مدخل منهجي:
تجدر الإشارة إلى أن هذا الموضوع نال جائزة المجلس الأعلى للغة العربية التشجيعية في المحور الفكري ،وتم طبع هذا العمل بالعنوان نفسه سنة 2005،وبعد مضي المدة القانونية المسموح بها للاحتفاظ بالعمل من قبل هذه الهيئة"03سنوات"،أردت نشرها لأول مرة بين قراء "أصوات الشمال" للإطلاع عليها ، وإبداء ما أمكن من ملاحظات وانتقادات بشأنها لرغبة إحدى القارئات "الافتراضيات" في ذلك؟؟ ربما لإعادة قراءتها..فقد يكون فيها ما هو بحاجة إلى تقويم من قبل أساتذتنا ،ومفكرينا .. أو شيئ من هذا القبيل..ببساطة لأنني صرت أعشق الوضوح و الانتقادات من هذا النوع..والشكر موصول لكل قراء ومتتبعي غرائنا "اصوات الشمال"،وعلى الله القصد.
الفصل الأول:مالك بن نبي ..الحكاية والمسار
- ما يشبه التقديم:
رجل مرّ من هنا… يختلف عن غيره من المفكرين بمنهجه العلمي الدقيق ورؤاه المتجذرة في العقلانية والسمو،لم يشأ أن يستبق الآتي، ولا أن يؤسس لفرضيات، أو تخمينات بعيدا عن الواقع، والمعطيات الراهنة، فالراهن وحده - في نظره - هو الذي يمنحنا فرصة تقصي،وتحسس ال.. ما قبل، وهو أيضا الداعي الذي يجعلنا نضع مقدمات لنتائج كفيلة باستشراف ال..ما بعد وبين هذا وذاك يحلق فكر " مالك بن نبي" الثاقب، حتى لقد عبر أحد الباحثين عن إعجابه بخاصيته الفكرية، فاعتبره سابقا لزمانه منظرا مرموقا أعطى لكل مقام مقامه، وأوجد لكل حادث تفسيرا منطقيا قائما على درء الأحكام المسبقة،أو الواهية، فأسس بذلك لمدرسة فكرية جديدة عقلا، وروحا جعلت الكثير من معاصريه ينتقدونه أو يهمشونه لأسباب واهية وأخرى لكونه" جزائري " !
نعم لكونه جزائري بالدرجة الأولى، ومن شمال أفريقيا بالدرجة الثانية.
لقد طرح هذا التساؤل مرارا: ماذا لو كان " بن نبي" مشرقيا؟ هل كان سيغيب ويلغى من حسابات الحركية الفكرية العربية الإسلامية رغم اختلاف توجهاتها ومرجعياتها ؟ أم أنّ الفكر مرهون بمقاييس جهوية وإقليمية، وربما حتى استعمارية ؟ فلقد حاول البعض أن يشكك في قدرات "بن نبي" واتهامه بميوله نحو الحضارة الأوربية وأوجدوا تفسيرا لذلك كون الجزائر عاشت حقبة استعمارية طويلة في إشارة إلى إمكانية طمس هذه الهوية،و كأنها الدولة العربية الوحيدة التي عانت من ويلات الاستعمار فهل ذنب " مالك بن نبي" أنه جزائري ؟ إنّ "ابن نبي"من خلال قراءتنا الجادة لطريقته المميزة في التحليل والتعليل، وقدرته على النفاذ إلى دقائق الأشياء تخوله أن يكون في الدرجة الأولى من المفكرين القلائل الذين عرفتهم البشرية، فهو مفكر عالمي بأتم معنى الكلمة،أوجد فضاءات حضارية، وإجابات لأسئلة الراهن الحضارية التي تشترك فيها الإنسانية جمعاء،لأن الأصل في الحضارة هو التفكير الجماعي غير المحدود والهادف إلى المجاوزة، والانتقال بالفرد من عزلته إلى الطرف الآخر من المعركة التي تشترك فيها البشرية، إلى الشعور بضرورة التنسيق مع الآخر والتعاون معه فالحياة لنا جميعا، والحضارة طموح مشروع لكل البشرية وإن اختلفت الروافد، والمرجعيات إلا أنّ الغاية واحدة، والمطلب واحد وفي ذلك مشهد آخر غير المشاهد ذات الفكرة المحدودة التي ميزت المسارالفكري العربي، و الاصلاحي خصوصا وهنا مكمن الفرق.