محمد حسنين هيكل يتحدث عن الاوضاع في ليبيا
اجرت اللقاء اسرة تحرير صحيفة الاهرام المصرية يوم 23 سبتمبر الجاري
لنطبق سايكس بيكو الجديدة عمليا علي ما يجري الآن في ليبيا
نحن نعلم مما نقرؤه الآن أن نفط ليبيا جري توزيع امتيازاته فعلا, وبنسب أذيعت علي الملأ, كانت لفرنسا شركة توتال 30%. و لبريطانيا شركة بريتش بتروليم, 20% والحصة أقل لأن بريطانيا أخذت أكثر في نفط العراق
وليست أمامي الآن نسب التوزيع فيما بقي,
لكن إيطاليا تطالب بحق مكتسب( شركة ايني), ثم إن الشركات الأمريكية تلح علي
دخول قائمة الوارثين. بعد إرث الموارد هناك ثانيا تخصيص المواقع.
قاعدة للأسطول السادس في' طرابلس' لأمريكا
ومراكز مخابرات في' بنغازي' و'طبرق' لبريطانيا وإيطاليا تحتج بأنها
تاريخيا تعتبر ليبيا منطقة نفوذ لها وفرنسا عبر البحر لها مطالبها.
كل هذا وصوت المعارك لايزال يدوي, وسيل
الدماء لايزال يتدفق( حتي الآن ثلاثون ألف قتيل في ليبيا, وسبعون ألف جريح,
ومرافق بلا حساب وقع تدميرها
وربما أن هذه التوزيعات للمواقع والموارد
تجري بنفس الأسلوب الذي رأيناه في اجتماع رئيسي وزراء بريطانيا وفرنسا يوم
أول من ديسمبر1917
والمؤلم أنه يبدو وكأن العرب لم يتغيروا,
وكأنهم عادوا إلي حيث كانوا, وكأنهم مازالوا هناك عند' سايكس بيكو' الأولي,
ثم إن ظاهر ما يسمعون يأخذهم إلي حيث تريد لهم أوهامهم
مادتم تتحدثون عن أوهام العرب في زمن سايكس بيكو القديمة نسأل: ماهي أوهام العرب الجديدة وتحديدا الزعيم الليبي الفار معمر القذافي؟
المدهش أن' معمر القذافي' فعل ما فعله من
وصفهم' لويد جورج' بالبدو المتوحشين, تقطع لهم العهود أوقات الحاجة إليهم,
ثم ينكرون عليهم كل شيء عندما تنتهي الحاجة إليهم. قبل سنوات وعقب غزو
العراق بدعوي حيازته لأسلحة دمار شامل, سلم القذافي كل ما كان لديها من
مواد مشعة, وآلات ومعدات ورسوم, طلبا لغفران الإله الأمريكي الذي بدا
غاضبا, منقضا علي من يعصي له أمرا. كان' كرم'' القذافي' يومها يفوق ما طلبوه منه والحقيقة أنه بدا رجلا خائفا من مصير صدام حسين. وضع
كل ما عنده ووزنه500 طن معدات وآلات وأوراق ورسومات وشحنه كله من أوله
لآخره علي مركب سافرت شمالا إلي قاعدة أمريكية في نابولي, وهناك سلمت
المركب حمولتها بلا قيد أو شرط, وذلك أدي إلي كشف آخرين ذنبهم أنهم ساعدوه,
مثل العالم الباكستاني' عبد القدير خان'.
وانجرف' القذافي' إلي ما يتصوره جانب
الاعتدال, لأنه لا يريد مشاكل, وصدر ابنه' سيف الإسلام' رسولا إلي الغرب
باسمه, يعرض في عواصمه وجها جديدا جاهزا للتعلم من الآن!! ودفع بلايين
الدولارات تعويضات في حادثة' لوكربي' التي صمم حتي آخر لحظة أنه بريء منها
لم يحرض ولم يمول وليس له صلة من قريب أو من بعيد, وقد دفع بلايين
الدولارات تعويضا, ومنطقه أنه يريد أن يشتري الأمان ويريح نفسه. وكل ذلك لم
ينفع.
