مقدمة:
تدعو تطورات الأوضاع في فلسطين والمنطقة عموماً إلى التساؤل حول مستقبل المقاومة الفلسطينية: هل ستستمر هذه المقاومة أم لا؟ هل ستكون ذات زخم وديمومة فيما إذا استمرت؟ أم أن القوى المعيقة ستجعل من المقاومة مجرد تمنيات؟
جزء لا بأس به من الشعب الفلسطيني قد ألقى السلاح، وجزء من هذا الجزء يقف ضد من يحمل السلاح ويقوم باعتقاله؛ دول عربية عدّة تقف ضد المقاومة وتقول إنها عبثية وتشارك في الحصار المضروب عليها؛ ودول أخرى تراقبها وتقدم الأموال لمن يعمل على الوقوف بوجهها. هذا ناهيك عن الحرب المدمرة التي شنها الكيان الصهيوني على غزة. فهل ستصمد هذه المقاومة وسيكون لها مستقبل؟
المقاومة في الداخل، وفي الخارج:
تنقسم المقاومة الفلسطينية إلى جزأين: الأول في الداخل، يتمثل بفصائل وقوى فاعلة مثل حماس والجهاد ولجان المقاومة الشعبية؛ وقوى شبه فاعلة مثل سرايا جهاد جبريل وكتائب أبو علي مصطفى. والثاني في الخارج، مثل: قوات الجبهة الشعبية-القيادة العامة وفتح الانتفاضة، وقوات بعض التنظيمات الفلسطينية في مخيمات لبنان.
مقاومة الداخل، هي التي تصنع الحدث الآن، وهي الموجودة في أتون المعركة، وهي التي تشكل قاعدة الثبات والاستمرار في هذه المرحلة. وهي دائما في مواجهة مع العدو الصهيوني والخصم الداخلي.
أما مقاومة الخارج، وعلى الرغم من استعدادها القتالي المتواصل، فما زالت حبيسة توازنات داخلية عربية، واعتبارات دولية ذات علاقة مباشرة بالحكومة اللبنانية والصراع بين سوريا والصهاينة. وهي تتلقى ضربات تحذيرية بين الحين والآخر. وفي كل الأحيان، لا يغيب عن الذهن أن الخارج عبارة عن امتداد للداخل والعكس صحيح.
عوامل كبح المقاومة:
تعاني المقاومة الفلسطينية من العديد من الهموم والمشاكل والمعوقات التي تعمل ضدها وتؤدي إلى إضعافها وإصابتها بنوع من الضيق والإحباط أحياناً، وفيما يلي بعض أهم هذه العوامل:
أولاً: التصدي الصهيوني المستمر: تملك "إسرائيل" آلة عسكرية ضخمة ومدمرة، تتصف بمستوى تقني متطور ومعقد، وهي قادرة على إلحاق ضربات قاسية ومستمرة على مختلف الأوجه بالمقاومة الفلسطينية. هذا ليس عنصراً جديداً أو مستحدثاً، إنما هو قائم منذ أن قامت "إسرائيل"، أو بالأحرى منذ عهد الحركة الصهيونية في ظل الانتداب البريطاني. وتبعاً للمواجهة، تأرجحت المقاومة الفلسطينية بين الصعود والهبوط، لكن المتتبع لمنحنى المقاومة الفلسطينية يجد أن المقاومة قد تحسن أداؤها مع الزمن، وتطورت قدرتها على الصمود.
ثانياً: التحدي الفلسطيني الداخلي: شكل إعلان رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات نبذ الإرهاب سنة 1985 في القاهرة نقطة تحول فلسطينية، ازداد تأثيرها بعد قرارات المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر عام 1988، وتفاقم بعد اتفاق أوسلو وما تبعه من اتفاقيات. وقد نصت الاتفاقيات على التزامٍ فلسطيني تجاه الأمن الإسرائيلي، وأصبح لزاماً على الفلسطيني أن يعتقل الفلسطيني دفاعاً عن أمن الكيان. ومن أجل استمرار الفلسطينيين بالقيام بهذا العمل، تم ربط رواتب الموظفين لدى السلطة الفلسطينية بمدى إخلاصها في تطبيق الاتفاقيات مع "إسرائيل"، لدرجة أن الشعب الفلسطيني أصبح رهينة هذا الأمر.
