدث عنه، وللإسلام في جاوة تاريخ طويل لأن صراع الدعاة المسلمين مع الهندوكية كان عنيفًا، وقد قامت في جاوة قبل دخول أهلها في الإسلام العديد من الممالك الوثنية من أكبرها وأخطرها إمبراطورية ماجا فاهيت والتي بلغت من القوة أن حكمت أندونيسا كلها إضافة إلى الفلبين وشبه جزيرة الملايو، ولكن مع انتشار الإسلام زالت هذه الإمارات والممالك كلها وبقيت دولة الإسلام هناك وحدها تواجه القوى الاستعمارية العالمية المتتالية التي تصارعت على هذه البلاد الغنية لعدة قرون.