إسرائيل وحروب بالوكالة
جميل حمادة
اعتادت الأمة العربية، ثم اعتاد العالم معها أن يتوقع حروبا دائمة تشنها عادة حكومات الكيان العبري كلما واجه هذا الكيان أزمة أو شعر بتهديد أو أحس ببوادر قوة قد تهدده أو تهدد حدوده أو وجوده، ورغم أن أمتنا العربية صارت مهددة كل يوم في وجودها وعيشها وهويتها وتاريخها من قبل هذا الكيان، إلا أن الأنظمة العربية على ما يبدو لا تشارك شعوبها هذا الشعور.. بل وتشعر بطمأنينة استثنائية وراحة هائلة، لا أحد يدري مصدرهما بالتحديد..!!
وقد أصبح معلوما ومتداولا بأن الكيان الصهيوني قد اعتاد على وأد أو تصدير أزماته الداخلية بافتعال حروب على "جيرانه" القريبين من دول الطوق، أو على دول جوار بعيد.. حيثما أرسلته هواجسه، واستدعاه أمنه المزعوم. ولذا نجد مثلا أنه بعد حرب عام 48 التي أعلن فيها الكيان الصهيوني دولته الغاصبة على أرض فلسطين، لم تمض إلا ثماني سنوات حتى قام بالمشاركة والتحريض والعدوان مع قوات بريطانيا وفرنسا في شن العدوان الثلاثي على مصر عبدالناصر 1956، وبعد ذلك بأحد عشر عاما قام بعدوان حزيران 67 الذي مازلنا نعاني من نتائجه حتى كتابة هذه السطور.
ولولا الوهم الذي كان قد تلبس قادة العدو الصهيوني في تلك المرحلة من تعاظم قوة عبد الناصر، ومضاعفة تسليح القوات المصرية بالأسلحة الروسية المتطورة والحديثة، وقوة استخبارات عبد الناصر- العسكرية- بحسب المؤرخين، على نحو لم يمكن استخبارات العدو الصهيوني من اختراق المخابرات العسكرية المصرية- طبعا عكس ما هو حاصل الآن تماما.
وبالتالي لم تستطع التأكد من حجم هذه القوات ومدى فعاليتها إلا في مرحلة متأخرة سبقت العدوان بقليل- ومما دفعها إلى التعجيل بتوجيه ضربة فجائية صاعقة لكل من مصر وسوريا، حتى لا تمكنها من تفادي أية ثغرات فيها، أو قبل اكتشاف الثغرات الاستراتيجية والاستخباراتية فيهما. ثم كانت حرب 1973، أو حرب رمضان، أو حرب تشرين أو حرب أكتوبر- حتى الحرب التي قمنا بها أو وقعت علينا لا نستطيع حتى أن نتحد تجاه تسمية موحدة لها، والتي كانت هي الحرب الوحيدة التي بادرنا بها، ثم اتضح أنها كانت "حربا تحريكية" لغرض في نفس "يعقوب" عذرا؛ نعني السادات، وليست حرب تحريرية، كما كان يفترض لها أن تكون، وتكون المدة بذلك بينهما 6 سنوات.
ثم قامت ما يسمى بدولة "إسرائيل" بعد ذلك بخمس سنوات بالاجتياح الأول للبنان عام 1978 والذي اقتصر على جنوب لبنان، واستمر لبضعة أيام فقط، وكأن ذلك الاجتياح كان مجرد محاولة إكتشاف جغرافية برية للمنطقة، علاوة على كونه اختبارا لقوة الطرف المناويء، أي قوة المقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية، ومدى فعالية الجيش اللبناني وحدود مشاركته في التصدي والمقاومة.
ثم كان اجتياح 1982 للعاصمة اللبنانية بيروت بعد أربع سنوات فقط. أما في المابين، فلم تكف يوما قوات "جيش الدفاع الإسرائيلي"".." يديها عن ضرب أهداف هنا وهناك، في مربع مساحة محددة أحيانا، أو غير محددة في أحايين كثيرة، ولذلك لم تكن لتتوقف عن العدوان هنا أو هناك من بغداد إلى تونس إلى أوغندا إلى نيكاراغوا إلى بنما إلى حتى أقاصي الدنيا، وهي تقوم بمهماتها على أكمل وجه، على نحو لم يعد يهدد "العالم" العربي فقط، وإنما يهدد "هيبة" العالم..! ولا نريد أن نقول "سلطة العالم".. على اعتبار أنها بالفعل واقعة تحت هيمنة وسلطان قوى الصهيونية العالمية، بدءا من البنتاغون الأمريكي والسي. آي. إيه، مرورا بقصر الأليزيه، وانتهاء حتى بأصغر وكيل وزارة أوروبي، وربما عربي أحيانا، وانتهاء بأعمق أو أقصر جدار في أو على حدود فلسطين المحتلة.