إنّ الفترة التي جاء فيها هذا المبدع لم تكن لتتناسب مع ما قد مه من أفكار وتفسيرات ومقدمات فاعلة، وأحيانا استشرافية، فمحيط الأمّة الذي كان محصورا في صراعات واتجاهات فكرية مختلفة، وإن كانت تتبنى المطلب الإصلاحي وترى أي فكرة خارج هذا الإطار محكوما عليها بالإجهاض رغم أن المعركة الحقيقية كانت أكبر من ذلك، و أعمق،إلا أنّ هذا لم يمنع" مالك بن نبي"من تثمين بعض الجهود التي قام بها"محمد عبده" في مصر و"ابن باديس" في الجزائر،ويمّم هو إلى الطرف الآخر من المعركة،إلى الأفكار الناجعة والفاعلة، والمؤسِّسة لفعل الحضارة المفقود والتي بدأت الدراسات تتناوله بشيء من الاهتمام، والعناية، لأن هؤلاء أدركوا حقيقة ما أتى به" ابن نبي" والواقع فرض ذلك فرضا. << إذن فالواقع يفرض العودة إلى السؤال الحضاري.. سؤال الفاعلية، سؤال النهضة، وهذا هو سؤال"ابن نبي" الذي لم يستمع إليه معاصروه جيدا لذلك فالزمان الآن زمانه..>> كما يعبر عنه الأستاذ" محمد شاويش".
إنّ الإصلاحات الحضارية التي ولدها الفكر" البنابي"هي اليوم بمثابة مرجعيات قارّة، ومدروسة لكل اتجاه فكري يضع إيجاد تفاسير مقنعة لأسئلة الحضارة،والراهن،مطلبا له،ومسارا تقتضيه المعطيات التي يدور في فلكها المجتمع العربي، والإسلامي بعد أن وقع تحت طائلة الاستعمارالجديد الذي أفرد له الاتجاه "البنابي" فصولا خاصة حتى قبل أن يوجد، وهاهو الراهن يثبت بما لا يدع مجالا للشك صحة ما ذهب إليه بعيدا عن الخلفيات المسبقة، أو الفرضيات المبنية على ثغرات تخمينية ليست من المنهج العلمي في شيء.
لقد وقف "ابن نبي" شامخا بفكره،مستجيرامن أفكاره بأفكار أخرى أكثر جدة، وأعمق تحليلا، وأقوى قدرة على التدقيق،والتواصل دون أن تكون له نظرة سوداوية لواقع الأمة المعيش،أو رجعية فكرية تلغي كل ما هو آت من وراء البحر من تجارب ناجحة تقدم للأمة أكثر ما تؤخر، فما جدوى أن يعيش إنسان القرن العشرين بأفكار القرن التاسع،أو العاشر؟ فهو أول من نادى بضرورة تجديد الموروث الحضاري والثقافي، ونفض الغبار عليه، لتشمل هذه النظرة حتى ذلك الكم الهائل من علوم القرآن والحديث والتفسير لأن المعطيات تغيرت، والحال يقتضي أن نطبق المناهج العلمية في
استكناه حقائق، وأسرار القرآن الكريم، والسنة الشريفة بعيدا عن التأويلات، والقناعات الجامدة التي ترى في ذلك لغو لا طائل من ورائه بدعوى أن الأقدمين لم يتركوا لنا شيئا نبحث فيه، وهو ما رفضه ابن نبي جملة وتفصيلا.
