مسار رحلة أوباما الآسيوية في دول المحيط الهندي "نقلا عن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية" |
<table> <tr> <td></td><td></td> </tr> </table> |
في
قاعة الدرس بجامعة "يل" الأمريكية يستهل بول كينيدي عالم التاريخ الأشهر
اليوم محاضراته في الإستراتيجية الكبري باستعراض القوي البحرية العظمي في
عالم اليوم ويعقد مقارنات دائمة عما وصلت إليه قوة الأساطيل البحرية
الأمريكية وما يحاول الآخرون الوصول إليه باعتبار القوي البحرية هي التي
تحدد مستقبل الأمم حتي في ظل التغيرات الهائلة التي طرأت علي العالم وعناصر
القوة الإقتصادية والمالية والتكنولوجية التي تحدد مسافة السبق بين الدول
الكبري.
ويمضي كينيدي في شرح وجهة نظره لكاتب السطور قائلا "إن الإنفاق
علي القوة العسكرية في أعالي البحار هو إمتياز أمريكي لا تستطيع أي دولة
أخري أن تنافسها فيه فلا توجد القوي التي يمكنها تحمل تكاليف 11 حاملة
طائلات عملاقة مثلما هو الحال مع الولايات المتحدة. ومتي ظهرت القوي التي
يمكنها الإنفاق علي تلك الحاملات والأساطيل ستكون الزعامة الأمريكية في
خطر'.
وفي ظل تطورات الإقتصاد الامريكي بعد الأزمة المالية العالمية
والارتفاع المتواصل في حجم الدين وعجز الموازنة يقع الإنفاق العسكري في
دائرة الخفض وهو ما يمكن أن يؤثر علي تكاليف الأساطيل العملاقة المسيطرة
علي المياه الدولية في مقابل صعود بازغ للقوة البحرية الصينية في أعالي
البحار. في الاستراتيجيات الكبري القوي العظمي تمارس الردع الدبلوماسي
عندما تملك قوة بحرية لا تباري.. وهو التخوف الكبير في واشنطن اليوم رغم
الفارق الضخم في الإنفاق بين الولايات المتحدة والدول الأخري.
توفر رحلة
الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلي آسيا ـ التي تحمل عنوانا عريضا هو
الاقتصاد وخلق الوظائف ـ ملمحا لتغيرات الصراع علي الخريطة الدولية حيث
المحيط الهندي هو ساحة النزال الجديدة بين أكثر من قوي بحرية واقتصادية.
زار أوباما الهند وكوريا الجنوبية وإندونيسيا واليابان وهي دول حليفة
لبلاده تشكل قوسا أو نصف دائرة تطوق الصين من المحيط الهندي إلي بحر الصين
الشرقي مرورا ببحر الصين الجنوبي - وهي المنطقة التي كان العرب يطلقون
عليها قديما "البحر الهندي"- في ملعب شاسع من النفود البحري والثروة فيما
ألقت المشكلات الاقتصادية الداخلية بظلال واضحة علي طبيعة إدارة السياسة
الخارجية الأمريكية من اليوم فصاعدا.
وفقا لتقرير البنتاجون في العام
الماضي تملك الصين نحو 260 سفينة تابعة لسلاح البحرية وكلها تتركز في شرق
آسيا بينما الولايات المتحدة لديها 288 سفينة حربية و11 حاملة طائرات
وعشرات من الغواصات النووية تمثل ما يعرف بجواهر التاج في القوة الأمريكية
وتجوب أساطيل الولايات المتحدة جميع أنحاء العالم. ورغم تركز أسطول الصين
في المياه الرئيسية إلا أن مدي إنتشاره طرأ عليه تغيير في الشهور الستة
الأخيرة ليمتد الي مناطق بعيدة مثل الشرق الأوسط.
