مما يلفت النظرشيوع الشعر في المجتمع الأندلسي،إذ
لم يكن الشعر وقفًا على الشعراءالمحترفين،
وإنما شاركهم في ذلك الأمراء والوزراء والكتاب والفقهاء والفلاسفةوالأطباء وأهل النحو واللغة وغيرهم، فالمجتمع الأندلسي بسبب
تكوينه الثقافي القائمعلى علوم العربية
وآدابها، ثم طبيعة الأندلس التي تستثير العواطف وتحرك الخيال، كلذلك جعل المجتمع يتنفس الشعر طبعاً وكأنما تحول معظم أهله
إلى شعراء.
اتجاهاته:اتجه الشعر في الأندلس إلى ثلاثة
اتجاهات، الاتجاهالمحافظ الذي يهتم بالموضوعات
التقليدية ويتبع منهج القدماء في بناء القصيدة من حيثالأسلوب البدوي، حيث تحوي ألفاظه جزالة وعبارات لا تخلو من
خشونة وحوشيّة، أمابحوره فطويلة وقوافيه
غنائية، ويحتذي هذا الاتجاه نماذج المشرق.
أما الاتجاهالثاني فهو المحدث،
وهو الاتجاه الذي حمل لواءه بالمشرق مسلم بن الوليد وأبوالعتاهية وغيرهما, من دعاة التجديد، الذين ثاروا على الاتجاه
المحافظ وطرقواموضوعات جديدة بأسلوب متنوع،
خالفوا فيه طريقة القدماء في بناء القصيدة، وعرفتالأندلس هذا الاتجاه على يد عباس بن ناصح، حيث نقله من
المشرق، وتمثل الاتجاهالمحدث في الأندلس
باهتمامه بأغراض لم تكن قائمة بذاتها في القصيدة من قبل، فظهرتالقصائد بأسلوب قصصي لا يخلو من روح الدعابة والسخرية، أما
صوره فتتألّف من عناصرحضرية في لغة يسيرة
الألفاظ وإيقاع يميل إلى البحور القصيرة والقوافي الرقيقة، ويعدالشاعر يحيى بن حكم الغزال من أشهر رواد هذا الاتجاه.
وآخر هذه الاتجاهات هوالاتجاه المحافظ الجديد الذي ظهر في المشرق بسبب تطرف
الاتجاه المحدث ومن ثم هومحاولة لإعادة الشعر
العربي إلى طبيعته وموروثه دون جمود أو بداوة، وقد عمد هذاالاتجاه إلى الإفادة من رقي العقل العربي بما بَلَغَتْه
الثقافة العربية الإسلاميةمن نهضة واسعة في
مجتمع توفرت له أسباب الحضارة، وكان هذا الاتجاه محافظًا في منهجبناء القصيدة ولغتها وموسيقاها وقيمها وأخلاقها وروحها،
ولكنه مجدد في المضمون وفيمعاني الشعر وصوره
وأسلوبه، ويمثل أبو تمام والبحتري والمتنبي دعائم هذا الاتجاه فيالمشرق، وقد عرفت الأندلس هذا الاتجاه على يد نفر من
الأندلسيين رحلوا للمشرقوعادوا للأندلس بأشعار
البحتري وأبي تمام، وكانت فترة الخلافة في ذروة نضجها، إذكان المجتمع الأندلسي في هذه الفترة قد تجاوز الانبهار
بالمستحدثات الحضارية التيبهرت شعراء القرن
الثاني وأصبح أكثر استقراراً وتعقلاً، ومن أعلام هذا الاتجاه ابنعبد ربه وابن هانئ والرمادي وغيرهم.
إن بلاد الأندلس ذات طبيعة
ساحرة خلابة, بل هي
من أجمل بقاع الأرض,فهناك السهول الخضراء والجبال المكسوة
بالأشجار,والأنهارالمتدفقة,والمياه
العذبة,والنسيم العليل.
وكانت مضرب المثل في الجمال والنظافةومظاهر المدنية، وكانت طبيعة الأندلس تخلب
الألباب بمروجها الخضر وأشجارهاالجميلة
وأزهارها الفواحة وأنهارها الرقراقة المتدفقة.وقد كانت الأندلس درة
الحضارةالإِسلامية في أوربا،لا من حيث الطبيعة
فقط وإنما من حيث جمالها العمراني ,الذي اخذحليته
من الطبيعة التي تحيط به.