إنّ فلسفة الانطلاق من الواقع في وضع المقدمات،والتحليل العقلاني لأصل المشكلات،وأسبابها لهي الصبغة الخاصة،والمتوثبة التي طبعت المدرسة التجديدية والمتأصلة للفكر " البنابي" وكرست استقلاليتها عن كل المؤثرات، والمعوقات، والخلفيات التي لم تزد أمور الأمة إلا تعقيداحيث كسرت تلك الحواجز المزيفة،والتي أبعد ما تكون عن قيمنا، وموروثنا الحضاري، والثقافي، بل ساهمت في تضليل العقل وتحجيم دوره، ومنح المجال لشيوع الخرافة والرّدة الفكرية،وكان الفضاء الخصب،والمناسب لها هو الأمة العربية التي خرجت منهكة خائرة القوى من حقبة استعمارية خيمت تداعياتها وانعكاساتها على الحالة العامة،فكان من الطبيعي أن يكون هذا الدور الكامن مغيَّبا، بفعل تهاوي القيم، وصراعها أحيانا نتيجة للشلل الحاصل، والذي يتطلب رؤية شاملة، ودراسة أعمق لأن المشكلة حضارية بالأساس تتطلب زمنا، ونهجا مبنيا على استمرارية الفكرة، وفضاء اجتماعيا يعيش مخاضا عسيرا يقتضي العناية به، وشموله بالرعاية، والتوجيه، والإشراف على ميلاده الطبيعي بعيدا عن الحلول القيصرية المفضية إلى نتائج عكسية تزيد في مغبة الوهن الذي كرسته ظروف استثنائية، وأخرى مفتعلة لتضاعف من جراح هذا المجتمع.
إنّ النهضة المرتقبة، والتي ينبغي لنا التحضير لها، والعمل على وضع أسسها، لهيَ أمر مفروض،وضروري لإثبات الذات من جهة وتحقيق الإقلاع بعد فترة الركود، أوما سماها بفترة " ما بعد الحضارة" فالأمة تعيش أشد حالات ضعفها، وتجاوزها لهذه المرحلة لن يكون غدا حتما،بل هومرتبط بمدى نجاعة وفاعلية الفرد العربي، فالإنسان هو مفتاح الحضارة ومحورها، والانطلاقة لا تكون إلا من هذا الاتجاه بتكوين عالم الأشخاص، وتحقيق الوثبة النفسية بعد الصدمة،وفترة الفراغ التي يصارعها هذا الفرد،غير أن الانتقال من مرحلةالاستلاب،أوالسلبية إلى مرحلة التوثب والمبادرة والخلق لا تكون إلا في نطاق علائقي اجتماعي مبدؤه قائم على شمولية النظرة المعزِّزة للبعد الاجتماعي،والداحضة للنظرة الفردانية المنعزلة التي كانت سببا في تعميق جراح الأمة ونكوصها في لحظة أشد ما تكون بحاجة إلى التظافر، والتكافل المحرك لدواليبها والباعث على التفاعل والانسجام،لأن تفكك النسيج الاجتماعي هو أصعب مراحل مجتمعات ما بعد الحضارة،مما يعني عمليا التأسيس لأي بناء أو مشروع نهضوي من هذه النقطة بالذات.
لقد عثر"ابن نبي" على حقيقة ثابتة، وأساسية مؤداها ضرورة إيجاد فضاءات للتفاعل الاجتماعي الهادف إلى التغيير،والبناء قبل التفكير في أي مرحلة أخرى، فالبداية من هنا، والنتائج ترجمة للمقدمات العملية، والمنطقية،فإذا ما كانت كذلك، جاءت توقعاتنا مطابقة تبعا لما وضعناه من مقدمات.