وفي اعتقادنا لولا انشغال قوات الكيان الصهيوني بتكسير عظام الأطفال والفتيان داخل غزة والضفة الغربية، وتهشيم رؤوس الرجال وقتل النساء وتهديم البيوت وتجريف الأشجار ومصادرة الأراضي إثر الإنتفاضة الأولى عام 1987، وحتى عام 1991، لما انتظرت أكثر ولقامت بشن حرب على لبنان أو سوريا أو أي مكان آخر، على الرغم من أنها كانت تتمتع بطمأنينة مثالية- لازالت ماثلة حتى اليوم- على الحدود الجنوبية بعد توقيع إتفاقية كامب ديفيد- وعلى الحدود مع الأردن، وحتى قبل توقيع إتفاقية وادي عربة، التي يبدو على أنها وقعت من أجل تحريك المسار السلمي السوري والفلسطيني على وجه التحديد، وتشجيع الأطراف على بذل المزيد من النوايا الحسنة تجاه الجارة "المسالمة"- إسرائيل- حفظها الله..!!
ويبدو أن حروب المدعو جورج دبليو بوش منحت القوى الصهيونية قليلا من الاستراحة- أو هي إجازة مدفوعة الأجرلاحقا، باعتبارها أضحت حروبا بالوكالة عنها، حيث بدأت الحرب العراقية الايرانية تشغل العالم سنوات عدة، و"إسرائيل" تدعم وتتفرج، وأمريكا بدورها تدعم هذا الطرف مرة، وذاك الطرف مرة.. حتى أنهكت تلك الحرب المجنونة قوة البلدين الجارتين، اللتين يفترض أنهما شقيقتان.
وفي عام 1990 قام العراق بغزو الكويت، ثم حدث ما حدث من حصار وتجويع وتدمير يومي وشامل للعراق، حتى غزوه عام 2003. كل هذه السنوات كانت حروبا أمريكو-أوروبية بالوكالة عن إسرائيل التي كانت تحسب ألف حساب للعراق ولقوة الجيش العراقي.. وللمنظومة الأيديولوجية القومية التي كان يتربى عليها الكادر والجندي العراقي في جيش الراحل الشهيد صدام حسين، والتي عملت الولايات المتحدة ومعها إسرائيل على تصفيتها بالكامل، جسديا عن طريق تنظيمات سرية، وجماعات التصفية العرقية الشيعية التي أشيع أنها كانت تتبع "فيلق بدر" أو غيره، وجماعات أخرى قيل أنها تابعة لوزارة الداخلية العراقية.
ثم جرى استبدال كل ذلك بكل هذه الألوان الطائفية التي أضحت شروخا في جسم العراق، كما أصبحت تفرق أكثر مما تجمع. وقد أشرنا في هذه الصحيفة، وفي غير مكان بعد الغزو الأمريكي الهمجي للعراق مباشرة، بأن الولايات المتحدة، لن تخرج من العراق إلا بعد أن تكون قد ضمنت إشعال فتنة أو حرب طائفية، شيعية سنية، أو ماشابه.. وهذا ما يحدث الآن أمام أعيننا، لدرجة أنه أصبح أمرا عاديا جدا، ولكن الخوف الآن ليس من الحرب الطائفية الجارية فعلا على أرض العراق، والتي تحركها عدة أصابع في الداخل والخارج، وكذلك مجموعة طوائف وبعض الدول مما نعلم ومما لا نعلم.
ولكن ما هو أهم وأخطر من ذلك أن الولايات المتحدة يبدو أنها لن تترك العراق بسلام، خاصة وأنها ضمنت السيطرة تماما على مصادر النفط فيه، وأن الجهات التي ستتركها عليه، ما هي إلا جهات ستكون تابعة بالمطلق للإدارة الأمريكية مباشرة. لكن ما هي أضحت متأكدة منه أنها تدرك جيدا أن من تركتهم من جماعات حاكمة، لن يستقر لها حال حتى يتم لها تقسيم العراق إلى ثلاثة أقطار أو أكثر. ويمكن القول أن هذه الخريطة "الثلاثية" في الشمال والوسط والجنوب صارت واضحة ولا تحتاج إلى تفاصيل.
