إعلان الحرب على الأقمار الصناعية العربية
نبيل زكي
يبدو أن الولايات المتحدة قررت عدم الاكتفاء بالصمت العربي– وربما الانكفاء أو التخاذل أو التواطؤ– في مواجهة حروب أمريكا في المنطقة ودعمها الكامل والشامل لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي والتوسع الصهيوني الذي يبتلع أرض فلسطين.. برمتها. لم يعد هذا كافيا من وجهة النظر الأمريكية.
إنها الآن تطالب العرب بوقف هجوم وسائل الإعلام العربية على جرائم أمريكا وانحيازها المطلق والأعمى للمحتلين الإسرائيليين. أصبح المطلوب هو إسكات الإعلام العربي وتحريم– وكذلك تجريم– أية إشارة إلى الاحتلال الأمريكي في أي بقعة من هذه المنطقة! وثمة تهديدات أمريكية تواكب هذا الطلب، وتدخل فظ في الشؤون الداخلية للدول العربية.
اعتبر وزراء الإعلام العرب أن مشروع قرار مجلس النواب الأمريكي الذي يدعو إلى فرض عقوبات على مشغلي الأقمار الصناعية التي تبث قنوات تلفزيونية، تم تصنيفها على أنها "إرهابية"، هو تدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.. ذلك أن الدول العربية تعالج قضاياها الإعلامية وفق تشريعاتها الوطنية.
كان مجلس النواب الأمريكي قد أقر في الثامن من شهر ديسمبر الماضي مشروع قرار يعاقب مشغلي الأقمار في حالة تعاقدهم مع قنوات فضائية تعتبرها الولايات المتحدة مناهضة لأمريكا وإسرائيل وتحرض على العنف ضد الأمريكيين، بشكل متكرر. ويخص القرار، الذي تقدم به النائب الجمهوري "جيس بيليراكيس"، بالذكر قنوات مثل "المنار" و"الأقصى" و"الرافدين" و"الزوراء" و"العالم".
ويحث القرار، الذي يحمل رقم 1308 الحكومات "في جميع أنحاء الشرق الأوسط وحلفاء الولايات المتحدة والدول المسؤولة الأخرى" على "توجيه إدانة رسمية وعلنية للمسؤولين عن التحريض على العنف ضد الأمريكيين والولايات المتحدة". ويشير– بشكل خاص– إلى القمر الصناعي المصري "نايل سات" والقمر الصناعي العربي "عرب سات".
ويرى القرار الأمريكي أن قناة "الأقصى" منظمة إرهابية عالمية "!" وأنها بثت في وقت من الأوقات شريطا لطفل عربي يطعن الرئيس الأمريكي حتى الموت ثم يحول البيت الأبيض إلى مسجد!
.. وعقوبات مالية!
ويحتوي قرار مجلس النواب الأمريكي على فقرة هامة لها مغزاها ودلالتها.. تحث الرئيس الأمريكي على أن "يأخذ في اعتبار الرعاية التي تقدمها دول معينة للتحريض على العنف ضد الولايات المتحدة عند تحديد مستوى المساعدات ودرجة وطبيعة العلاقات مع الدول الإقليمية في الشرق الأوسط".. في إشارة خاصة إلى مصر باعتبارها مالكة "النايل سات" وجامعة الدول العربية مالكة "العرب سات".
وكانت وزارة الخزانة الأمريكية قد حظرت جميع المعاملات المالية بين أي مواطن أمريكي وبين قناة "الزوراء" أو مالكها "مشعان الجبوري" المعارض العراقي بعد أن اتهمت تلك القناة بأنها "تهدد سلام واستقرار العراق والحكومة العراقية". كما اعتبرت الولايات المتحدة أن قناة "الرافدين" العراقية تابعة لهيئة علماء المسلمين في العراق؛ وهي من وجهة النظر الأمريكية منظمة معادية للولايات المتحدة في العراق.
وإذا كانت قناة "الزوراء"- كما يرى الأمريكيون– تبث عمليات عسكرية ضد القوات الأمريكية في العراق، فإن قناة "الرأي" هي نفسها قناة "الزوراء" في رأيهم بعد أن غيرت اسمها وظهرت في ثوب جديد للتحايل على تجميد وزارة الخزانة الأمريكية لحسابات مشعان الجبوري في يناير 2008 ووضعه على قائمة "المنظمات والشخصيات الإرهابية".