لقد توصل " ابن نبي" إلى مجموعة من التعليلات، والنتائج المنطقية، والرؤى الهادئة، والمتزنة في نفس الوقت تتخذ المنهج العلمي مسارا ثابتا لها، ولا تلغي النظرات الفكرية الأخرى سواء كانت عربية إسلامية، أو غربية، وكثيرا ما ضرب لنا أمثلة من هنا، وهناك تبرر انفتاح الفكر"البنابي"على الأفكار، والحضارات الأخرى بعيدا عن التعصب، والفردانية، فقدم بذلك مشروعه الحضاري الضخم كبديل لفرضيات أثبتت فشلها،أو بقيت حبيسة فلسفة هجينة تفتت الأفكار الخلاقة، وتنبذ كل دعوة إلى التغيير،و المبادرة.
إنّ الإنسان بصفته مشروع المشاريع الذي يقوم عليه كل فعل نهضوي جاد، والأفكار المتأصلة والمنبثقة عن واقع اجتماعي،و ثقافة خاصة، وقيّم راسخة،ع والم تحدث الإقلاع المنشود إذا ما تفاعلت إيجابيا بفعل ما تنتجه كترجمة لهذا التفاعل..كلها المشروع الحضاري الذي بشر به " ابن نبي"، وخصه بدراسات شاملة دوافعها الأساسية الرغبة في تغيير الواقع، وإثبات الأنا الحضاري بخصائص ومقومات عربية، وطنية متأصلة، ومرهونة بالمنهج العلمي السليم.
لقد حاولنا في بحثنا هذا التركيز على هذه النقط ة،لأننا بحاجة إلى قراءة واعية، وجديدة لفكر" مالك بن نبي" خاصة في أبعاده الحضارية التي تؤسس لمستقبل واعد، ومشرق كفيل باستعادة المركز الريادي لهذه الأمة، يقول " محمد شاويش"<< إننا الآن بحاجة إلى قراءة أفكار هذا المفكر الهادئ، والتعلم منه، لا أعني بالضرورة أن نقره على كل تفاصيل تحليلاته ولكن يجب أن نستخلص ما هو قيم حقا في فكر "بن نبي"، وهو طريقته في رؤية مشكلة الحضارة الإسلامية،وتحليلها،والجوانب التي يلفت انتباهنا إلى ضرورة التركيز عليها>> .
من هذا المنطلق القائم على علاقة الدين بالحضارة كون هذه الأخيرة تنبثق أساسا عن فكرة دينية، تعرضنا بالتحليل إلى مفهوم الإسلام وأبعاده عند" بن نبي" بعد أن ناقشنا موقع مفكرنا من الفكر الإسلامي المعاصر الذي تناول القضايا الكبرى للأمة بغض النظر عن فلسفة كل اتجاه،أو طريقة تحليله حتى ننصف- ولو من باب الأمانة العلمية-المفكرالجزائري" مالك بن نبي"، ثم تقصينا فلسفة الحضارة عنده كمفهوم،وكرؤيا،وكبناء شامل له شروطه، ومقوماته وعوامله التي يقوم عليها بعد الوقوف على أسباب الانحدار الذي تعيشه الأمة، وتحديد العلاج الناجح لذلك، وتوفير المناخ الملائم.
ولئن اقتصرنا في عملنا المتواضع هذا على فواصل معية فلأن محيط " الفكر البنابي " يحتاج في كل لحظة إلى قراءة متجددة، وعميقة، وليس في مقدور أي كان استكناه حقائقه، مما يجعلنا مدينين لهذا المفكر المتميز بالكثير.. وصدق من قال أن العظماء لا يموتون بل يولدون في كل يوم مرّة !
ـ" مالك بن نبي "..حياته وآثاره:
مالك بن نبي مفكر جزائري ولد بمدينة تبسة التابعة إداريا لمدينة العلم والعلماء قسنطينة آنداك سنة 1905م، ونشأ في أسرة فقيرة نسبيا من أم خياطة وأب موظف دخل الكتاب صغيرا شأنه شأن عمالقة الفكر، والأدب العربي خاصة أنّ هاته الفترة تميزت باحتكار المعمرين للمدارس النظامية ولم تكن السبل متاحة إلا للقليل.