ويقول الخبير روبرت
كابلان في كتاب جديد عن مستقبل القوة الأمريكية في المحيط الهندي "ان الصين
تسعي للسيطرة علي بحر الصين الجنوبي لتكون القوة المهيمنة في جزء كبير من
نصف الكرة الشرقي حيث بحر الصين الجنوبي هو طريق حيوي لكثير من حركة
التجارة في آسيا واحتياجاتها من الطاقة. الولايات المتحدة ودول أخري تعتبره
ممرا دوليا بينما تراه الصين مصلحة وطنية رئيسية. ومن التفسيرات الأخري
لأولوية المنطقة للسياسة الأمريكية أن التقسيمات القديمة في طريقها للزوال
وأن إيران مع العالم العربي أصبحا إمتدادا للشرق وجنوب شرق اسيا فيما يتعلق
بإمدادات الطاقة التي تشهد نموا هائلا في الاقتصاديات الآسيوية. كما أن
الصين بات لها وجود عسكري واقتصادي وتنموي مهم في باكستان وبنجلاديش وبورما
وسري لانكا. كما ترغب الهند في أن تترك الولايات المتحدة - في حال رحيلها
عن أفغانستان ـ دولة غير أصولية للحد من نفوذ باكستان في المنطقة ولو تحتم
انسحاب الولايات المتحدة سريعا فإن الهند ستقترب من إيران وروسيا والصين ـ
ربما في صورة تحالفات - في محاولة ضمنية لاحتواء باكستان. وبالتالي يمكن أن
تفقد واشنطن احتمال الاحتفاظ بالحليف الهندي المطلوب لتحقيق التوازن في ظل
صعود الصين عسكريا واقتصاديا. وينظر الفكر السياسي الهندي لأفغانستان
وباكستان باعتبارهما الامتداد الطبيعي لشبه القارة الهندية.
في حلقة
نقاشية قبل يومين في مؤسسة بروكينجز بواشنطن قال روبرت كيجان الباحث
المعروف ومارتن إنديك مدير السياسة الخارجية في المؤسسة البحثية إن مشكلة
أمريكا اليوم هي الوهن الذي أصاب علاقتها في مناطق نفوذ تقليدية في وقت
تشهد مناطق مهمة للمصالح الأمريكية تمدد علاقات ونفوذ الصين ولحسابات معقدة
يريد شركاء إقليميون - مثل اليابان وكوريا الجنوبية - عودة الدوائر
السياسية والبحثية الأمريكية، يأتي ذلك في الوقت الذي تحاول الإجابة علي
سؤال تقع منطقة المحيط الهندي في صلب إجابته: لو استمر الاقتصاد الأمريكي
في ورطته الحالية هل ستكون الولايات المتحدة قادرة علي لعب الدور الرئيسي
علي الساحة العالمية مثلما كانت في النصف قرن الأخير يقول البعض إن الصعود
الثابت للصين اقتصاديا في اسيا مقابل تراجع القوة الاقتصادية الأمريكية
يحتاج أن تقابله الولايات المتحدة بإعادة التأكيد علي التحالفات الأمنية
والعسكرية - وبناء تحالفات جديدة - في المنطقة وهي بالقطع جزء من رسالة
أوباما في الجولة الأخيرة. وهو التوجه الذي يحمل سلاحا ذا حدين فهو يمكن أن
يحول أمريكا إلي دولة تنفق أكثر عسكريا بينما تكسب الصين أكثر من توسعها
الإقتصادي في توقيت حرج للقوة الأمريكية.
