أطل التغيير السياسي من اليابان ، حيث أشد أنظمة المجموعة الصناعية محافظة و متانة ، مع إعلان نتائج الانتخابات التشريعية التي انتهت إلى فشل الحزب الليبرالي بعد خمسين عاما من حكم الدولة ، التي تعتبر منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية الحليف الأول للولايات المتحدة في آسيا كما رددت ليل أمس و صباح اليوم تقارير وكالات الأنباء العالمية .
هذا التغيير السياسي يحمل أبعادا و معان جديدة تؤكد حقيقة التحولات العالمية الجارية ، نتيجة فشل المشروع الإمبراطوري الأميركي الذي انطلق بعد نهاية الحرب الباردة و بفعل السقوط المدوي لليبرالية الجديدة التي اجتاحت العالم و جرى تحفيز السياسات الوطنية المناسبة لها بقوة الضغط السياسية و العسكرية القاهرة التي يمثلها النفوذ الأميركي المهيمن على جميع مستويات التكتل و التعاون الدولية بمؤسساتها و تشكيلاتها و روابطها الثنائية و الجماعية انطلاقا من السيطرة الأميركية على الأمم المتحدة التي تحولت في العقدين الأخيرين و ما تزال حتى اليوم أقرب لجهاز سياسي و تنفيذي و قضائي دولي في خدمة الهيمنة الأميركية على العالم .
أولا بعد الحرب العالمية الثانية قدمت الإيديولوجيا الليبرالية الأميركية النموذج الياباني بوصفه الإعجاز الاقتصادي و الاجتماعي للنظام الرأسمالي الحر ، و كانت الحاضنة الأميركية السياسية و المالية و الأمنية ترمي بثقل أذرعها و بصماتها داخل النسيج الياباني الجديد الذي ورث دولة مزقتها الحرب و تحمل آثار و تبعات جرائم الإبادة النووية الأميركية في هيروشيما و ناكازاكي و حيث تولت الولايات المتحدة قيادة مشروع النهوض الياباني منزوع السلاح و إعادة هيكلة الاقتصاد الذي تكفلت هي بتدمير مقدراته و منشآته الحيوية في حربها ضد الحلف الياباني الألماني الإيطالي .
طيلة خمسين عاما تبعت اليابان الولايات المتحدة بالتفاصيل السياسية و الاقتصادية و هي تتبعها اليوم في مسار التغيير الذي سيقودها إلى مسافة من الاستقلال عنها في السياسة الخارجية وفقا لتعهدات زعيم الائتلاف الحاكم الجديد هاتوياما .
ثانيا المعلومات التي سبقت نتائج الانتخابات التشريعية كانت تشير إلى ترجيح فوز الحزب الديمقراطي بغالبية نيابية كاسحة و فشل الحزب الليبرالي في الاحتفاظ بالسلطة و ذلك ما أرجعه الخبراء و المحللون إلى الأزمة الاقتصادية المالية الخانقة و إلى تفاعلاتها الاجتماعية الخطيرة و هي من فصول و مترتبات الأزمة العالمية التي انفجرت مع انهيار البورصات الأميركية و الإفلاس الجماعي للقطاع المصرفي و المجمعات الصناعية الأميركية العملاقة و حيث دخل الاقتصاد الياباني مرحلة من الركود الخانق و البطالة المرتفعة في حين كانت الحكومات الليبرالية قد أزاحت الكثير من التقديمات الاجتماعية و ما كان يعرف بتكافلية النموذج الياباني في الإدارة و العلاقة بين العمال و المالكين ، و تلك التغييرات اعتمدت من قبل الحزب الليبرالي ، دون تردد على الرغم من انعكاساتها السلبية ، تماشيا مع المنهجيات التي عممها الأميركيون و المحافظون الجدد بصورة خاصة ضمن ما اصطلح على تسميته بموجبات العولمة و بالليبرالية الجديدة .
برنامج الحزب الديمقراطي الذي فاز في الانتخابات يوم أمس يتضمن في بنوده ما يشير إلى هوية الوضع الجديد في العالم انطلاقا من التحول الذي سوف تشهده اليابان :
سياسة اجتماعية جديدة تدخل مجانية التعليم و التقديمات و الضمانات الصحية و العائلية في برنامج الإنفاق الحكومي ، تحرير الدولة من هيمنة البيروقراطية المتضخمة و امتيازاتها و ما تتضمنه من هدر منظم للموارد المالية العامة ، إعطاء الأولوية لتخطي الركود و معالجة التفاوت الاجتماعي الخطير الذي ارتفعت معدلاته إلى 60 بالمئة حسب التقارير التي نشرها الحزب الفائز خلال الانتخابات .
ثالثا الأهم بالنسبة لنا سيكون اختيار اليابان لموقع جديد في العلاقات الدولية و هو ما صوت عليه الناخبون حيث كان التأييد الشعبي لتوجهات الحزب الفائز في السياسة الخارجية في مقدمة أسباب حيازته لغالبية وازنة من مقاعد البرلمان ( أكثر من ثلثي المقاعد ) .
فور إعلان النتائج التي اعتبرها بداية لثورة ، تعهد زعيم اليابان الجديد بأن يبتعد مسافة واضحة عن الولايات المتحدة و يعمل على انتهاج سياسة أكثر اندماجا في البيئة الآسيوية .
هذه الرسالة موجهة بصورة خاصة إلى الصين و مجموعة الدول الآسيوية التي عملت الولايات الولايات المتحدة طيلة العقود الماضية على إخضاعها انطلاقا من القاعدة اليابانية بمقدراتها الاقتصادية المصرفية و الصناعية العملاقة .
اليابان تنتفض اليوم على الهيمنة الأميركية في سياستها الخارجية لتندمج في تلك البيئة الآسيوية أي لتقيم شراكات و علاقات جوار في محيطها المباشر بناء على المصالح المشتركة و هو ما سيولد تحولا كبيرا في التوازنات الدولية في مستويات شديدة الأهمية و التأثير .
بعض المحللين قالوا ان السلوك الصيني نحو اليابان بعد هذا التغيير سوف يحدد النتائج و حيث يتوقع الخبراء انفتاحا صينيا على تأسيس وضع جديد يعزز نفوذهم و يستجيب للمصالح اليابانية المباشرة في المنطقة .
اليابان تتغير و العالم يتغير ، و السؤال الذي يلح بطرح نفسه في قراءتنا للتحولات يتعلق بحال منطقتنا التي تذهب حكوماتها الدائرة في الفلك الأميركي نحو المزيد من الارتهان و التبعية على حساب شعوب المنطقة و فرص التطور و التقدم التي تبدأ و لا تنتهي بالموقف من الصراع العربي الإسرائيلي .
غالب قنديل