بعد وفاة عمر رضي الله عنه تولى عثمان رضي الله عنه، وكان
من أهم أعماله أنه عمل على توطيد نفوذ المسلمين في كثير من البلاد التي
تمَّ فتحها من قبل، كما نجح ولاته في ضم مناطق جديدة إلى حوزة الدولة
الإسلامية.
وحين تولى عثمان بن عفان رضي الله عنه خلافة المسلمين عزل
عمرو بن العاص عن ولاية مصر سنة (26 هـ/ 646م) وعقدها لعبد الله بن سعد بن
أبي سرح، وطلب عبد الله بن سعد بن أبي سرح الإذن من عثمان رضي الله عنه
لاستكمال الفتوح في إفريقيا.
الفتنة تؤخر الفتوح الإفريقية
كان لا بد أن تؤثر فتنة عثمان رضي الله عنه وما تلاها من
أحداث في نشاط الفتوح الإسلامية؛ إذ لم يكن من الميسور للقادة والجند أن
يستمروا فيما كانوا آخذين فيه من فتوح بعد أن شبت نيران هذه الفتنة، ولا
شك أن الأمداد قد انقطعت عنهم، وتوقعوا أن تحول حروب الداخل دون إرسال
الجند إلى الأطراف فتركوا ما بأيديهم، ولبث بعضهم حيث هو ينتظر نتيجة
الصراع المحتدم، وعاد البعض الآخر إلى الحجاز والشام ليسهم في هذه الأحداث[4].
لقد شغل المسلمون عن إفريقية والفتوح عامة بسبب فتنة عثمان رضي الله عنه ،
ثم الحرب بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، ولم يتجدد نشاط الفتوح مرة أخرى
إلا بعد استقرار الأمر لمعاوية سنة 41 هـ/ 661م[5].
نشطت حركة الفتوح خلال عصر الدولة الأموية، وبدأ المسلمون
يمارسون دورهم الحضاري في النهضة بأمر البربر، مع ترسيخ الوجود الإسلامي
في المغرب، وقد كان من مظاهر ذلك:
1- إنشاء المدن والعناية بها:
بناء تونس:
اختط هذه المدينة القائد حسان بن النعمان الغساني عام 82هـ؛ لتكون قاعدة عسكرية بحرية، ولتحول دون تكرار البيزنطيين الهجوم على قرطاجة عام 78هـ[6]. بنى حسان بن النعمان مدينة تونس على أنقاض قرية قديمة عرفت باسم ترشيش القديمة[7]،
وإنما سميت تونس في أيام الإسلام لوجود صومعة الراهب، وكانت سرايا
المسلمين تنزل بإزاء صومعته، وتأنس لصوت الراهب، فيقولون: هذه الصومعة
تؤنس؛ فلزمها هذا الاسم فسميت باسم تونس[8]. واختط حسان تونس غربي البحر المتوسط بنحو عشرة أميال[9]، فقام بحفر قناة تصل المدينة بالبحر لتكون ميناء بحريًّا ومركزًا للأسطول الإسلامي بعد أن أنشأ فيها صناعة المراكب[10]، بخبراء في هذه الصناعة زوده بها والي مصر عبد العزيز بن مروان بناءً على توجيه الخليفة عبد الملك[11]. وقد بنيت مدينة تونس طبقًا لأهداف سياسية إستراتيجية، وأهداف اقتصادية اجتماعية تبناها الخليفة عبد الملك.
أمّا الأهداف السياسية البعيدة المدى، فيتضح ذلك بوضع حد
لاعتداءات الروم والمتمثلة بإغارتهم على الساحل الإفريقي، والسبيل الأمثل
هو إيجاد قاعدة بحرية، وصناعة بحرية قادرة على إنشاء أسطوله مهمته صد
العدوان الرومي بادئ الأمر، ثم الانتقال من مرحلة التصدي إلى الغزو والفتح
فيما بعد، وقد تمثل تطبيق هذه المرحلة من قبل الخليفة عبد الملك فقام
بالإيعاز لشقيقه والي مصر عبد العزيز بن مروان، لإرسال ألفي قبطي من مهرة
الصناع لإقامة صناعة مراكب بحرية، وقام هؤلاء بالمهمة الموكلة إليهم خير
قيام.
وأما الهدف الثاني: فيتمثل بإيجاد حياة اجتماعية بإيجاد المؤسسات القادرة على خدمة الأفراد، فأقام في المدينة المسجد الجامع، ودار الإمارة، وثكنات للجند للمرابطة، وأخذ يقوم بتدوين الدواوين[12]، وتنظيم الخراج والعناية بالدعوة الإسلامية بين البربر، فقام بإرسال الفقهاء ليعلموهم اللغة العربية والدين الإسلامي[13]،
وصارت المدينة معسكرًا حربيًّا في البداية، ومركز استيطان وإدارة لدعم
الفتوحات، وأخيرًا مركزًا حضاريًّا ومركز إشعاع فكري وعلمي وثقافي[14].
