لم يكن للشعب الفلسطيني قوى سياسية حقيقية فاعلة فترة الانتداب البريطاني بمعنى الكلمة، لأن ذلك يتعارض مع فكرة بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لكن تواجدت بعض الأحزاب السياسية الضعيفة، وظهرت الهيئة العربية العليا كناظم للقوى السياسية رغم ضعفها، ومثلت الهيئة العربية رمزية الشعب الفلسطيني.
أدت حرب 1948م، واحتلال الصهاينة معظم أراضي فلسطين إلى اندثار الأحزاب السياسية الفلسطينية، لكن الهيئة العربية العليا سعت إلى الحفاظ على الرمز الفلسطيني، وحاولت التمسك بكيانية مستقلة للمناطق العربية التي بخت من الاحتلال الصهيوني، رغم معارضتها لفكرة التقسيم، وطرحت في أوائل أيلول(سبتمبر) 1948م، مشروع إنشاء حكومة فلسطينية لتمثل الفلسطينيين، وكان ذلك في اجتماع اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية، لكن المشروع لم يحظ بالقبول، رغم إقرار اللجنة السياسية بمشروعية الفكرة، وفي نهاية المحادثات تقرر إنشاء حكومة فلسطينية تكون مسئولة أمام مجلس تمثيلي فلسطيني، وتقرر أن تكون الإدارة المدنية المؤقتة التي كانت قد عينتها اللجنة السياسية حكومة لفلسطين، وعلى هذا الأساس اجتمعت الإدارة المدنية المؤقتة في غزة في الثالث والعشرين من أيلول(سبتمبر) 1948، وقررت اعتبار نفسها (حكومة عموم فلسطين)، وارتأت أن توجه الدعوة باسم رئيس وزرائها أحمد حلمي عبد الباقي لعقد مؤتمر وطني يضم الشخصيات والهيئات التي لها حقيبة تمثيلية.
انعقد المؤتمر الوطني بغزة في 30/9/1948م بحضور 97 شخصاً، وقال الحاج محمد أمين الحسيني رئيس المجلس الوطني: "إن غرض الاجتماع هو أن نعيد إنشاء كياننا الذي دمرته يد الظلم والعدوان".
وفي الأول من تشرين الأول (أكتوبر)1948م، صدر عن المؤتمر وثيقة إعلان استقلال فلسطين بكاملها استقلالاً تاماً، وإقامة دولة حرة ديمقراطية ذات سيادة، كما صدرت عن المؤتمر قرارات أخرى لتحديد صيغة الحكومة وهيكليتها.
لم تكن نتائج مقررات مؤتمر غزة عملية، فقد جاءت بعد فوات الأوان، فالعدو الإسرائيلي كان قد ابتلع معظم الأرض الفلسطينية بالقوة العسكرية، مما يمنع إقامة دولة حرة ديمقراطية ذات سيادة، ويعرقل استقلال فلسطين بكاملها، بل ويجعل ذلك مستحيلاً في ظل تلك الظروف.
لكن الأنكى من ذلك أن مصر رغم اعترافها بحكومة عموم فلسطين المعلن عن إنشائها في غزة، فقد رفضت أن تمنحها حق ممارسة مهامها في قطاع غزة الذي كان يخضع في ذلك الوقت للحكم العسكري المصري، واستدعت الحكومة المصرية المفتي الحاج محمد أمين الحسيني إلى مصر، وأجبرته على الإقامة فيها، وبذلك ضاعت رمزيته من فلسطين.
أما ملك الأردن عبد الله، فعارض قيام حكومة عموم فلسطين، وأعلن أنه سيحارب قادتها حيثما كانوا كما يحارب اليهود، وفي ذات اليوم الذي عقد فيه مؤتمر غزة عقدت الحكومة الأردنية مؤتمراً مضاداً، تمت فيه مبايعة الملك عبد الله ملكاً على الجزء المتبقي من فلسطين، وتتابعت إجراءات إدماج وضم الضفة الغربية للمملكة الأردنية الهاشمية سياسياً واقتصادياً وإدارياً وعسكرياً، حتى إن الأردن نالت في 17 يونيو (حزيران)1956م، اعترافاً عربياً بهذا الضم، وبذلك انتهى حق (حكومة عموم فلسطين) في أدمي مطالبة بالتدخل في شؤون الضفة الغربية.
صحيح أن جامعة الدول العربية اعترفت بحكومة عموم فلسطين، لكنها لم تساعدها إلا ببعض الأموال التي تدفع للجهاز الإداري، ودعوتها للمشاركة في اجتماعات الجامعة، أما الجمعية العامة للأمم المتحدة فرفضت دعوة حكومة عموم فلسطين للمشاركة في دورة خريف 1948م، واعتبرتها (غير شرعية).
وتزامن كل هذا التجريد من الشرعية، من القضاء على قوتها العسكرية (جيش الجهاد المقدس)، فقد جرد الجيش الأردني في القدس والخليل عناصر الجهاد المقدس من أسلحته، وضايقت مصر هذا الجيش مادياً، وحاصرته، وحالت دون وصول المساعدات له، بهدف تصفية وجوده، وامتنعت جامعة الدول العربية عن الإنفاق على قواته.
وهكذا ضاعت (الرمزية) بعد الضياع، صحيح أن فلسطين ضاعت على يد الصهاينة، لكن الرمزية ضاعت على يد الأشقاء العرب حفظهم الله، وجعلهم ذخراً للعرب والإسلام!!!