التصور المذهبي والرؤية المنظمة شرطان للتقدم
أزراج عمر:
إن ما يميز الأمم المتقدمة، أو التي تعمل لكي تتقدم من الأمم التي تدور في الحلقة المفرغة، وتعيد إنتاج الأخطاء ذاتها، والتجارب الفاشلة يتمثل في أن الأولى تتحرك في جميع المجالات وفق تصورات ومخططات واضحة المعالم، وعلى أساس برامج مكرسة للتحول الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي. أما الثانية فإنها تسير بدون بوصلة؛ وأكثر من ذلك، فإن الأمم المتقدمة قد تمكنت من صنع التقدم بواسطة إخضاع التصورات والمخططات للتعديل، وللتطوير على ضوء النقد الذاتي الذي ينشد التغيير والإصلاح.
وبهذا الصدد سأحاول هنا أن أقدم قراءة لبعض أفكار الكاتب السياسي الجزائري الراحل مصطفى الأشرف. فالأشرف الذي عايش حركة التحرر الوطني الجزائري من موقع القيادة، وكذلك فترة الاستقلال من موقع المسؤولية التنفيذية والحزبية قد ترك لنا مجموعة من الأفكار لكي نتأملها، ونعمل بها بعد إدراكها على ضوء متطلبات الواقع الاستقلالي.
ومن هنا، فإن تحليل هذه الأفكار يكتسي أهمية بالغة وضرورية. إنه في تقييمه لحركة نزع الاستعمار الأجنبي يعتقد بأن الحديث الدائم عن الثورة وبشكل رومانتيكي لا يفيد، لأن هؤلاء المنخرطين فيما يشبه استيطان الماضي والانغراس فيه على نحو مغلق "لم يدركوا أنهم لم يكونوا يعرفون موضوعا آخر للحديث سوى الثورة، ولم يدركوا بأن البناء مهما كان، لا بد أن يتم حسب طريقة منهجية، وعلى أسس تشريعية ثابتة؛ وقد أرادوا أن تبقى الثورة في مجالها النظري، فلا حاجة إذن لإخراجها إلى المجال العملي، ولا حاجة لإقامة البنيان الضرورية، ولا حاجة للتفكير في المستقبل".
فالعمل بالطريقة المنهجية على أسس تشريعية وجعل النظري متزامنا مع العملي وتأسيس الهياكل ينبغي أن يستند إلى التصور الذهني "الفكري"، وذلك في إطار التنظيم والتخطيط، إنه بدون توفر هذه الشروط الأولية، فإن النجاح مستبعد، كما أن النكسة، أو التقهقر هما النتيجة المحتومة. إنه صحيح أيضا أن هذه الأركان المذكورة مرهونة أيضا بما يدعوه الأشرف بالتحليل النظري، والتطبيق التدريجي مع احترام السياق.
وهكذا فإن فصل التصور عن السياق، وعزل الطريقة عن التصور والسياق معا أمر يؤدي باستمرار "بالنظرات الفكرية" إلى السقوط، والارتماء في "أضغاث الأحلام". إن عدم الالتزام بما سبق ذكره يتحول "بصورة حتمية إلى نوع من السلوك الفوضوي الديماغوجي".
المراجعة والتقويم
من الشروط الأخرى التي تستلزمها عمليات البناء الوطني، في منظور الأشرف، ضرورة المعرفة المعمقة بالمجتمع، وإجراء "تقويم دقيق للوضع العام". فالمعرفة الصحيحة للواقع تبنى على ما يلي، حسب رأيه: "1- عمل يستهدف معرفة الواقع" سواء كان جزائريا، أو غير جزائري، مع حتمية توفر "الرؤية وعدم المجاملة. 2- عمل يقوم على إعادة النظر، انطلاقا من العمل الأول، في كثير من الأفكار الراسخة، والمفاهيم الخاطئة، والآراء الشائعة، والحقائق المروجة في كل مكان، والأساطير الباطلة، وغير ذلك يخص مثلا الفلاحين، والدور الرئيسي للجيش، والشعور بالمسؤولية المدنية، والمحتوى الثوري الدقيق لمفهوم الشعب والاشتراكية والشعور بالانتماء إلى طبقة معينة وإلى الوطن.. إلخ"..