استمر على هذه الحال أربع سنوات، إلى غاية انتسابه إلى إحدى المدارس الفرنسية، ورغم ذا فقد بقي محافظا على علاقته بأقرانه،وبمحيطه خاصة،الحلقات التي كانت محورها المساجد.
ولمّا أتم دراسته الإعدادية اتجه إلى تبسه سنة 1918م لينهي المرحلة الثانوية، ومن ثمة حصوله على منحة دراسية بقسنطينة حيث درس الفرنسية، والعربية معا إلى غاية سنة 1922م التي تميزت بربط علاقات متعددة مع تلامذة الشيخ عبد الحميد بن باديس - رحمه الله - انتقل إلى فرنسا بحثا عن العمل سنة 1925م،ولم يتسن له ذلك،فعاد ليحصل بعد ذلك على منصب كاتب محكمة "بآفلو"- ولاية الأغواط حاليا- ثم تم نقله إلى" شلغوم العيد "إلا أنه استقال بسبب حدوث خلاف بينه وبين كاتب محكمة الصلح الكورسيكي، وبحلول الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1929م لم يجد بدا من السفر إلى باريس ثانية إكمال دراسته وسجل بمعهد الدراسات الشرقية،وتعرف هناك على تنظيم " الوحدة المسيحية للشبان الباريسيين" وفقا لتطلعات شباب تلك المرحلة،فأصبح عضوا فاعلا،إلاّ أنّه قرّر بعد ذلك ترك معهد الدراسات الشرقية لينتقل إلى مدرسة اللاّسلكي فرع هندسة الكهرباء فجمعته المقادير بزوجته الفرنسية الأصل والتي أصبح اسمها " خديجة" فكانت سندا له، وملاذا مهما في أهم مرحلة من حياته وذلك سنة1931 م تعرف إلى مجموعة من العلماء،والمفكرين
أهمهم المستشرق ماسينيون، والمهاتما غاندي إضافة إلى منحى الفكر لدى " شكيب أرسلان"عن طريق"فريد زين الدين"(1)،إلى أن عاد إلى الجزائر صيف سنة 1932م، ويمضي بقية حياته متنقلا بين فرنسا والجزائر رغم شوقه إلى الأسفار، والرحلات، إلا أنّ الرغبة في بعث العنصر الجزائري، وتوجيهه، وإخراجه من عزلته المفروضة عليه فرضا، جعلته يفكر في إنشاء معاهد، ومراكز إشعاع لم يكن من اليسير تحقيقها(2)، فانقطعت بذلك زياراته لفرنسا رغم وجود زوجته بها، وإنما ظل يراسلها من" القاهرة" بعد أن تكفل"جمال عبد الناصر"به، فانشغل بأمور الفكر والتنظير من سنة 1956م إلى غاية 1963م حيث عاد مديرا للتعليم العالي إلى غاية 1967 م.
وما يلاحظ على " مالك "أن ثقافته فرنسية، وأداءه اللغوي كذلك وهذا مرتبط بنمط تكوينه الذي تلقاه، ورغم ذلك فقد تعلم العربية بالقاهرة، وكتب بها، وألف بها الكثير من الأعمال فكان أحد مستشاري المؤتمر الإسلامي.
كان بسيطا، متواضعا، صادقا، هاجسه إعمال الفكر، وتبويب رؤاه الإصلاحية، والفلسفية، والحضارية إلى غاية وفاته بتاريخ: 31/10/1973م.