وهكذا رسخ الخليفة عبد الملك بن مروان أقدام الدولة
الأموية بتأسيس مدينة تونس، وقطع دابر الغارات اليبزنطية بإيجاد مدينة
إسلامية مرتبطة بالأهداف العليا للدولة[15].
القيروان مركز الحضارة الإسلامية بالمغرب
لم تبدأ الحياة العلمية المركَّزة إلا بعد تأسيس القيروان
سنة 50هـ، فسرعان ما أصبحت القيروان مركز الحضارة الإسلامية بالمغرب
وعاصمته العلمية، منها انطلق الدعاة وإليها رحل طلاب العلم من الآفاق. ولا
شك أن الصحابة الذين كانوا في جيش عقبة قد جلسوا للتدريس فيه على النمط
الموجود في مدن المشرق آنذاك، فقد كان مع عقبة أثناء تأسيس القيروان
ثمانية عشر صحابيًّا[16]،
وقد مكثوا فيها خمس سنوات كاملة كان عملهم فيها - ولا شك - نشر اللغة
العربية، وتعليم القرآن والسنة في جامع القيروان، وذلك أثناء بناء مدينة
القيروان، حيث لم تكن هناك غزوات كبيرة تتطلب غيابًا طويلاً عن القيروان،
أمّا في غزوة عقبة الثانية فقد كان معه خمسة وعشرون صحابيًّا[17]، وسائر جيشه من التابعين.
ولقد استقطبت القيروان أعدادًا هائلة من البربر المسلمين
الذين جاءوا لتعلم الدين الجديد، قال ابن خلدون عند حديثه عن عقبة: "فدخل
إفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر، فكبُرَ جمعُه، ودخل أكثر البربر في
الإسلام ورسخ الدين[18]، ولا شك أن الفاتحين قد خصصوا لهم من يقوم بهذه المهمة"[19].
ومن القيروان انتشر الإسلام في سائر بلاد المغرب، فقد بنى
عقبة بالمغربين الأقصى والأوسط عدة مساجد لنشر الإسلام بين البربر، كما
ترك صاحبه شاكرًا في بعض مدن المغرب الأوسط لتعليم البربر الإسلام[20]،
ولما جاء أبو المهاجر دينار لولاية إفريقية تألَّف كُسيلة وقومه وأحسن إلى
البربر، فدخلوا في دين الله أفواجًا ودعّم حسان بن النعمان - فيما بعد -
جهود عقبة في نشر الإسلام بين البربر حيث خصّص ثلاثة عشر فقيهًا من
التابعين لتعليم البربر العربية والفقه ومبادئ الإسلام[21]، وواصل موسى بن نُصير هذه المهمة حيث: أمر العرب أن يعلّموا البربر القرآن، وأن يفقّهوهم في الدِّين[22]، وترك في المغرب الأقصى سبعة وعشرين فقيهًا لتعليم أهله[23].
2- إنشاء دار صناعة السفن بتونس:
عزَّزت الدولة الأموية القوة العسكرية بإنشاء سلاح
البحرية، وأقامت دارًا لصناعة السفن في تونس، وزودت هذه الدار بما يلزمها
من المواد والصناع[24].
3- التوسع في الصناعات الحربية:
توسعت هذه الصناعة في عهد عبد الملك بن مروان وفتح دارًا
بتونس لصناعة السفن الحربية، وكانت نواة تلك الدار ألف عامل متخصص في
صناعة السفن تم نقلهم من دار الصناعة - المنطقة الصناعية - بمصر، وقد تم
وضع التنظيم اللازم وطريقة إمداد تلك الدار بالأخشاب من الغابات الإفريقية
الداخلية، واختيار جماعات من البربر من سكان تلك المناطق للقيام بتلك
المهمة، حيث هم أخبر الناس بمناطق وجود الأخشاب الجيدة الملائمة لتلك
الصناعة[25].
وفي إرسال دار الصناعة بمصر لألف عامل ليكونوا نواة التصنيع بتونس، ما يدل
على مدى تطور تلك الصناعة بمصر وكبر حجمها. وفي تطور لاحق لصناعة السفن
الحربية بتونس، قام والي تونس بتوسيع دار الصناعة بها؛ فشق قناة بين
الميناء وبين المدينة بطول اثني عشر ميلاً[26]، وشكلت هذه القناة ما يماثل اليوم أحواض بناء السفن أو الأحواض الجافة[27]، وأصبحت مناطق دور صناعة السفن الحربية مناطق جذب سكاني[28].