من الناحية الدبلوماسية أقدم
أوباما علي نقلتين نوعيتين لتحسين العلاقات مع دول المنطقة وهي تأييد مطلب
الهند في الحصول علي مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي والثاني هو مخاطبة
المسلمين من أكبر بلد مسلم من حيث تعداد السكان - إندونيسيا - برسالة
تصالحية جديدة تؤكد ما سبق أن طرحه في خطاب القاهرة العام الماضي. كما أن
أوباما يدفع في طريق إنهاء اتفاق التحارة الحرة مع كوريا الجنوبية وهو
المطروح للتفاوض من أيام جورج دبليو بوش. وتحت تأثير ضغوط الداخل سعي
أوباما إلي الوصول مع الهند إلي بناء شراكة إقتصادية بعيدة عن التوتر
المخيم علي العلاقة مع الصين تحت مسمي "شراكة الرابحين" لإنقاد الأمريكيين
من البطالة بفعل زحف العمالة الهندية في صناعات التعهيد وخدمت الزيارة
الرئيس الأمريكي في توصيل رسالة لناخبيه أنه بخلاف ما تردد في إنتخابات
التجديد النصفي للكونجرس يؤمن تماما بالحريات الاقتصادية والسوق المفتوحة
ويؤمن أن تحالف الديمقراطيات - الذي تمثله الولايات المتحدة والهند
وإندونيسيا - هو ضمانة ضد زحف الرأسمالية التي تنتعش بصيغ جديدة في أحضان
السلطة السياسية والتي تقدم الصين نموذجها المغري اليوم للعديد من
الاقتصاديات الناشئة والبديل هو تقديم نموذج الهند الديمقراطية الواعدة علي
طريق الإنتعاش الاقصادي. بمعني أن أوباما يسعي إلي تطويق الصين إقتصاديا
دون ضرر علي العملاق الأصفر ومحاصرة "الفكر الأيديولوجي" الدي تقوم عليه
الامبراطورية الصينية الحديثة.
كما أن أندونيسيا واليابان وكوريا
الجنوبية هي حلفاء الحرب الباردة التي ساهمت القوة الأمريكية في مرحلة ما
بعد الحرب العالمية الثانية وبخاصة في الحالتين الكورية واليابانية في بناء
دول عصرية قوية. ولو أضيفت الهند إلي تلك المعادلة يمكن بناء نموذج يحد من
توسعات القوة الصينية التي في حاجة ماسة للتوسع عالميا من خلال استراتيجية
نشطة لتلبية احتياجات النمو الاقتصادي في الداخل. في هذا السياق تأتي
مشاركة الصين بفاعلية - مؤخرا - في ترتيب عمل عديد من المؤسسات العالمية
والنظام المالي الدولي بإعتبارهما مكونا مهما في تلك الإستراتيجية. والتحدي
في الإستراتيجية الأمريكية - حسب الباحثة إليزابيث إيكونمي من مجلس
العلاقات الخارجية الأمريكي - هو كيف تتحول السياسة الأمريكية حيال الصين
إلي أن تصبح "وسيلة لتحقيق غاية وليست غاية في حد ذاتها".
من جانبها
تريد بكين أن تدير علاقة متوازنة مع الجيران في بحر الصين الجنوبي لكن
الدول المجاورة لا تشعر بالارتياح من مطالبة الصين ببعض الجزر. فالدول
تتنازع علي مجموعات من الجزر - ليست سوي مجرد أرصفة أو جزر مرجانية - وهو
ما ينطبق علي الصين وفيتنام وماليزيا والفلبين وتايوان وبروناي. وهناك جزر
أخري متنازع عليها في بحر الصين الشرقي بين اليابان والصين.
ورغم ما سبق
فالتقارب بين الولايات المتحدة ودول المحيط الهندي وشرق آسيا يتهدده
تطورات حرب العملات وبوادر الدخول في خلاف تجاري ضخم يمكن أن يحمل كل دولة
إلي التدخل لحماية مصالحها وبالتالي سوف تتسع رقعة المواجهة لتخرج عن نطاق
التحالفات المعروفة إلي حالة من "الحمائية الوطنية" من جانب كل دولة لرفض
صادراتها في السوق العالمي. في حال حدوث تطور من هذا النوع لن تكون
المواجهة مقصورة علي خلاف أمريكي - صيني بل ستنجر دول العالم المختلفة لحرب
الصادرات التي ستهدد العالم بمرحلة كساد كبير جديد علي نمط سنوات
الثلاثينيات وهو ما يعني أن حسابات صراع الأقوياء وحلفائهم سوف تتغير كثيرا
وربما تنقلب موازين القوة علي نحو غير متوقع.
زيارة أوباما دشنت مرحلة
جديدة لصراع القوي التقليدية والوافدين الجدد علي رقعة شطرنج ضخمة في
القارة الآسيوية ويمكن أن تكون بداية تحول تاريخي حقيقي في مزيج القوة
العسكرية "البحرية" والتجارة الذي طالما تكرر عبر التاريخ!