يقول د/أسعد السحمراني:<< كان مالك غزيرا في إنتاجه الفكري بعض مؤلفاته وضعت ككتب، وبعضها مجموعة محاضرات نسقت في كتب، معظم ما كتبه بالفرنسية ومن ثم كان يستعين ببعض طلابه،أو أصدقائه لتعريبها..>>(3) ليترك بذلك رصيدا فكريا هائلا تمثل في كتب:
o الصراع الفكري في البلاد المستعمرة.
o مشكلة الثقافة.
o ميلاد مجتمع.
o إنتاج المستشرقين.
o في مهب المعركة.
o بين الرشاد والتيه.
o شروط النهضة.
o مذكرات شاهد القرن.
o وجهة العالم الإسلامي.
o المسلم في عالم الاقتصاد.
o آفاق جزائرية.
o تأملات.
o دور المسلم ورسالته.
o الفكرة الإفريقية الأسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ.
o الظاهرة القرآنية.
وممّا لا يعرفه الكثيرون أنّّ لمالك بن نبي محاولات في مجال الرواية، كما يذكره د/ أحمد منور في مقال له،صادر بجريدة الشروق اليومي العدد287،بتاريخ 14/10/2001، فقد أصدر ابن نبي رواية عن دار النهضة الجزائرية سنة 1948م، بعنوان: "لبيك"، بعد أن أصدر كتاب "الظاهرة القرآنية" سنة1947م، ومهما يكن من أمر فإن الأحداث التي تدور في الرواية التي أشرنا إليه نابعة من الواقع حسب ما يؤكد الدكتور "أحمد منور":
"تجري وقائع رواية لبيك في جزء هام منها في مدينة عنابة، أما الجزء الآخر فيجري على ظهر الباخرة المتوجهة بالحجاج إلى البقاع المقدسة، ويتحدث المؤلف عن مدينة عنابة حديث العارف بها وبعادات أهلها في الاحتفاء بموسم الحج، وباستقبال المدينة للحجيج باعتبارها منطقة عبور رئيسية لمعظم حجاج المناطق الشرقية للبلاد الذين يتوجهون منها بحرا نحو الحج"
كل هذا،إضافة إلى مجموعة من المحاضرات، والمخطوطات التي بقيت حبيسة الأدراج.
ـ الفكر البنابي وموقعه من الفكر الإسلامي:
كما سبقت الإشارة إليه،فإن مالكا يعتبر مفكرا إسلاميا وإصلاحيا ذا مرجعية عربية قويمة رغم أنّ جل كتاباته باللغة الفرنسية، ولئن كانت بوادر الانبثاق الفكري لدى مفكرنا بارزة للعيان،إلا أن هناك عوامل كان لها دور في الحد من هذا الانبثاق نتيجة لخلفيات،وأسيقة كرست مشرقية الفكر بدل مغربيته،أو بالأحرى عوربته لذلك نجد أن مقام مفكرنا مفترض أن يكون في واجهة الفكر العربي المعاصر.
تحديدا من هذا المنظور،وتقصيا للمعطيات التي أحاطت بفترة نبوغ هذا المفكر، فإننا نحاول تحديد موقعه في الفكر الإسلامي المعاصر الذي عرف مجموعة من التحولات، والانزياحات بفعل ظروف معينة .فما موقع مفكرنا في هذا المسار؟ !
يشير الباحث " محمد شاويش" إلى أنّ "مالك بن نبي" يشغل موقعا خاصا في الفكر الإسلامي نظرا لطبيعة تكوينه، و مرجعياته الفكرية،بل يقول أنه يشكل لوحده مدرسة خاصة من مدارس الاتجاه الفكري الإسلامي المعاصر خاصة وأنه يمثل اتجاها، عاش فترة استعمارية ليست ككل الفترات الاستعمارية التي عاشتها الأقاليم الأخرى،وما رافق ذلك من محاولات مسخ للهوية،وللذات معا،وفق خطط عملية مدروسة ذات غايات استعمارية قذرة ارتبطت بتهاوي الأمّة العربية ككيان بدأ يتآكل من الداخل شيئا فشيئا،فكان المصير الحتمي طبعا.
