ثالثاً: نمو القوة الإيرانية واستمرار تحدِّيها للدول الغربية: من الصعب فصل انتصار المقاومة في غزة عن دعم إيران المادي والعسكري؛ حيث حققت إيران قفزات علمية وتقنية هائلة وخاصة في المجال العسكري، وهي ما زالت مصممة على شق طريقها نحو الاستقلال عن الغرب، وتطوير إرادة سياسية وأمنية خاصة بالمنطقة. ويزداد الاحتمال بأن إيران قد فلتت من العقال، وبات المجال مفتوحاً أمامها لمزيد من التطور، مما سينعكس إيجاباً على تيار المقاومة. مع ملاحظة الحذر الشديد من الوقوع في فخّ النزاعات المذهبية والطائفية التي قد تضر بالمقاومة وبإيران، إذا ما جرى توظيفها وتأجيجها بشكل سلبي. وعلى إيران في هذه الحالة أن تفرق بين دعم المقاومة وبين نشر "التشيع" في البيئة السنية ذات الحساسية الشديدة من هذا الأمر.
رابعاً: سيعزز ما سبق موقف المقاومة الفلسطينية في الخارج. و قد تحظى فصائل المقاومة هناك بمزيد من الرعاية المالية والدعم التدريبي والتسليحي. ولعله إذا نشبت أي حرب خارجية محتملة، أن تشارك هذه الفصائل بقوة في مواجهة "إسرائيل".
خامساً: محور عربي يمكن أن يتوسع: بقيت سوريا لفترة من الزمن الدولة العربية التي يدعي البعض أنها الدولة "الشاذة" التي لا تلتزم بما يسمى "الإجماع العربي". الآن سوريا ليست لوحدها، وكان ذلك واضحاً في مؤتمر الدوحة الذي عُقد عقب توقف الحرب على غزة في مطلع العام 2009، إذ حضره نحو ثلثي بلدان العالم العربي. هناك من بين الأنظمة العربية الآن من يمكن أن يدفع باتجاه دعم المقاومة، أو "كف شر الأنظمة" عنها، وكلما أثبتت المقاومة نفسها من المحتمل أن يزداد عدد هذه الدول.
سادساً: فشل مسار التسوية ووصول المفاوضات إلى طريق مسدودة، ولا يلوح في الأفق أن ما يمكن أن يقدمه الإسرائيليون يصل إلى الحد الأدنى الذي يمكن أن يقبل به حتى "المعتدلون" الفلسطينيون. إن هذا الفشل يعزز الميل لخيار المقاومة كأداة فاعلة تجبر الإسرائيليين على الاستجابة للمطالب الفلسطينية.
تفاعل عوامل الكبح والصعود:
هناك تنافر بين عوامل الكبح والصعود، وليس من المتوقع أن تلغي عواملٌ أضدادها تماماً، في هذه المرحلة الراهنة، فالتأثير المتبادل سيبقى قائماً، وفي النهاية فمن المتوقع أن تصب المحصلة لصالح المقاومة. وتتجلى هذه النتيجة من خلال المؤشرات التالية:
أولاً: "إسرائيل" لم تعد قادرةٌ عسكرياً واستخبارياً على القيام بما كانت تقوم به في السابق. فتعرضت للفشل في حرب تموز 2006 ضد حزب الله، وخاضت حرباً عمياء ضد خاصرة صغيرة المساحة في القطاع، ولم يكن لديها المعلومات الكافية عن عدوِّها، وفشلت في تحقيق أي من أهدافها الحقيقية؛ ووجدت نفسها أمام مأزق عسكري جدّي، فتوقفت واكتفت بادعاءات عن انتصارات. هذا بالإضافة إلى ترهل "المجتمع" الإسرائيلي، وضعف نوعية المقاتل الصهيوني، وتزايد الثغرات في بنية الجيش.
ثانياً: فشلت أمريكا في بناء شرق أوسط جديد وفق معاييرها، وفشل بوش وإدارته فيما يسمى الحرب على "الإرهاب"، بالإضافة إلى تورطها في العراق وأفغانستان. وتجد الإدارة الأمريكية نفسها تغرق في أتون الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، كما تقف عاجزة عن القيام بأي عمل حاسم في مواجهة إيران، أو إحداث تغييرات قسريه في المنطقة.
