مصر على موعد مع البرادعي
سليم عزوز
2/28/2010
استعنا على الشقاء بالله، فقد أعلنت قناة 'دريم' ان برنامج 'العاشرة مساء' سيستضيف الدكتور محمد البرادعي، المرشح المحتمل لانتخابات الرئاسة في مصر. لدي مشكلة مع مقدمة البرنامج التي تغيب عن الوعي، حتى تمسك بمفردة من قفاها، والتي تضحك فتختفي عيناها في ظروف غامضة، والتي تتحدث من معدتها الممتلئة بخيرات الله، فترهق قولوني أنا!
رأيي بطبيعة الحال، لا يعبر عن رأي السواد الأعظم من المشاهدين، وفي كل شيء، والدليل انني كلما وصفت مذيعة 'الجزيرة' جمانة نمور بـ 'الجميلة'، غضب البعض، وثارت القبائل، على الرغم من قيامي أكثر من مرة باستدعاء الأغنية الشهيرة في التراث التونسي، وقد ورد فيها: 'خذوا عيني شوفوا بيها'. وربما يكون هناك كثيرون معي فيما ذهبت إليه، لكن أمام حملات الإرهاب الفكري، فإنهم يتركونني أواجه التيار بمفردي.. لكن لا بأس فأنا لها.. أنا لها.
البرادعي جاء إلى القاهرة يوم الجمعة قبل الماضي، فخرج الآلاف في استقباله بمطار القاهرة، ورابطت أنا أمام التلفزيون.. شاهدت برنامج 'مع هيكل'، لتبقي أمامي ساعة على وصول البرادعي للمطار، ليصبح وجها لوجه أمام هذه الحشود، التي جاءت من كل فج، يحدوها الأمل في غد أفضل.
نظام الرئيس مبارك يقوم بتخويف الامريكان بأن البديل له هم الإخوان المسلمون، لكن البرادعي كسر هذه الدعاية، فهو بديل مدني يدعو للدولة المدنية، في مواجهة الدولة البوليسية، وهو شخصية دولية مرموقة، وقد التف حوله المصريون من أقصى اليمين الى أقصى اليسار..في يوم ابيضت فيه وجوه واسودت فيه وجوه.
كنت انتقل من 'الجزيرة' إلى تلفزيون 'بي بي سي'، وأمر في رحلتي هذه على 'العربية' و'الحرة'، الأولى مشغولة بإيران، والثانية مشغولة بالانتخابات العراقية، وكنت في طريقي أيضا أمر على قناة 'الليبية'، لا تزال في مكانها منذ ان قمت بتثبيتها في هذا المكان، عندما كان حمدي قنديل يقدم برنامجه عليها، وقبل ان يتدخل الزعيم الليبي فيؤممها 'عربون محبة' لأهل الحكم في مصر، وقد رد القوم له التحية بخير منها عندما صادروا رواية الأديب النوبي إدريس علي 'الزعيم يحلق شعره'، واعتقلوا ناشرها، لأنها تستهدف القذافي، ولم أطالعها لكي أقف على مدى صحة ذلك، فأنا قارئ هاو للأدب.
اكتشفت ان 'الليبية' بوجودها هنا، تعطل حركة السير. وقد ذكر حسين عبد الغني في تقرير له ان حمدي قنديل كان على رأس الذين استقبلوا البرادعي في المطار.. اكتشفت زرا في الريموت كنترول، يمكن من خلاله الانتقال الآمن من 'الجزيرة' الى الفضائية البريطانية، دون ان تعثر قدماي في هذه العشوائيات الفضائية الفاصلة بينهما.
حسين عبد الغني مدير مكتب 'الجزيرة' كان في المطار، و 'بي بي سي'، كان لها مراسل أيضا،.. هناك تفاوت بين أعداد المحتشدين بين المحطتين، لكنهم بالآلاف، الإعلام الرسمي وحلفاؤه ذكر بعد ذلك انهم كانوا عشرات، ثم استحوا فقالوا مجرد مئات، لعل مقدمة برنامج 'العاشرة مساء' كانت مع هذا الرأي المستهين بعدد المستقبلين للبرادعي، قبل ان يؤكد الأديب علاء الأسواني في مداخلة له بأنهم كانوا بالآلاف.. الأسواني أيضا كان في المطار.