ولكي لا نبتعد كثيرا عن موضوعتنا الرئيسية، وهي هنا الحروب الإسرائيلية والحروب بالوكالة، نكتشف بأن جسدها قد أحاصها و"نملها" كثيرا، من عام 1982 وحتى 1987 إذا اعتبرنا أن الانتفاضة كانت بمثابة حرب معلنة ضد الكيان الصهيوني، حسبما يرى معظم المراقبين وعديد المحللين السياسيين، خاصة وأن "إسرائيل" كانت تواجها تفريغا على كافة الأصعدة من الداخل إلى الخارج، بدءا برؤوس الأموال وانتهاء بالأفراد والهجرة العكسية.. ووسط إرساء وشيوع وترسيخ حقيقة "عدم إمكانية عيش الكيان الصهيوني وسط محيط عربي إسلامي إلى الأبد" التي أصبحت تشاع وتنتشر كسريان المثل والقول المأثور، أو الحكمة السياسية.
معنى ذلك أن "اسرائيل" قد صمدت بدون حرب منذ 1987 وحتى 2001، عندما انشغل العالم بأحداث 11 سبتمبر، التي هزت كيانية الولايات المتحدة، ثم اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2002 إثر زيارة "المقبور حيا" شارون إلى الأقصى. أي بدون حرب حقيقية فيها مواجهة جيوش وغزو واحتلال، ما يقرب من 1982 وحتى "ماشاءالله" 2006، عندما أقدمت على محاولة غزو الجنوب، وانهزمت هزيمة ساحقة، على الصعيدين العسكري والأخلاقي بجدارة، إذا أردنا أن نهمل قليلا الهزيمة السياسية التي منيت بها دولة الكيان الصهيوني إعلاميا وسياسيا عبر الحوارات والنقاشات في الفضائيات العالمية، وعبر أوساط المنظمات والجمعيات الدولية في الأوساط السياسية الأوروبية، والتي صدر عنها الاستفتاء الذي صنف دولة "إسرائيل" بأنها إحدى أخطر الدول على السلم والأمن الدوليين، وخاصة بعد انتهاكاتها الوحشية لكل الأعراف والقوانين الدولية، وقصفها للأحياء والقرى المدنية اللبنانية، أو قتل الأسرى عن سابق إصرار وترصد.
إذن سوف يتضح للقاريء الكريم، وعبرحسبة بسيطة هنا بأن "إسرائيل" قد صمدت صمودا مثيرا دون خوض حرب مع أي من جيرانها هذه المرة؛ هذا إذا اعتبرنا أن القتل اليومي والأعتداءات الوحشية على أبناء شعبنا الفلسطيني والمواجهات البطولية التي يخوضها شعبنا الصامد في وجه قوات الاحتلال، لا تشكل لدولة الكيان حربا فعلية، وكذلك الحال إذا اعتبرنا غاراتها اليومية على جنوب لبنان في العقدين الأخيرين من القرن الماضي أيضا لم تكن كذلك حربا حقيقية، تكون إسرائيل قد ضربت رقما قياسيا في صمودها، لأنها تكون بذلك قد صمدت حوالي 24 سنة "من 82- 2006". ولذلك يمكن تصور وقياس مدى كم كانت بشاعة وعدوانية الحرب الإسرائيلية على لبنان "تموز 2006" على الأقل على الصعيد السيكولوجي الصهيوني، بما يعني أنها كانت تمارس تعويضا ما عن حالة الفقد "أي التنفيس الانتقامي" التي حرمت منها طوال مايزيد عن عشرين عاما.
أما حين تبع ذلك أنها قد منيت بهزيمة ساحقة، أو لنقل في محاولة لتفادي المبالغة- الرسمية- المعتادة، ونقول أنها عندما لم تحقق أهدافها المعلنة على الأقل، فإن ذلك سوف يقودها إلى مزيد من الجنون والعدوانية. وكما قال الدكتور حسن نافعة المحلل السياسي والأستاذ الجامعي متسائلا: لا أدري لماذا كلما إزدادت إسرائيل عدوانية ووحشية نكافئها"".. كأن نبعث لها سفيرا مثلا أو نقيم لها جدارا أو نصدر لها الغاز بأسعار مخفضة..!؟.
Alarab Online.
All rights reserved.
ارسل هذا الخبر الى صديق بالبريد الالكتروني
نسخة للطباعة