إلا أنّ محاولات المسخ هذه، لم تمنع مفكرا مثل مالك بن نبي من أن يكون حلقة أخرى من حلقات الإصلاح التي قادها في مصر " محمد عبده"، وفي الجزائر"عبد الحميد بن باديس"ومن ورائه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين،وهو ما أهله لأن يكون مشاركا في التغيرات السياسية والايديولوجية في العالم الإسلامي،وفي المشرق العربي حسب" محمد شاويش "(04) إنّ الظروف الاستعمارية المحيطة بأهم مراحل حياته كانت ضرورة بوجه ما لتحريك الفعل الحضاري والفكري في مجتمع تسحقه الغطرسة،وويناله التنكيل، وتصهره مرحلة فمرحلة الدعوات التبشيرية،و
االتنصيرية، ولا يمكن بأي حال الفصل بين ما تعيشه الجزائر،والأقاليم العربية الأخرى،لأن هذا التداعي يصب كله في نطاق تراجع الدّور الحضاري للأمّة العربية أو الإسلامية في فكر مالك بن نبي فكان لابد من التعرف على أعراض هذا الداء الذي حاول المستشرقون أن يحددوه في صياغ واحد، وهو الإسلام الذي اعتبروه السبب الوحيد والمباشر في تخلف هذه الأمّة،وهو ما جعل مالكا يدخل في معارضات ومناظرات كثيرة لرّد هذا الزيغ فالمشكلة في رأيه ليست البحث عن طرق حصار العلل، وإنما في كيفية الانطلاقة، والإقلاع من جديد بدءً من القدرات الباقية أو الكامنة بمحاولة إحيائها، وتهيئتها لميلاد حضاري آخر على اعتبار أنّ التداعي الذي عرفه العالم العربي طبيعي إذا ما تدارسنا خلفيات ذلك من منظور ناضج.
إن هذا التفكير السليم لا يكون إلاّ لمفكر بحجم " مالك بن نبي" بل هي ميزة من ميزات مدرسته، يقول " محمد شاويش " : << إنّ ميزة مدرسة مالك بن نبي التي تهبها طابعها الخاص في مدارس الفكر الإسلامي المعاصر هي أنها تركز على مشكلة الحضارة الإسلامية، وليس على مشكلة السلطة السياسية>>(05)
فالسلطة السياسية هي من صلب الحضارة،أوهي وجهها القائم على تصوراتها، وتوجهاتها، وأنماطها الموضوعة لها بعيدا عن أي صراع خفي أو ظاهركما يعتقد الكثير من المفكرين،وذلك هو الفرق الكامن بين نظرة مالك لأبعاد الأشياء، ونظرة معاصريه من أقطاب المدارس الأخرى<< لكن الفرق بينه وبين المدارس الإسلامية التي ظهرت من الستينيات فصاعدا أنه لم يواجه مشكلة ابتعاد الدولة الحديثة عن الشريعة، بل استمر في المدة القليلة التي عاشها بعد الاستقلال في الاطمئنان إلى أنه لا خطر على الإسلام نفسه، وإنما الخطر هو في استمرار المسلمين في وضع الانحلال الحضاري>>
ومن هذا المقتطف يمكن أن نتبيَّن ذلك الرفض الخفي الذي كان تواجهه أفكار مالك من قبل المدارس الأخرى مثل مدرسة " محمد عبده " التي عرفت بأفكارها المتشددة، والرافضة لمثل هذه التصورات والتي كانت قطبا من أقطاب الوهابية ذات الاتجاه السلفي،فرغم أن مفكرنا في بداية حياته تأثر بهذا الاتجاه بالغ التأثر كما يعبر في"مذكرات شاهد القرن"إلا أن وجهته اختلفت مما كان- في رأينا- سببا مباشرا في عدم اكتساح أفكاره المشرق العربي نظرا للمرجعية الفكرية المتشددة لهذه المدرسة الإصلاحية،و
مثيلاتها، رغم ما لاقته أفكار مالك في أوربا وفرنسا تحديدا من وجاهة،وتقدير،فالاختلاف لم يكن أساسه المرجعية،بقدر ما كان في طريقة معالجة القضايا الكبرى، والراهنة لأن القدرات الفعلية تختلف، وتتنوع مما ساهم في بروز نمطية جديدة تعتبر مدرسة - كما أشرنا- <<إنّ طريقة " مالك بن نبي" في طرح مشكلة المسلمين كمشكلة حضارة ومجتمع، ودعوته المجتمع الإسلامي للنهوض بعمله الخاص الدؤوب، ودون انتظار نيل الحقوق من طرف خارجي هي طريقة قيمّة جدا نحتاج إليها هذه الأيام حين نرى أنّ من الإسلاميين من يمحور كل نشاطه حول هدف مطالبة السلطة بحقوق أو قوانين ويترك مهمة الإصلاح الاجتماعي مؤجلة بانتظار تطبيق الشريعة الإسلامية !