وقد أحب الأندلسيون بلادهم ومدنها فتغنوا بِهاوكتبوا شعراً خلد أسماء مدنهم مما يدل على إن كل واحد منهم
كان متعلقاً ببلدتهويشتاق ويحن إليها إذا ما
غاب عنها, ومما قاله الشعراء قول الرقيق ابن خفاجة في وصفالأندلس وجمال طبيعتها:
إن للـجنة بالأنـدلسِ مجتلــى حبٍ وريَّا نَفـَسِ.
فسنــا صُبْحَتِـها مـن شنبٍ
ودجى ليلتها من لَعَسِ.
وقال شاعرآخر:
حـبذا أنـدلسٍ من بـلدٍ لم
تـزل تنتج لـي كل سـرورْ طـائرٌ شادٍ وظـلٌوارفٌ
ومـياهٌ سائحـاتٌ وقـصــورْ
وتنعم البيئة الأندلسية
بالجمال , وتصطبغبظلال, وارفة, و ألوان ساحرة,
تتنفس بجو عبق عطر يضاعف من روعته وبهائه ما يتخللجنباتها من مواطن السحر,ومظاهر الفتنة التي تبعث الانبهار
والدهشة في النفوس. وقدأنعكس ذلك في شعر
الأندلسيين بشكل عام, حيث ازدحم بصور متنوعة ملونة تمثل البيئةالطبيعية في هذه الرقعة المسماة بالأندلس. ومن هنا تشكلت
صورة الأندلس في الأذهانمتقاربة في أوصافها
وألوانها وقسماتها...
هذه الصورة على العموم تأخذ عطرهاوعبقها
وملامحها وألوانها من الطبيعة, فهي أقرب إلى لوحة فنية ناطقة, إنها بستانزاهٍ أو حديقة غناء أو واحة خضراء.
وهذا ولا شك ما جعل الوصف من
ابرز أغراضالشعر عند شعراء الأندلس،حيث تهيائت
لهم أسباب الشعر وتوفرت لديهم دواعيه...
وقدعبّر ابن خفاجة
أشهر شعراء الطبيعة في الأندلس عن هذه الصلة فقال:
ياأهـــــــــــل
أندلـس للـه درُّكمُ
مـاءٌ وظـــــــــلٌ وأنهار وأشجار
ماجنة
الخــــــــلد إلاّ في دياركمُ
ولو تخيرت هــــــــذا كنتأختار
الوصف
يعد من افضل اغراض الشعرالعربي,وأقربها
إلى النفوس،ومن طبيعة الشاعر لا يقول الوصف الأ وهو واسع الخياللديه القدرة على والاستطاعة على تصوير المحسوس, إلى صوراً
حية,للسامع وكأنه يراهإمامه،ولابد من وجود
الحوافز,والمواقف التي تثير مشاعر الشاعر وتجعله يبدع فيالوصف...فلذالك عرف الوصف عند الأندلسيين بكثرة الحوافز
الطبيعية والأحداثالمتتالية.
تعريفه:هو إظهار أو استحضار شئ , أومكان,أو
حيوان, أو إنسان, لا يقع تحت نظر القارئ عبر التصوير اللغوي إما بأسلوبنقلي يكون فيه التصوير معادلا للموضوع الموصوف, وإما بأسلوب
ملون بالعاطفةوالخيال,ما يجعل التعبير يتجاوز
الموضوع الموصوف,اذ يعاد خلقه وفقا لرؤية الذاتالمعاينة.
ويعد الوصف من الأغراض الأصيلة
في الشعر العربي، حيث طرقوا به كلميدان قرب من
حسهم أو إدراكهم أو قام في تصورهم.ولذا لم يكن عجيباً إن يقبل شعراءالأندلس عليه أكثر من إقبالهم على أي غرض.
