ونتيجة كل تلك التحركات المكثفة في تلك المدة القصيرة من الزمن، كتب بعض المؤرخين(1) أن الساسة الفرنسيين، سواء منهم الذين زاروا برازافيل أو الذين اكتفوا بمحادثات باريس، هم الذين اقنعوا زعيم حزب الشعب الجزائري بضرورة المساهمة في الحياة الانتخابية الفرنسية، لكن ذلك، بعد الدراسة المتمعنة، يبدو غير صحيح، لتناقضه مع شهادة السيد بلقاسم راجف(2) التي ذكرها الدكتور شفيق مصباح والتي تؤكد أن قرار المشاركة في الانتخابات “قد اتخذه الأعضاء القياديون الذين كانوا متواجدين في باريس”(3) ومهما يكن من أمر، فإن السلطات الفرنسية قد رخصت للسيد مصالي الدخول إلى الجزائر يوم 13/10/1946 وهونفس اليوم الذي جرى فيه الاستفتاء حول مشروع الدستور الفرنسي(4) الذي كان حزب الشعب الجزائري والاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري قد أعلنا عن قرارهما بمقاطعته.
وفي الجزائر، وجد الحاج مصالي غلياناً كبيراً في صفوف حزب الشعب خاصة فيما يتعلق بمن يتحمل مسؤولية الأمر باشعال فتيل الثورة(5) والأمر المضاد الذي وصل بعض المناطق ولم يبلغ لبعضها الآخر. وكذلك فيما يخص الميل إلى الحياة الانتخابية الذي بدأ يتسرب بسرعة إلى الأوساط القيادية. وإلى جانب ذلك الغليان، وجد الزعيم أن مكانته عالية بين المناضلين ولدى جماهير الشعب في آن واحد. لأجل كل ذلك وافق على أن تعقد ندوة وطنية لإطارات الحزب دامت أعمالها ثلاثة أيام برهن خلالها رئيس الحزب على قدرة فائقة في التسيير والإقناع حتى إن الأغلبية الرافضة للدخول في الانتخابات قد تحولت، في آخر جلسة، إلى شبه إجماع على تقديم مرشحين لتمثيل الشعب الجزائري في البرلمان الفرنسي.
وعلى هامش الندوة الوطنية للإطارات، التقى كل من السيدين الحاج مصالي وفرحات عباس واقترح هذا الأخير أن تضع الحركتان الوطنيتان استراتيجية مشتركة لمواجهة الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها يوم 10/11/1946، غير أن زعيم حزب الشعب رفض الاقتراح بسبب التباعد الإيديولوجي بين التشكيلتين السياسيتين. ونحن نعتقد أن إثارة التباعد الإيديولوجي في ذلك الظرف بالذات لم يكن في محله لأن المشاركة في الانتخابات التشريعية الفرنسية تجعل الحزبين في مرتبة واحدة من حيث اعترافهما بسيادة فرنسا على الجزائر.
وعلى أية حال، فإن موافقة الندوة الوطنية للاطارات، على الدخول إلى معركة الانتخابات في ظل الشرعية الفرنسية لم تكن سوى تنازل بمقابل، لأن الرافضين للأسلوب الجديد الذي هو في الواقع نقيض الأسلوب الذي ظلت الحركة المصالية تتمسك به منذ نشأتها والذي هو العنف الثوري أو الكفاح المسلح، قد حصلوا على قرار الندوة بعقد مؤتمر يتولى البت النهائي في التوجهات الأساسية للحزب.
ومما لاشك فيه أن دعاة المشاركة في الانتخابات كانوا يدركون جيداً أن إرسال ممثلين عنهم إلى المجلس الوطني الفرنسي ليس هو الطريق الأسلم إلى شاطئ السيادة الوطنية. كما أنهم كانوا يعلمون أن الحياة البرلمانية عقيمة وأن “الشعب الجزائري يجب أن يعتمد على نفسه لإنجاز ثورته الوطنية”(6) ومن جهة أخرى، فإن حزب الشعب الجزائري “لا يرى في المشاركة أو في الامتناع عن الانتخاب إلا فرصة إضافية بالنسبة للشعب الجزائري كي يبرهن على دقة تنظيمه وانضباطه ونضجه السياسي”.(7)
وبقدر ما كان الصراع شديداً بين دعاة المشاركة في الانتخابات ودعاة المقاطعة بجميع أنواعها، كان التفاف جميع الأطراف قوياً حول قرار الندوة وذلك طبقاً لمبدأ المركزية الديموقراطية وحفاظاً على وحدة الحزب. وليس أدل على قوة انضباط الإطارات القيادية من امتشاق السيد حسين لحول قلمه السيال لإقناع القواعد المناضلة بسلامة القرار بينما كان هو الوحيد الذي ظل متماسكاً بموقفه الرافض المناهض لفكرة المساهمة باعتبارها تراجعاً خطيراً في سياسة حزب الشعب الجزائري.
وتطبيقاً لقرار الندوة، وبتاريخ 23/10/1946، قدم السيد الحاج مصالي قوائم المرشحين، لكن الإدارة الاستعمارية رفضت ترشيحه شخصياً بالنسبة لدائرة العاصمة باعتباره من المحكوم عليهم قضائياً(
، كما أنها رفضت قائمتي وهران وسطيف(9). وبديهي أن في مثل هذه الإجراءات التعسفية تكذيباً صارخاً للقائلين(10) أن الدخول إلى الانتخابات كان نتيجة اتفاق بين رئيس حزب الشعب الجزائري والسلطات الرسمية في فرنسا.
وعلى الرغم من كل المضايقات والمناورات التي لجأ إليها ممثلوا الإدارة الاستعمارية، فإن مرشحي حزب الشعب الجزائري قد فازوا بنصف المقاعد التي تنافسوا عليها(11). ذلك أنهم لم يدخلوا الانتخابات إلا في خمس دوائر فازوا فيها بخمسة مقاعد مقابل خمسة لممثلي الإدارة الاستعمارية. أما في دائرتي سطيف ووهران حيث لم يسمح لهم بالمشاركة، فإن المقاعد الخمسة المتبقية قد توزعها الشيوعيون وممثلوا الإدارة(12). وللتذكير، نشير إلى أن الذين ذهبوا إلى قصر البربون باسم حزب الشعب الجزائري هم: الدكتور محمد الأمين دباغين، الدكتور جمال دردور والمهندس مسعود بوقدوم عن قسنطينة والسيدان أحمد مزغنة ومحمد خيضر عن الجزائر العاصمة.
ولما أدركت السلطات الاستعمارية أن جماهير الجزائر ملتفة حول حزب الشعب الجزائري فإن وزارة الداخلية قد أصدرت قراراً يغير طريقة انتخاب أعضاء مجلس الجمهورية، وبموجب ذلك القرار ألغيت الإدارة الشعبية وأسندت مسؤولية الاختيار إلى المنتخبين البلديين وأعضاء الجماعات ورؤسائها حيث البلديات المختلطة. ولقد لجأت وزارة الداخلية إلى هذه الطريقة لكون كل أولئك المنتخبين قد وقع اختيارهم على إثر حركة مايو الثورية عندما كان معظم القياديين الوطنيين في السجون، وكان حزب الشعب الجزائري قد دعا جميع الجزائريين إلى مقاطعة الانتخابات “من أجل المحافظة على مستقبل الوطن الجزائري وللتأكيد على التمسك بسياسة التحرير الوطني وعلى الوفاء لأرواح الشهداء وللمناضلين والزعماء المعتقلين”(13).