وتصرفت الإدارة الأمريكية على أساس أنها مقتنعة تماما بأن الجبوري هو المؤسس والمالك الفعلي لقناة "الرأي" التي يقع مقرها في منطقة يعفور قرب دمشق، وأن زوجته "روعة الأسطى" تعمل لديه وبالنيابة عنه، كمديرة لقناة "الرأي" حيث تتولى الشؤون التقنية والإدارية. ولذلك واجهت القناة في البداية تشويشا ومضايقات أمريكية بغرض إيقافها، مثلما حدث في قناة "الزوراء"، وبعد ذلك أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية في 16 سبتمبر الماضي "2009" قرارها بتجميد أموال وحسابات قناة "الرأي"، وتكرر ما حدث للزوراء. كما تم تجميد حسابات "روعة الأسطى" ومؤسسة سوراقيا للإعلام والبث في دمشق التي تبث منها قناة "الرأي"، وكذلك حسابات الشيخ "حارث الضاري" رئيس هيئة علماء المسلمين في العراق.
أخبار المقاومة.. ممنوعة!
ومعلوم أن المسؤولين في شركة "نايل سات" اضطروا إلى وقف بث قناة "الزوراء" لأسباب فنية بسبب تأثير التشويش الأمريكي الموجه ضد هذه القناة.. على القنوات الأخرى التي تبث على القمر المصري.
وتتوقع قناة "الرأي" أن تلحق بمصير "الزوراء"؛ والسبب هو أنه على الرغم من "الثوب الجديد" للقناة ومحاولتها الابتعاد عن مظهر "الزوراء" القديمة والاستعانة بمذيعة ذات مظهر أوروبي وإبدال وتغيير هيئة مذيع عمليات المقاومة السابق وتقديمه في بدله أنيقة ليحل محل الثوب العراقي الشهير بالعقال، وإدخال أشكال منوعة في برامج القناة، فإن القناة استمرت في بث أشرطة فيديو لعمليات المقاومة للمحتلين الأمريكيين في برنامج "حصاد المقاومة".
ومن هنا، جاء تصريح ستيوارت ليفي مساعد وزير الخزانة الأمريكية لشؤون الاستخبارات المالية و"الإرهابية"، قبل حوالي ثلاثة أشهر، الذي يتهم فيه "روعة الأسطى" بأنها تدير القناة بالنيابة عن زوجها. وفي تقدير قناة "الرأي" أن مؤسسة "ميمري" الصهيونية كانت وراء صدور قرار وزارة الخزانة الأمريكية بتجميد أموالها والتشويش عليها بغرض غلقها.
قائمة سوداء!
أما قناة "المنار" فإن مجلس النواب الأمريكي يعتبر أن الحزب الذي تتبعه "حزب الله اللبناني" ليس سوى "منظمة إرهابية"، وأن هذه القناة التي انطلقت كقناة فضائية في عام 2000، هي قناة مقاومة" يستخدمها الحزب "لدعم أهدافه في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل بوسائل العنف".
ومما يضايق مجلس النواب الأمريكي أن قناة "المنار" تبث على الأقمار الصناعية "نايل سات" و"عرب سات" وذلك بالإضافة إلى القمر الأندونيسي "بالاب سي- 2" مما رفع عدد مشاهدي القناة، كما أن رئيس الحزب والمسؤولين فيه يظهرون كثيرا على هذه القناة منادين بـ"الموت لأمريكا"، إلى جانب بث لقطات حول عمليات فدائية ضد القوات الأمريكية في العراق.
ولما كانت الولايات المتحدة تتهم القنوات الإيرانية، ومنها قناة "العالم" الناطقة باللغة العربية، بأنها تحرض على العنف ضد الولايات المتحدة فقد وضعها مجلس النواب الأمريكي في قائمته السوداء إلى جانب قناة "الأقصى" التابعة لحركة حماس في غزة التي يعتبرها النواب الأمريكيون منظمة "إرهابية".
الإرهاب والمقاومة
السؤال المنطقي، بعد هذا التحرك لمجلس النواب الأمريكي، هو: هل الهدف هو إخراس كل صوت حر يفضح السياسات الأمريكية والصهيونية ويتبنى قضايا التحرر الوطني وحق تقرير المصير وحق الشعوب في مقاومة الاحتلال الأجنبي؟ وهل الهدف هو ضرب الإعلام العربي؟ ثم..– وهذا هو المهم– ما هو تعريف الإرهاب؟ يعود هذا السؤال إلى الواجهة مرة أخرى بعد أن تأكد إصرار الولايات المتحدة على الخلط بين مقاومة الاحتلال.. وبين الإرهاب. والعرب ضد الإرهاب، وقد عانوا كثيرا من النشاط الإرهابي، وما زالوا يعانون.
