لبنان... والوحدة العربية
معن بشور
قلّة بين لبنانيين كثر يتحدثون بإعجاب عن تجربة الرئيس الراحل فؤاد شهاب "1958 ـ 1964" تتذكّر أن من أهم أسباب الاستقرار، فالازدهار اللبناني الذي أطلقته تلك التجربة الإصلاحية المهمة، كان وجود دولة عربية كبرى مجاورة للبنان قامت بين مصر وسوريا وأعلنت في بيان تأسيسها أنها "توحّد ولا تفرّق، تصون ولا تبدّد، تشدّ أزر الصديق وتردّ كيد العدو"...
فالعروبة حين تكون قويّة في المنطقة يكون لبنان منيعاً ومزدهراً، وكلما كان العرب يشكون من تشرذم أو ضعف أو عجز أو هزائم كان لبنان يعاني توترات وانقسامات وتدخلات تسهم في إبعاد أبنائه بعضهم عن بعض وفي احترابهم، حتى يمكن القول إنه ما من مرّة اهتز معها العمق العربي للبنان إلاّ واهتزّ لبنان بأسره، وما من مرّة اعتزّ أشقاؤه العرب بقوتهم وتضامنهم، إلاّ واعتزّ اللبنانيون بوطنهم وتألق دورهم في ثقافة العرب واقتصادهم وحياتهم.
وإذا كانت "خيمة الحدود" بين الرئيسين الراحلين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة بإقليميها الشمالي "سوريا" والجنوبي "مصر" قد ألقت بظلالها على لبنان، لسنوات عدة، استقراراً وازدهاراً سمح بقيام إصلاح ومؤسسات، فإن القيادة الوطنية السورية التي كانت قوية بانتصارها على الانتداب الفرنسي ساهمت في تثبيت الكيان الوطني اللبناني المستقل عام 1943، تماماً مثلما سمح التضامن العربي المتمثل بقمتي الرياض والقاهرة بأن تلعب دمشق بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد دوراً مهماً في إنهاء الفصل الأول من الحرب الأهلية عام 1976 "حرب السنتين"، ثم أن تنجح بعد اتفاق الطائف عام 1989 "الذي كان أيضاً ثمرة تفاهم عربي"، في مساعدة اللبنانيين كي يرسوا عقداً ونيفاً من الاستقرار مكّن المقاومة من تحرير الأرض أيضاً عام 2000 دون قيد أو شرط، تماماً مثلما سمح التفاهم السوري ـ السعودي قبل عام بدخول لبنان مرحلة وفاق وطني متجدد إثر زلزال كاد يعصف بمكوناته بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري قبل خمس سنوات.
فالوحدة العربية إذاً، سواء كانت دستورية بين دولتين مهمتين، أو تفاهماً وتضامناً ووحدة صف، كانت دوماً سنداً للبنان ووحدته واستقلاله واستقراره، والانقسام العربي، مهما كانت أشكاله وتجلياته، سرعان ما كان ينعكس على تماسك لبنان ويهدد بتقسيمه، سواء تسبّبت بوقوعه معاهدة صلح منفرد مع العدو، مثل معاهدتي كمب دايفيد "1978" التي غرق بعدهما لبنان في حروب داخلية وغزوات صهيونية كانت تتغذى بعضها من بعض، أو تسبّب به ضيق نظر بعض الحكام العرب "حتى لا نقول أكثر" الذين رأوا أن الطريقة المثلى للتعامل مع غزو أنكلو- أميركي- صهيوني لبلد عربي مهم كالعراق، يكمن في الانحناء أمام عواصفه، والاستسلام لإملاءاته، والتواطؤ مع إفرازاته.
وبهذا المعنى، فإذا كانت الوحدة العربية هدفاً قومياً للعروبيين اللبنانيين يرون فيها تكاملاً بين وطنيات، وتواصلاً بين مصالح، واحتراماً لخصوصيات، فهي لكل اللبنانيين سند لوحدتهم الوطنية، ودعماً لاستقلالهم، وتحصين لأمنهم الوطني، ومدى فسيح لإشعاعهم الثقافي والحضاري، ومجال حيوي لنمو اقتصادهم.