إن إعادة النظر في هذا الإطار تنفهم بأنها نقد ذاتي لطرائف التفكير، ولأساليب الممارسة والتطبيق، وللآليات الموظفة، وللطاقات البشرية المنفذة، وللمسؤولين الذين أسندت وتسند إليهم مهام إنجاز التصورات والمخططات في الميدان العملي.
ويولي الأشرف أهمية مركزية لظاهرة الفساد بكل أنماطه الذهنية، والاقتصادية، والسياسية، والوظيفية: "إن سوء التسيير المالي يعد بدون شك من الأمراض المستعصية في البلدان المتخلفة التي ورثت زيادة على هذا، بعض التقاليد الفاسدة من القرون الوسطى، كالطمع وعدم التحسب للمستقبل".
فالفساد بكل أنماطه وأشكاله، في تحليل مصطفى الأشرف، هو نتاج لعوامل معقدة ومتشابكة منها التفكير الخرافي، والتهافت على المادة والبذخ وجملة من السلوكات التي توحي بأنها ذات طابع ديني، ولكنها في العمق هي مجرد شعوذة، ونتاج لأنماط الشعوذة، والطفيلية الرأسمالية.
البدء من الريف
يعتبر الريف الفضاء الحقيقي لتقدم الأمة أو تخلفها. وبسبب الموقع المركزي للريف فإن النظريات التحديثية تجمع على أنه المعيار الأساسي لأي تحول مادي ورمزي. ويلاحظ مصطفى الأشرف بالنسبة للتجربة الجزائرية في زمانه، وحتى الآن في رأيي الخاص بأنه "لم يتغير شيء بالنسبة إلى جماهير الفلاحين واستعدادهم لقبول مرافق التقدم والحضارة، وتغيير نمط حياتهم تغييرا جذريا".
وبهذا الصدد فإن ثمة نغمة مفسرة تتردد هنا وهناك بأنه "أصبح من الثابت اليوم بأن هذه الجماهير غير قادرة على التحول، ما لم تتخلص من جميع القيود التي استطاعت أن تحطم بعضها أثناء حرب التحرير". ويمكن هنا استعمال الفكر النقدي لكي يتم تحليل سلسلة القيود التي تقيد فلاحي وفلاحات الأرياف منها الشعوذة والذهنية الغيبية والخرافات، فضلا عن الأمية الحرفية والمهنية والصحية والأسرية والسياسية والتقنية وهلم جرا.
إلى جانب ما تقدم فإن الأرياف تعاني من عدد معقد من المشكلات ذات الصلة بالتنمية، والتعليم الذي تطور نسبيا من حيث الكم، وليس من حيث الكيف. فالمراجعة النقدية الذاتية تستدعي طرح ملف تطوير الريف ماديا، وثقافيا، وإعلاميا بكل جرأة وواقعية وبدون لف ودوران.
ففي أوروبا الغربية المتطورة فإن الريف أكثر تطورا من المدن من حيث التنظيم الأسري والإداري والخدماتي والمواصلات والمعمار وتوزيع رأسمال المعرفة بكل أنماطها ونماذجها ذات المحتوى والشكل الحداثيين. وهكذا، فإن المدن الأوروبية المتقدمة هي امتداد للريف المتطور على الأسس العقلانية الحديثة بضوابطها التقنية والتكنولوجية والمعلوماتية وكذا الزراعية الأكثر حداثة.
وعلى سبيل المقارنة فإن أريافنا مفصولة بهوة سحيقة عن المدن الحضرية على صعيد السياسة والحركية الثقافية، علما أن مدننا قد أصبحت بدورها امتدادا سيئا لريفنا المعزول.
ونظرا لما تقدم، فإن التصور المذهبي، والرؤية المنظمة والمخططات ينبغي أن تأخذ بين الاعتبار والنظر وعلى نحو جدي وحاسم معادلة الريف والمدينة كفضائين يجب أن يعم فيهما التقدم والتطور على أصعدة البنيات التحتية، والفوقية معا، شرط أن يتم إخراج الريف من دائرة الفولكلور المتخلف والمتزمت كذهنيات وكسلوكات بما في ذلك واقع المرأة الفلاحة. إنه من المستحيل تحقيق نهضة حضارية متمدنة ومتطورة بدون إحداث تحويل للريف وسكانه، وذلك بتغيير شخصيته القاعدية نحو الأفضل.