إنّ طريقة مالك بن نبي في التحليل الصّبور لمشاكل الحضارة يحتاج إليها جيل الشباب عندنا الذين يميلون في حماسهم إلى ترك التحليل العلمي المنهجي، وتفضيل رفع الشعارات عليه>>(06)
إنّ ما ذهبنا إليه في السابق، ويؤكده الأستاذ " محمد شاويش" في الإجابة على كثير من الأسئلة ظلت معلقة إلى حين حول المكانة التي من المفروض أن يحتلها تنظير هذا المفكر في طريقة تحليله وتفكيره، وبنائه، ومعالجته للقضايا بعلم ونجاعة؟ !ألأنه كان من شمال إفريقيا؟ أم لأنّ تكوينه بالفرنسية؟ !أم لأنّه كان مرتدا في نظر أولئك المصلحين ومدارسهم؟ !
أم أنّ المرحلة التي تعيشها الأمّة في تلك الفترة تقتضي تغليب العاطفة على الفكر، والحماسة على التبصر..؟ !
<< لعل لجوء بن نبي إلى التحليل الصّبور مما لا يجعله كاتبا مفضلا عند هؤلاء الشباب الذين يعجبهم الأسلوب الحماسي الذي يطرح أفكارا قليلة،وعواطف كثيرة، " مالك بن نبي" يطرح على العكس عواطف قليلة، وأفكارا كثيرة !
وهو بمنهجه هذا يعتقد أن مسألة نهضة الحضارة تخضع لسنن الله في الكون،وهي بالتالي تستوجب منا أن ندرس هذه السنن بإمعان لنستطيع التأثير، ونكون فاعلين في الحضارة.
العمل الصّبور المنهجي الدؤوب المتواضع الذي يقبل بإنجازات صغيرة هي لبنات بناء الحضارة المنشودة، ولا يتبع مبدأ " كل شيء،أو لا شيء"، وانطلاقا من هذا العمل، ومن قيام كل فرد في المجتمع بواجبه نحصل على حقوقنا الكبرى في العالم>>(07)
إنّ الاختلاف الواضح في الرُّؤى والأبعاد يفسر لنا حقيقة ما كان يجري من صراع تختلف مضامينه،وأدواته وفلسفاته أيضا، فتوليد الأفكار والحلول ليس كاتباع نمطيات سابقة، والاعتداد بها، وذاك هو الفرق الكامن، والداعي إلى بروز المدارس الشرقية في الفكر والإصلاح مع انكماش الدور الإصلاحي والفكري المغاربي بصفة عامة في وجه هذا التيار الشرقي الذي وإن كانت لنا مرجعياته، فإن الحلول ليست كذلك.
الأحد نوفمبر 14 2010, 23:15 من طرف ocean