بل بهذا المعنى أيضاً، فللبنان اليوم، شعباً ونخباً ومسؤولين، دور في إعلاء شأن فكرة الوحدة العربية التي يعلو معها شأن لبنان ويتألق معها دوره، خصوصاً بعد أن علّمتنا التجارب الوحدوية كلها أن الوحدة المطلوبة بين العرب ليست طغياناً لقطر على آخر، أو لجماعة على جماعة، بقدر ما هي خيار ديموقراطي حقيقي لدول تتقدم باتجاهه بالسرعة المناسبة لظروفها، مدركة أن لا مكان في هذا العصر إلاّ للتكتلات الكبرى حتى لو كان بين دولها حروب، فكيف إذا كانت هناك بين هذه الدول روابط جغرافية وثقافية، ومشاعر وجدانية ضاربة في عمق التاريخ، ومصالح مشتركة، وتحديات واحدة، كما هي الحال بين العرب.
قد يقول قائل أليس الحديث عن الوحدة العربية ضرباً من الخيال، حتى لا نقول من الجنون، في زمن يسود فيه التمزق والتشرذم والنزاعات الأهلية، المعلنة والكامنة، في معظم أقطارنا العربية، ولكن الجواب يصبح جواباً واقعياً جداً، إذا لاحظنا أن حال التفتت والضعف والفشل في كل مجال من مجالات حياتنا ما كان لها أن تسود إلا بعد أن تراجعت رابطة العروبة الجامعة والعابرة لكل عصبية متخلفة قطرية أو مذهبية، العروبة التي يتساوى معها وفيها كل المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن العرق والدين والمذهب.
والحديث عن أسباب تراجع العروبة، ومعها حركة الوحدة العربية، حديث يطول لأنه يتصل بحجم الحرب الخارجية المستمرة عليها منذ قرون، كما يتصل بحجم الإخفاقات الداخلية التي شهدتها أنظمة وحركات حملت لواء الوحدة العربية، ولكنها لم تنجح في امتحان إنجازها.
ومثلما كان دور اللبنانيين الرّواد في حركة النهضة العربية مشعاً على امتداد الوطن العربي الكبير، فأسّس للبنان مكانة خاصة بين أشقائه، فإن دور رواد لبنانيين في إعلاء شأن الوحدة العربية بمضمونها الديموقراطي بين المواطنين، والتكافئي بين الأقطار، والتكاملي بين المصالح، من شأنه اليوم أن لا يسهم فقط في المناعة اللبنانية بوجه كل التحديات، وفي النجاح اللبناني في كل المجالات، بل أن يعزّز مكانة هذا البلد الذي بات في مقاومته نموذجاً، وليكتشف كل عربي أن لبنان ضرورة لأمته، تماماً كما يكتشف كل لبناني أن العروبة هي حاجة للبنان.
ومن هنا، تماماً لا يكون إحياء لبنان لذكرى قيام وحدة رائدة ومغدورة بين بلدين شقيقين وعزيزين كسوريا ومصر قبل 52 عاماً مجرد فعل حنين لماض تليد، أو نوعاً من الاحتفاء بإنجاز قومي ما زال محركاً لمشاعر أمة، بل هو أيضاً إسهام في تحصين لبنان، دوراً وكياناً وأمناً ونمواً واستقراراً، خصوصاً بعد أن أثبتت الأيام أن عروبة قوية بديموقراطيتها وتقدميتها وحضاريتها، هي قوة للبنان تماماً مثلما أن لبنان قوياً بوحدته ومقاومته ورسالته هو قوة لكل أشقائه العرب.
Alarab Online.
All rights reserved.
ارسل هذا الخبر الى صديق بالبريد الالكتروني
نسخة للطباعة