ثالثاً: صمدت المقاومة الفلسطينية في وجه حملات إسرائيلية ضخمة وتواطؤ عربي وداخلي فلسطيني، فهل من الممكن أن تتراجع تحت ذات الضغط مستقبلاً؟ إذا كانت المقاومة قد صمدت تحت ضغط بمقدار معين، فإن هذا الضغط سيضعف نسبياً في حال ازدادت قوة المقاومة، وبالتالي فإن المقاومة ستزداد قوة على الرغم من استمرار الحصار المشدد.
رابعاً: تأثرت شعبية السلطة الفلسطينية في رام الله سلباً بسبب أدائها الضعيف والباهت في أثناء الحرب على غزة، واكتسبت المقاومة احتراماً متزايداً سواء على المستوى الفلسطيني أو العربي أو العالمي.
خامساً: حركة الوعي العربي الإسلامي في تصاعد، وهي حركة مع التاريخ وليست ضد التاريخ، وهي تتغذى على اللاوعي، أو هزال الإرادة التي أدت إلى الاتفاقيات مع "إسرائيل".
الوضع الحالي للمقاومة:
بصورة عامة، لا نستطيع التحدث عن مقاومة فلسطينية نشطة في السنوات الأربع الماضية، حيث إن العمليات قد انخفضت بشكل حاد. تراجعت العمليات في الضفة الغربية وانطلاقاً من القطاع، ولم نعد نرى العمليات الاستشهادية التي أربكت الاحتلال. يعود هذا إلى عدة أسباب أهمها بناء الجدار وتفعيل سياسة الاغتيالات والاعتقالات التي ينفذها الاحتلال، واشتراك السلطة الفلسطينية في ملاحقة المقاومين.
تعزيز نقطة الارتكاز:
حققت المقاومة في الحرب الأخيرة على غزة إنجازاً كبيراً في تثبيت نقطة ارتكاز على الأرض الفلسطينية، ومن المتوقع أن تبذل جهوداً كبيرةً لتعزيز هذه النقطة استعداداً لأعمال حربية مستقبلية من قبل "إسرائيل"، وهي بالتأكيد ستعمل على تطوير أساليبها ووسائلها في نقل السلاح.
نقطة الارتكاز هذه تتعرض الآن لهجمة تشديد الحصار من قبل "إسرائيل" وأمريكا وبعض الأنظمة العربية. تريد هذه الدول كسر ظهر المقاومة من خلال تجريدها من عناصر قوتها بما في ذلك لقمة الخبز، وتأليب الشارع الغزي ضدها. وإذا كانت المقاومة قد صمدت قبل الحرب على غزة، فإنها على الأرجح ستصمد بعد أن أفشلت الهجمة الإسرائيلية عليها.
المقاومة في الضفة الغربية:
وضع المقاومة في الضفة الغربية صعبٌ جداً، وأجهزة أمن السلطة تقوم بجهود متواصلة، تحت إمرة دايتون، لملاحقة المقاومين. لكن المقاومة تعمل بهدوء، ويبدو أنها قد تعلمت دروساً مهمةً في العمل النشط الهادئ متجاوزة التراث الفصائلي السابق في العمل الاستعراضي والتنظيم المكشوف، مما يرجح إمكانية اتباعها أسلوباً جديداً في الضفة الغربية أكثر تنظيماً وكفاءة وتأثيراً. وهذا ما يفسر ارتفاع حدّة الملاحقة الإسرائيلية للمقاومة عبر العديد من الإجراءات، مثل ارتفاع أعداد الحواجز، وازدياد وتيرة الاعتقال الإداري. وواضح أن "إسرائيل" لا تتصرف وفق الوتيرة اليومية لأعمال المقاومة، وإنما وفق تقديرها لأساليب المقاومة في الإعداد والاستعداد والخطورة المستقبلية الكامنة.
لقد حرَّضت الحرب الأخيرة على غزة بنتائجها عناصر كثيرة في الضفة الغربية، من المحتمل أن تفرز ردود أفعال جديدة، سواء على المستوى الشعبي أم على مستوى العمل المقاوم.
خلاصة:
الوضع العربي المقاوم مختلف الآن، وهو وضع يقض مضاجع كل مناوئيه. المقاومة الفلسطينية فلتت من عقالها، وكذلك القوة الإيرانية. قد تُصاب المقاومة بانتكاسات، لكن مؤشرات بناء القوة تتجه إلى أعلى بصورة عامة. "إسرائيل" تزداد ضعفاً على المستويين الداخلي والخارجي مما يؤثر سلباً على كفاءة قدرتها العسكرية. المنطقة العربية الإسلامية دخلت في مرحلة جديدة من الثأر للذات، ولهذا سيكون المستقبل للمقاومة، وستضطر الدول الغربية في النهاية أن تتعامل مع واقع جديد