أما أن يعتبر الأمريكيون باستمرار أن كل من يقاوم الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية، وكل من يقاوم الاحتلال الأمريكي للعراق "إرهابيا" فإن هذا هو المرفوض. فالإرهاب هو احتلال أراضي شعب آخر واغتصاب حقوقه وإهدار كرامته ونهب ثرواته.
تنطع ووقاحة
أما معاقبة فضائيات عربية متهمة بـ"التحريض" ضد واشنطن بسبب انتهاج أغلبها لنهج المقاومة ضد الاحتلال، واعتبار أن مالكي الأقمار الصناعية في الشرق الأوسط بمثابة مشرفين على منظمات "إرهابية".. فهو استخفاف بالعقول وتنطع وتزييف للحقائق. وتصل الوقاحة بالنواب الأمريكيين إلى حد إلزام الرئيس الأمريكي بتقديم تقرير سنوي شامل حول "التحريض ضد أمريكا" في الشرق الأوسط، ووضع قائمة لدول المنطقة ووسائل إعلامها التي "تحرض على العنف" ضد الولايات المتحدة!
وهكذا يقرر النواب الأمريكيون أن بلادهم فوق مستوى النقد، وأن كل من يعارض ويقاوم السياسة الأمريكية في المنطقة.. ليس سوى "إرهابي متعطش للدماء"!.
إذن.. فإن هناك في الولايات المتحدة، من يتصورون أن في إمكان قواتهم، المسلحة أن تقاتل على أرض خمس دول إسلامية وتقتل مئات الآلاف "وربما ملايين الناس" دون أن يرفع صوت بالشكوى والاحتجاج! ويندرج في إطار النشاط "الإرهابي"- من وجهة النظر الأمريكية– التجنيد وجمع الأموال.. والدعاية!
ويعتمد مشروع قرار مجلس النواب على قوانين أمريكية صدرت عقب هجمات 11 سبتمبر 2001. ولكن ماذا عن القوات الفضائية الأجنبية التي تبث برامج إعلامية تحريضية ضد العرب والمسلمين؟
قنوات نحتاجها
الصحيح في الأمر هو أن هناك قنوات فضائية عربية تروج للخرافات، والدجل والشعوذة "مثل تفسير الأحلام!" وقنوات تطلق فتاوى التكفير والتعصب ولا تحترم الآخر أو حق الاختلاف. وهناك قنوات عربية تسعى إلى تكريس التخلف السياسي والثقافي والفكري وتحارب العلم والمعرفة والتعددية الدينية والثقافية، وتقاتل دفاعا عن الجهل والظلامية والجمود والطائفية والتزمت. وهناك قنوات تستغل الدين لأغراض سياسية، وتعتبر الاستنارة وحرية الفكر والعقيدة خروجا على مبادئ الدين! وهناك قنوات تمارس التمييز الديني والتمييز على أساس النوع أو اللون أو الجنس، ولا تعرف شيئا عن حقوق المواطن، تستعين بمشايخ لا يميزون بين صحيح الدين وجوهره وبين الخزعبلات التي يرددها الجهلاء.
كل هذا صحيح، ولكن لا يدخل في اختصاص الولايات المتحدة ولا يعنيها في شيء، بل لعلها ترحب بهذا النوع من الفضائيات.. حتى يبقى العرب أسرى للجهل والتخلف..
إننا في حاجة إلى قنوات فضائية تدافع عن الاستقلال الوطني والسيادة القومية وحق الشعوب في تحرير نفسها من الاستعمار والاحتلال والاستيطان الأجنبي ومن التخلف. ونحن في حاجة إلى قنوات فضائية تستشرف المستقبل ولا تعيش في الماضي، تنشر الثقافة العلمية، وتكون نافذة العرب على العالم ليواكبوا التطور في كل الميادين.. وفي حاجة إلى قنوات تحترم المبادئ المهنية الأساسية في كل أشكال العمل الإعلامي وحرية الرأي والتعبير، وتتمسك بالمصداقية والشفافية والنزاهة والاستقلالية.. وهذه هي الأهداف التي لا يحققها غيرنا في وسائل إعلامنا، ودون أي تدخل خارجي.
Alarab Online.
All rights reserved.
ارسل هذا الخبر الى صديق بالبريد الالكتروني
نسخة للطباعة
ا