الآليات والمناهج
يتحدث مصطفى الأشرف في كتابه "الجزائر: الأمة والمجتمع" عن الطريق الجديد للتحول وشروطه المادية والفكرية والعلمية. ومن بين الآليات التي يقترحها إعادة تكوين المناضلين سياسيا، وإصلاح "ما بقي في طبائعهم من عقلية بدائية وسلوك طائش وآراء ارتجالية وأفكار منافية للواقع".
وهنا يطرح مجموعة من القضايا ذات الصلة بتحقيق الغرض المنشود، منها قضايا اتسام الفكر بالجدية، وتزامن وتعالق الإيمان بوضوح الرؤية، وتجسيد الإدارة للعدالة، وتحقيق التعليم العقلاني ذي المضمون العلمي العصري ونبذ جمود الروتين، والتخلص من المؤسسات "الرأسمالية الثقيلة والعقيمة" لأن خصائص مجتمعاتنا التاريخية تتميز بالجماعية.
الثقافة الأجنبية والموقف منها
يرصد مصطفى الأشرف مشكلة الآثار الثقافية واللغوية الاستعمارية ببلداننا على ضوء خصوصية الجزائر. وبهذا الخصوص يرى بأن ادعاء "البعض بأن استعمال اللغة الفرنسية كان مفروضا علينا فرضا، وهذا كلام لا يقول به إلا من كان ساذجا، ينظر نظرة سطحية من غير تحليل ولا تمحيص، لأن هذا معناه أن الاستعمار قام بعمل يستحق التنويه. فكيف يصح هنا القول، إذا علمنا أن نسبة الأميين في البلاد لا تقل عن 85 في المئة من السكان رغم أن هؤلاء ظلوا على صلة باللغة الفرنسية طيلة 130 سنة"؟.
على أساس ما تقدم فإن الاستعمار الفرنسي، أو الإيطالي لم يفرض اللغة على مواطنين برغبة تعليمهم وترقية معارفهم ومحو أميتهم وجعل المعرفة قاسما مشتركا بينهم؛ وبالعكس فإن الاستعمار قد فرض عمليات نزع الثقافة الوطنية وحاملها اللغوي، كما فرض التجهيل بكل أشكاله. فالنخب القليلة التي شملها التعليم الفرنسي تعد من حيث العدد مجهرية، وتعد من باب إلحاق تلك النخب بالإدارة الفرنسية لتكون أداة من أدوات محو الأمة وهويتها الثقافية– اللغوية. إلى جانب ذلك فإن الاستراتيجية الكولونيالية قد لعبت على وتر إنشاء الطبقية اللغوية بما يؤدي إلى تمزيق الوحدة اللسانية. ويؤكد مصطفى الأشرف بأن السياسة التعليمية الكولونيالية قد استفاد منها "أبناء الإقطاعية المرتزقة التي خلقها الاستعمار".
وفي إطار بناء الشخصية الوطنية يرى الأشرف بأن اللغة الوطنية، أو اللغات الوطنية، بمفهومنا المعاصر "ليست من مقومات الأمة فحسب، بل هي كذلك– وبالدرجة الأولى– من مقومات المجتمع النشيط الذي لا يريد أن يضمحل". وهنا يميز الأشرف تمييزا صائبا بأن اللغة ترتبط بالمجتمع على نحو أكثر تأكيدا من ارتباطها بالأمة، ويقدم المثال التالي لتوضيح وتبرير حجته: "إذ توجد أمم لها ثقافة مزدهرة، مثل الهند مع أن لغتها الرسمية هي لغة أجنبية".
وفي هذا السياق يدرج بعد التربية الذاتية ضمن التصور العقلاني والرؤية المنظمة للمجتمع؛ ويرى بأن التربية الذاتية تتحرك على عدة محاور منها زعزعة المحتوى الخرافي والشعوذي والمتخلف للتراث الفكري والتراثات الأخرى، وإقامة التوازن "بين القديم وبين الجديد". إن مصطلح القديم هنا له علاقة بالزمن وليس بالتخلف والرجعية؛ ومن هنا تطرح مسألة مراجعة الذات، والعلاقة بالآخر كضرورة حتمية.
Alarab Online.
All rights reserved.
ارسل هذا الخبر الى صديق بالبريد الالكتروني
نسخة للطباعة