وقد اشتدت عنايتهم به، حتى
اتسعتدائرته لكل ما وقع تحت أعينهم، وخاصة وصف
المناظر الطبيعية، والمشاهدالكونية،كالرياض،
والثمار، والأزهار، والطيور، والبحار، والأنهار، وأفردوا للوصفالقصائد، أو حلوا صدورها به، وربطوا بين وصف الطبيعة وسائر
الفنونالشعرية.
وصف
الطبيعة في الشعر الأندلسي ..احتوىالشعر الأندلسي على فنونا
شعرية لا تكاد تختلف عن الأنواع الموجودة في المشرق فقدكان هناك فخرا ومدحا ورئاء وغزل وقد تفرد الأندلسيون بنظم
الموشح نحواً من ثلاثةقرون أنتقل بعدها إلى
الشرق وقد جددوا بكثير من الأغراض الشعرية المستمدة من الواقعالأندلسي وجددوا حتى بطريقة بناء القصيدة فيما يتعلق بالوزن
والقافية كما يتضح ذلكفي شعر الموشحات.
ومن أهم الأغراض الشعرية التي
تميز بهاالأندلسيون:
أ. وصف الطبيعة.
ب. الغزل .
ج .الخمريات .
د. رثاء
الدول.
هـ .
الورديات والزهريات
ولعل مايهمنا فيهذا المقام هو الحديث
عن شعر وصف الطبيعة:
لم يكن وصف الطبيعة فنا مقصوراومحصورا
في بيئة المغاربة والأندلسيون , بل وجد وبشكل كبير عند البغداديونوالمشاركة بشكل عام , حيث وجد عند ابن الرومي والبحتري
والصنوبري, وكانت هذهالأسماء لامعه ساطعة في
سماء وصف الطبيعة .
ولكن كان لهذه الطبيعة الساحرة أثرهاالكبير في خصب عقول الأندلسيين ورفاهية حسهم , ورقة تصويرهم ,
وسعه خيالهم , ومماساعد على ازدهار شعر
الطبيعة في الأندلس غير الطبيعة نفسها الحياة اللاهية التيعاشها الشعراء, نتيجة التحرر والانطلاق في مجمع الأندلس ,
لذا كان الشاعر يعتبرالطبيعة مسرحا لحياته
اللاهية , وفي أحضانها كان يستسلم للهوه وحبه وخمره , فعكفعلى تصوير لهوه وعبثه في مجال الطبيعة , وكان ممتزجا بها
متفاعلا معها.
مظاهروصف الطبيعة في الأندلس :
لم يترك الشاعر الأندلسي مظهر
من مظاهر الطبيعة أحسهبحواسه وتفاعل معه
بمشاعره إلا وصوره وأبدع التصوير ووصفه فأحسن الوصف فوصف الرياضبما فيه من خضرة وحمرة وصفرة وشذا وعبير , وهذا ابن خفاجه
استولت على لبه الحدائقالفيح , والمروج الخضر,
حيث كان يمرح ويلهوا مع أصدقاءه في جو بهيج,وشاركه الغصنهذا الإحساس والذي توج هذا الجمال ظهور الهلال بعد الغروب
كأنه طوق من ذهب يزين بردالغمامة , حين ذاك وصف
هذه اللوحة بقوله ..
واهتز عطف الغصن من طرب بنا *** وافتر عن ثغر الهلال المغرب .
فكأنه والحسن مقترن به *** طوق
على برد الغمامةمذهب.
مزج الطبيعة بفنون الشعر
المختلفة :
مزج
شعراء الأندلس وصف الطبيعةبشرب الخمر ومجالس
اللهو والطرب والغزل والحب, شرب المعتمد بن عباد الخمر ليلا فيجو من النشوة والطرب والطبيعة الخلابة..
ولقد شربت الراح يسطع نورها
*** والليلقد مدً الظلام رداءا
حتى تبدى البدر في جوزاءه *** ملكا تناهى بهجةوبهاءا
مزج الغزل بالطبيعة أمر مألوف
وخير من فعل ذلك من الشعراء بن زيدون وعبرعن
مشاعره لولادة
بقافيه بعثها إليها وهو مختبيء
في الزهراء :
إني ذكرت فيالزهراء مشتاقا ***
والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في اصائله *** كأنه رق لي فاعتل اشفاقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت *** بتنا لها حين نامالدهر سراقا .
