ـ المفهوم الثالث: وهو صور الأعمال القتالية:
هناك صورتان للقتال، هما: الصورة الهجومية، والصورة الدفاعية، ويخرج من كل صورة العديد من الصور الفرعية، والذي يمكننا هنا أن نتكلم عن الصورتين بصفة عامة وبعيداً عن الصور الفرعية، ويمكن أن نوجز ما نريد الوصول إليه من خلال الآتي:
(أ) الصورة الهجومية:
تعتبر الصورة الرئيسية للمعركة، فلا يمكن لطرف أن يحقق هدفه إلا من خلال الهجوم الذي يؤدي إلى فرض الإرادة وتحقيق النصر. ولا شك أن المعركة الهجومية تحتاج إلى مهارات كثيرة للقتال، وتحتاج إلى وقت كبير لاكتسابها وامتلاك القوات لها؛ لذلك يمكننا القول أن الهجوم صورة قتالية معقدة لا ينفذها بصورة صحيحة إلا القوات المسلحة المتطورة والمتقدمة.
(ب) الصورة الدفاعية:
تعتبر صورة وقتية، بمعنى أن استمرار القوات في العمل الدفاعي يعرضها للهزيمة؛ لأن الدفاع مهما كانت قوته ودرجة التحصين التي يتمتع بها لا بد وأن يسقط تحت وطأة الهجمات التي تشنها القوات المهاجمة؛ ولذلك فهو صورة دقيقة لحين التحول إلى الهجوم، والمهارات الدفاعية أقل تعقيداً من المهارات الهجومية، ويمكن اكتسابها بسرعة نظراً لأنها تحتوي على مهارات كثيرة فطرية.
ويمكن أن نضرب مثلاً يوضح الفارق بين الصورة الهجومية والصورة الدفاعية ، فبعد انتهاء حرب يونيو عام 1967م وتحول الجيش المصري إلى فلول مهزومة كانت أولى خطوات إعادة بناء جيش هو الدفاع عن الضفة الغربية للقناة، ثم بعد ذلك التدريب على عمليات العبور للقناة، ولا يمكن أن يتم العكس، فالمهارات الدفاعية أولاً عند الاكتساب ، ثم الهجومية.
مفهوم السياسة العسكرية والعوامل التي تبنى عليها:
1 ـ تعرف السياسة العسكرية بأنها جميع الإجراءات المتخذة من قبل قيادة سياسية أو عسكرية لتحقيق هدف طويل المدى في الزمان والمكان، وبحيث يضفي البعد الزماني والمكاني للهدف نوعاً من الثبات والتوازن للإجراءات العسكرية التي تتخذ لتحقيق ذلك الهدف. والتعريف السابق يقترب كثيراً في جوهره من التعريفات المتعلقة بعلم الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي.
2 ـ وهناك مجموعة من العوامل التي تبنى عليها السياسة العسكرية يمكن إيجازها في الآتي بعد:
(أ) الهدف المراد تحقيقه:
والهدف في موضوعنا الذي نتكلم عنه يمكن إيضاحه في بساطة شديدة في إطار قول المولى ـ عز وجل ـ: )وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ([الشورى: 7].
(ب) الإمكانيات المتيسرة:
ومما لا شك فيه أن الإمكانيات المطلوبة لتحقيق الهدف تخضع لدراسة دقيقة ومتأنية عند وضع أي سياسة عسكرية، وكان هذا العامل من أكثر العوامل إثارة للجدل خصوصاً وأن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم عندما وصل إلى المدينة المنورة مهاجراً من مكة لم تكن معه أية موارد أو إمكانيات يستطيع من خلالها تنفيذ أية سياسة، بل إن المجتمع الذي استقبل الرسول في ذلك الوقت كان مجتمعاً تمزقه الصراعات والفتن؛ ولذلك اعتمد الرسول القائد على الآتي:
(1) سرعة بناء المجتمع الإسلامي الجديد في المدينة، وعلى أسس إسلامية عظيمة؛ حيث إن المجتمع هو القاعدة التي تنهل منها الأداة العسكرية، والتي هي أولى الموارد والإمكانيات اللازمة لتنفيذ أية سياسة عسكرية.
(2) دعم السماء الذي لا حدود له للجيش المسلم والمجتمع المسلم، فخاتم الديانات لا بد وأن يصل إلى العالمين، وخاتم النبيين لا بد وأن تورث سننه للعالمين، ومن هنا فإن دعم السماء سيكون له دور هام في النصر.
(3) أن الموارد والإمكانيات سوف تخضع للتغير المستمر، وهو تغير غير محدود؛ حيث إن الإضافات للإسلام نتيجة إسلام غير المسلم تعتبر إضافة مزدوجة؛ لأنها في نفس الوقت استنزال من قوة الطرف المعادي.
(ج) طبيعة الطرف المعادي:
يؤثر الطرف المعادي تأثيراً كبيراً في أسلوب وضع السياسة العسكرية وفي الوضع الذي نتكلم عنه كان هناك مجموعة من الملامح التي تحدد شكل العدو، منها على سبيل المثال:
(1) إن السياسة العسكرية الموضوعة يجب أن تراعي تعدد الطرف المعادي حيث إن العدو الموجود في أم القرى يختلف عن العدو الموجود حولها.
(2) أن العدو الموجود في أم القرى هو الذي سوف يتم التعامل معه أولاً، وكان ذلك من حسن حظ الجيش المسلك نظراً للتماثلوالتشابه بين طرفي الصراع.
(3) أن هناك قدراً كبيراً من المعلومات المتيسرة عن العدو الموجود في أم القرى، وأيضاً عن طبيعة الأرض نظراً لوجود وحدات عسكرية مسلمة يتشكل قوامها من المهاجرين من مكة إلى المدينة.
وهناك عوامل أخرى كثيرة تؤثر في بناء السياسة العسكرية ولكن نكتفي هنا بإبراز العناصر التي شكلت السياسة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والتي أدت في النهاية إلى تحقيق نتائج تعتبر بجميع المقاييس والمعايير هي النتائج العسكرية الأولى عبر التاريخ البشري منذ خلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ الأرض ومن عليها.
السياسة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:
1 ـ كما هو واضح من المهمة التي كلف بها الرسول الكريم من المولى ـ سبحانه وتعالى ـ في قوله: )وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ([الشورى : 7].إن الإنذار سوف يكون من خلال مراحل وأسبقيات، وحيث سيكون هناك مرحلة تسبق الإنذار يمكن أن تسمى بمرحلة الاستمكان؛ لأن المجتمع الوحيد بالمدينة بدأ خطوته من أول السلم وكان لا بد وأن يمر بهذه المرحلة حتى يكون قادراً على تنفيذ الأمر الإلهي بنشر كلمة الحق في ربوع العالمين، ومن هنا يمكننا القول أن السياسة العسكرية الإسلامية في عهد الرسول القائد تضمنت ثلاث مراحل كالآتي:
أ ـ مرحلة الاستمكان:
وهي المرحلة الدفاعية التي دافع خلالها الجيش المسلم عن المجتمع الإسلامي الوليد، واستمرت هذه المرحلة ثلاث سنوات من رمضان في العام الثاني إلى ذي العقدة من العام الهجري الخامس، وقد شملت هذه المرحلة المعارك الآتية:
(1) معركة بدر:
في رمضان من العام الهجري الثاني وهي المعركة الأولى التي خاضها الجيش المسلم دفاعاً عن المجتمع الإسلامي الوليد، وقد كان لدعم السماء للجيش المسلم دور كبير في النصر، وانظر إلى قوله تعالى: )إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم و لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ([الأنفال : 42].