الساعة وصلت الى الثالثة بتوقيت القاهرة، موعد وصول طائرة البرادعي قادمة من فيينا، ولا حس ولا خبر، ثم علمت ان الطائرة تأخر وصولها ساعتين ونصف الساعة، كأنها 'توك توك'، او احد قطارات الصعيد يمارس الدلال على قضبان السكك الحديدية، فيقف بدون مبرر، ليصل في كل مرة متأخرا عن موعده، ربما ليؤكد ان السفر فعلا قطعة من العذاب.
موعد مع الأمل
كان الرهان على ملل الحاضرين وانصرافهم لكن أعدادهم تزايدت.. الكل كان في موعد مع الأمل في التغيير، وجاء البرادعي على قدر، ولم يتمكن من ان يشق طريقه وسط هذه الحشود، التي قال الإعلام الرسمي انها مجرد مئات في قول وعشرات في قول اخر!
في نشرة السابعة قالت الـ 'بي بي سي' ان البرادعي غادر المطار، وقالت 'الجزيرة' انه لم يتمكن من مغادرة المكان بسبب الزحام الشديد.. ومهما يكن فقد ظل الرجل ساعة ونصف الساعة يناضل من اجل الخروج، تماما كما تناضل مقدمة برنامج 'العاشرة مساء' حتى تعثر على كلمة أو مفردة، فتغيب عن الوعي وتبيض عيناها كأنها تسحبها من المصران الرفيع.
حسنا لقد وصل الدكتور البرادعي بسلامة الله الى ارض الوطن، لتعلن قناة 'دريم' انه سيكون ضيف 'العاشرة مساء'، تمنيت ان يتم تكلف دينا عبد الرحمن مذيعة برنامج 'صباح دريم' بمحاورته، او ان تطلب إدارة 'دريم' من قناة 'المحور' ان يقوم بهذه المهمة مقدم برنامج '48 ساعة' سيد علي، على ألا يصطحب معه زميلته هناء السمري. ويكون هذا 'سلفا' مع تطبيق المبدأ الشعبي الشهير 'السلف دين والرد خسارة'.
سيد علي كتب يبدي إعجابه بقدرات منى الشاذلي التلفزيونية، لكن تكليف غيرها بمهمة محاورة البرادعي كان سيصب في مصلحة قولوني.. من الواضح انه لم يكن هناك احد يعنيه أمر قولوني الغليظ.
كنا مجموعة من الأصدقاء نجلس معا، عندما صاح احدنا، هيا بنا نغادر لكي نشاهد البرادعي على 'العاشرة مساء'، وانصرفنا، لتبدو لي منطقة وسط القاهرة في هذه اللحظة خالية من الزحام، كما لو ان هناك مباراة مهمة لكرة القدم.
عندما وصلت الى منزلي كان البرنامج قد بدأ بالفعل.. لا ارتاح كثيرا للدبلوماسيين، وكلامهم الذي ينقصه الحسم، والبرادعي دبلوماسي سابق، لكنه كان مع رقي أسلوبه وهدوئه حاسما. قال انه لن يخوض الانتخابات وفق معادلة النظام ولابد من تعديل الدستور بما يسمح له ولغيره بخوضها. تعلمون ان التعديلات التي أدخلت على الدستور المصري جعلت ان المرشح الوحيد هو من يرشحه الحزب الحاكم، ومن يخوضون الانتخابات بجانبه هم مجرد كومبارس.
وقال انه لن يلجأ الى لجنة شؤون الأحزاب التي يرأسها الأمين العام للحزب الحاكم من اجل ان يحصل منه على الشرعية لمعارضته.
الداخلية على الخط
مارست منى الشاذلي سياسة 'اللت والفت'، وسعت لان يبدو الرجل متراجعا، او خائفا، ففشلت.. قالت له حتى لو ترشح الرئيس مبارك سوف ترشح نفسك؟.. فجاء الرد حاسما: حتى لو ترشح أي احد. سألته: هل توافق على ان يكون رئيس الوزراء عسكريا.. فرد: لا أوافق، فالعسكرية تختلف عن العمل السياسي.