هذا التحدي خطيرٌ جداً، لأنه يعمل من الداخل، ويمثل جيشاً من الفلسطينيين يتولى مهمة جمع المعلومات وملاحقة كل من يُشك بنواياه لمقاومة الاحتلال. وهذا عنصر يضعف المقاومة بدرجةٍ كبيرةٍ جداً، ويضع عليها تحديات تنظيمية وتسليحية وتمويلية وأمنية كبيرة جداً تعرقل من كفاءتها في العمل وتطوير أساليبها في المواجهة.
ثالثاً: مقاومة الأنظمة العربية وحصارها: هناك عددٌ من الأنظمة العربية تعمل وفق متطلبات اتفاق أوسلو وتبعاته. وهي تفضل الاعتراف بـ"إسرائيل" وتطبيع العلاقات معها، والاستمرار في التضييق على المقاومة إلى أن وصل الحد لدرجة المشاركة في الحصار. وقد وقفت بعض هذه الأنظمة ضد المقاومة الفلسطينية في هجوم "إسرائيل" على غزة 2008/2009، وهي تشارك في مراقبة ومنع تهريب الأسلحة إلى القطاع.
العديد من تلك الأنظمة تتعاون مع الدول الغربية في الحصار المالي المضروب على غزة ومؤيدي فصائل المقاومة. وحوالي 53% من أموال الدول المانحة التي تقرر صرف رواتب موظفي السلطة تأتي من دول عربية. وواضح أن هذه الدول هي التي تضغط على الفلسطينيين من أجل الاعتراف بـ"إسرائيل" والالتزام بالاتفاقيات التي عقدتها منظمة التحرير معها.
رابعاً: العامل الدولي: المتمثل في مناهضة قوى عالمية كبرى، مثل أمريكا وأوروبا، للمقاومة الفلسطينية. وهي محتشدة بقوة للدفاع عن الكيان الإسرائيلي، وخنق المقاومة، والتضييق عليها سياسياً وإعلامياً وعسكرياً وأمنياً، مما يجعل المراقب يدرك بأن المقاومة بحجمها الصغير أمام اختبارات صعبة وقاسية.
خامساً: ثقافة بعض النخب الفلسطينية: تأثر جزء لا بأس به من نخب الشعب الفلسطيني، بخاصة في الضفة والقطاع، بالجو العام المترافق مع اتفاقيات التسوية، بحيث أصبحت تدعو إلى الاعتراف بـ"إسرائيل" ووقف المقاومة، من أجل إعطاء الفرصة لإقامة الدولة الفلسطينية بالوسائل السلمية. هناك ثقافة تبلورت في الداخل الفلسطيني لدى البعض، أهم معالمها كراهية الآخر الفلسطيني والقبول بالآخر الصهيوني، وهذا ما يجعل من التعاون مع العدو بالنسبة لهم أمراً مبرراً، ويفسر الهجوم على المقاومة بأنه خدمة وطنية.
عوامل صعود المقاومة:
مثلما هناك عوامل كبح، هناك عوامل عديدة تساعد المقاومة على النهوض والصعود والاستمرار، ومن أهمها:
أولاً: الإرادة والتصميم: هناك على الساحة الفلسطينية من يعرِّف السياسة بأنها الإصرار على الممكن. نسبة عالية من الفلسطينيين ترفض الاتفاقيات المبرمة مع العدو الصهيوني وتصر على استمرار المقاومة، على الرغم من التضحيات. هذه فئة تتمتع بعقيدة إيمانية راسخة وبإيمان صلب بما تصنع، وإرادة على المواصلة. وإذا نظرنا إلى الحروب تاريخياً، نجد أن الجندي المؤمن بقضيته هو الذي يحسم المعارك.
ثانياً: العمق الشعبي العربي والإسلامي: تتمتع المقاومة الفلسطينية بتأييد شعبي كبير على المستوى العربي والإسلامي، يشكل دافعاً قوياً لاستمرار المقاومة، وعمقاً معنوياً إنسانياً ومادياً واقتصادياً، ويمكن أن يكون قوة ضغط على الأنظمة بعض الشيء. وواضح أن هذا العمق آخذ بالتجذر والنضوج تدريجياً، حيث عبّر عن نفسه في الحرب الأخيرة على غزة من خلال المظاهرات والاحتجاجات والحملات الإعلامية وجمع التبرعات وأحياناً مواجهة أجهزة الأمن.