مزج المدح بالطبيعة :
فظاهره خلط المدح بوصف الطبيعة لم تكن منابتكار الأندلسيون بل سبقهم بها المشارقه حيث كانت أصولها
وقد حاول المشارقه القيامبهذا على حذر وتردد
وهو مسلم بن الوليد , ثم بدا هذا واضحا في شعر أبي تماموالبحتري , ولكن هذه المحاولات كانت جميعها على حذر وتخوف
كبيرين , ولكن وجدت عندشعراء الأندلس بقوة ,
مثل رائيه ابن عمار في مدح المعتمد بن عباد حيث يقول :
أدرالزجاجة
فالنسيم قد انبرى *** والنجم قد صرف العنان عن السرى
والصبح قد أهدى لناكافوره ***
لما استرد الليل منا العنبرا .
هكذا افتتح قصيدته بوصف الطبيعة حتىوصل إلى مدح ابن عباد حيث قال :
عــباد المخضر نائل كفّه ***
والجو قد لبسالرداء الاخضرا
أندى على الأكباد من قطر الندى *** وألذ في الأجفان من سنة
الكرى .
ويحفظ
لنا التاريخ الأدبي بين دفتيه أسماء شعراء لمعوا في هذا المجال : ابنعمار , وابن الشهيد , وابن زيدون , وابن خفاجه , وابن
الزقاق.
وصف
الطبيعةمزوجاً بــ الرثاء
وتعتبر هذه قفزه جريئة تحتاج
لعبقرية وابداع كي تؤدى بأكملوجه , وذلك لانهم
مزجوا الرثاء برصف الطبيعة, حيث البسوا الطبيعة حلل همومهم , وآلامهم الدفينة , وعلى رأس
من قاموا بهذه التجربة " ابن خفاجه " حين رثى الوزيرأبا عبد الله بن ربيعه حيث يقول في مطلعها :
في كل ناد منك روض ثناء وبكل
خد فيكجدول مــاءِ
ولكل شخص هزة الغصن الندي وتحت البكاء ورنه المـكـَّـاءِ
جالتبطرفي للصبابه عبرة كالغيم
رق فجال دون سماءِ
وبسطت في الغبراء خدي ذلة
أستنزلالرحمى من الغبراءِ .
لاهزني أمل وقد حل الردى بأبي
محمد المحل النائي .
غيرأن ابن خفاجة يقفز هذه المره
قفزة جريئة حين يمزج الغزل والخمر والطبيعة بالرثاءوذلك في ميميته حيث بدأها بالغزل وذكر أيام لهوه ومجونه على
طريقه القدامى
فيقول :
ورب ليال بالغميم ارقتها *** لمرضى جفون بالفرات نيام
يطول عليالليل يا أم مالك ***
وكل الليالي الصب ليل تمام
ويستمر في ذلك حتى يصل إلىالرثاء ويخلص إليه تخلص حسن
تلذذ بدار القصف عني ساعة *** وابلغ نداماها اعزسلام
وقفت وقوف الثكل بين قبورهم
*** أعظمها من أعظم ورجام .
أهم شعراءالطبيعة الأندلسية :
ابن رشيق، ابن خفاجه ، ابن
الشهيد، ابن الزقاق، وابن زيدونوالرصافي الرفاء
، وابن زمرك.
وبعد أن جلنـا هذه الجولات مع شعر الطبيعة نحب أننضيف ، أن الشاعر الأندلسي برغم من حبه الجم للطبيعة إلا
انه لم يحاول في أحيانكثيرة أن ينفح فيها شيء
من روحه ويمزج بهـا أحاسيسه ومشاعره مزجاً تـاماً، بل اكتفىبتصويرها معتمداً على الحواس الخمس وأبرزهـا حاسة البصر،
ويبرزه معتمداً في ذلك علىخياله وصوره الخلابة
ولكن وجد هناك شعراء امتزجوا بالطبيعة وتجانسوا معها كابنخفاجه.
ونخلص إلى أن شعراء الطبيعة الأندلسية فاقوا إخوانهم
المشارقه، بعزارةالمادة ودقة التصوير وابتكار
الفنون ، ونجاحهم في التعبير عن حبهم لبلادهم وتفضيلهاعلى جميع البلدان.