ثم ذهبت تستخف بأعداد الذين ذهبوا لاستقباله في المطار، فهم بالمئات على عكس الذين ذهبوا لاستقبال المنتخب المصري.. هونت من شأن عملية الاستقبال هذه، وأوحت كما لو كان أنصاره فقط هم من خرجوا من ديارهم لاستقباله، لم أكن أظن وأنا القاعد عن الخروج أنني من أنصار جمال مبارك!
فات الفتاة، ان الذهاب الى المطار كان بمثابة فرض كفاية يسقط عن الكل اذا قام به البعض، وان الواحد من مستقبليه هو بألف مما تعدون في استقبالات أخرى.
فالأمن كان قد حذر من الذهاب الى المطار، فضلا عن بعد مطار القاهرة عن العمران، ومع هذا فقد جاء أناس من المحافظات المختلفة مثلوا طلائع التغيير، وقد كانوا من مختلف التيارات السياسية اختلفوا فيما بينهم، واجتمعوا على البرادعي.
لا بأس فوزارة الداخلية كانت على الخط، ولدرجة ان أسرع تصويب رسمي لمعلومة كانت عندما ذكرت منى الشاذلي ان الشارع الذي يقيم فيه البرادعي بتعرض لتواجد امني كثيف.. ربما كانت رسالة للأنصار، لكن البرادعي قال انه ليس معنيا بذلك وليس مهتما به، فلم تكد تمر دقائق إلا ونقلت الشاذلي عن وزارة الداخلية ان التواجد الأمني مرده الى وجود وزيرين في نفس المنطقة إضافة الى بعض السفراء.
سألته بخبث عن عدم قدرته على الخروج للجماهير المحتشدة في المطار.. وسألت: متى يخاف الزعيم من الشعب؟.. لم تلاحظ ان هناك زعماء يزورون الفلاحين في بيوتهم، امام الكاميرات، وعندما تنطفئ الأضواء، تحمل الأكواخ المصنوعة في سيارة، ويرتدي الذين يمثلون دور الفلاحين ملابسهم الحقيقية.
قضية هويدا
جاء دور المداخلات، وقالت منى الشاذلي معنا 'هويدا'، وتحدثت زميلتنا 'هويدا' بشكل مباشر عن الخروج الآمن من السلطة، وهي الدعوة التي أطلقها الإعلامي عماد أديب منذ فترة، وأثارت انتباه الناس لقرب مطلقها من أهل الحكم.
البرادعي قال انه يرأس منظمة تمنح الحاكم الذي يترك الحكم بعد دورتين وبشكل طبيعي خمسة ملايين دولار.. طيب البرادعي هذا، فهذه الملايين الخمسة لا تكفي مهرا لربة الصون الآنسة كونداليزا رايس اذا قرر العبد لله ان يضحي بنفسه من اجل البشرية ويعقد قرانه عليها. ' هويدا' ذكرت انه بناء على ذلك فانها تطلب الاتفاق على الخروج الآمن للرئيس مبارك وأسرته.. كلام مباشر وكضرب الرصاص.. تقول هويدا انها من الاسكندرية لكنها تبدو لي ان أصولها صعيدية صميمة، فهي لا تلف ولا تدور ومندفعة وتضرب في المليان.
ما ان قالت 'هويدا' ما قالت حتى فاجأتها منى بسؤال: أنت هويدا طه 'بتاعة الجزيرة'... كانت عندك قضية قبل ذلك .. ماذا فعلت فيها؟.. هويدا كان قد تم إلقاء القبض عليها بتهمة الإساءة لسمعة مصر بالخارج، لأنها أعدت فيلما وثائقيا تحدث عن التعذيب في أقسام الشرطة، لكن طريقة السؤال توحي للمشاهد ان المتحدثة كانت متهمة بالاتجار في أعضاء البشر. في مقال لها يوم الأربعاء الماضي نشر في 'القدس العربي' وصفت هويدا طه البرنامج بأنه برنامج 'مباحث العاشرة مساء'.
مهما جرى فقد اثبت الدكتور محمد البرادعي ان التفاف المصريين حوله لم يكن من فراغ.
' صحافي من مصر
azouz1966@gmail.com