لم يتعلم العرب لا في الماضي ولا في
الحاضر, أنه ليست هناك عهود للدول الا ما تقتضيه أسباب القوة فكلهم سوف
يتنكر لأي عهد عند أول منحني علي الطريق إذا دعته مصالحه!! وجاء التنكر
للعهود هذه المرة فجا جلفا, فلا يغطي شيئا وإنما يتبجح, لأن الذين أنكروا
العهود كانوا ملهوفين وعلي عجل, فهم بسبب أوضاعهم الاقتصادية كانوا مفلسين,
يتعجلون خطف ثروة من الواهمين, وليس لديهم وقت لأي غطاء أو تزويق يغطي
المستضعفين
فسر لنا أسباب هذا السقوط المريع للمشروع العربي ولنأخذ القذافي- مرة أخري- مثالا؟
في السنوات الأخيرة زادت الأوهام, واشتد تناقضها مع الحقائق, ووضعت المشروع العربي وأمته وشعوبه بين شقي رحي غير المعقول من ناحية, وغير المقبول من ناحية. وبين غير المعقول وغير المقبول كان الطحين علقما في مرارته.
والأكثر مرارة في هذا' الغير المعقول' هو ما كان يجري في ليبيا من نظام العقيد' معمر القذافي'.
السلطة المطلقة تفسد. والثروة الطائلة أكثر مدعاة للفساد. ثم
إن الباحثين عن السلطة والمال في العالم العربي, قادرون علي الغواية بلا
حدود, وقد تسابق كثيرون منهم يعرضون بضاعتهم كلاما بلا مضمون, وخططا علي
الورق, وفي مقابلها تكون الاستجابة لما يطلبون, وعلي نفس الطريق مشي
الأوربيون وإن بأسلوب مختلف, وكان المال وليس غيره هو الذي جعل مجتمعات
أوروبا كلها تتعامل مع' القذافي' كأنه أمير مدلل, وكان الكثيرون من ساستها
ونجومها ككلاب الصيد أمامه, فك مفتوح, ولسان يلهث, وأنفاس ساخنة وجائعة
إذا كان القذافي قد عومل كأمير مدلل يطلب وده الكثيرون إذن لماذا انقلب الغرب عليه؟
فجأة وقعت وتوالت أحداث الربيع العربي,
ووصلت أصداؤها إلي كل مكان, وبالطبع ليبيا, ثم بدأنا نسمع عن تحركات في'
بنغازي', لكنه كان باديا أنها مازالت إشارة وعلامة بعدها طريق شاق يتعين
السير فيه, ولا يمكن القفز عليه, لكن هناك من قفز ولقد
كان أغرب ما سمعت عن أحداث ليبيا, هو ما سمعته من شخص قريب الصلة بالمجلس
الانتقالي في ليبيا. كنت أسأله: إذا كان نظام' القذافي' غير معقول, أليس
استدعاء تدخل أجنبي عسكري غير مقبول؟ وكان
الرد الذي تلقيته بما مؤداه: أن السامع يتفهم سؤالي, ولكنهم ـ بالنص
تقريبا ـ تصوروا أن مجرد هبة في' بنغازي' فإن' القذافي' سوف يفعل مثل ما
فعل' بن علي' في' تونس', و'مبارك' في' مصر'' ويمشي, وكذلك خرجنا إلي
الشوارع وانكشفنا, لكن هذا الرجل المجنون لم يمش, وبقي في ليبيا, ومعه جزء
كبير من البلد وجزء كبير من الناس, وكذلك معظم الجيش, ومعظم القبائل أيضا,
وكذلك اضطررنا إلي قبول أي مساعدة, لو أنه هرب وأراحنا, لما وقعنا في هذا
المأزق لكن المجنون لم يفعل
كيف تنظرون إلي رد الغرب ـ من خلال حلف الأطلنطي ـ علي ما جري في ليبيا؟
الكارثة أن غير المقبول كان الرد علي غير
المعقول.إنني قرأت بنفسي وأرجو ألا تكون ملاحظتي متجاوزة في' الأهرام'
نفسه قبل أسابيع عنوانا يقول بالنص: حلف الأطلنطي يفتح الطريق لتحرير'
طرابلس'. وأنا لا أعلم أن حلف الأطلنطي يريد أن يحرر شبرا عربيا.
وبصراحة وأنا لا أداري في موقفي, فإن'
القذافي' كان من الحق أن يسقط, ولكن الشعب الليبي هو من كان يجب أن يتحمل
هذه المسئولية, وقد كانت هناك إشارات وعلامات فعلا وإن في بدايتها, وكان
يجب للبداية أن تواصل حتي النهاية, وبشعب ليبيا, وليس بالطيران الأمريكي,
ولا بأسراب صواريخ' الكروز' الأمريكية, ولا بالطيران الإنجليزي, ولا
بالقوات الخاصة البريطانية, ولا بالأسطول الفرنسي, والقوات الفرنسية, ولا
بالمخابرات من كل الأطراف
هذا هو غير المقبول بعد غير المعقول
هل قفز الغرب علي الأوضاع القبلية والعشائرية في ليبيا, وكان همه فقط التخلص من القذافي بأي ثمن؟
لقد فوجئ الغرب بالثورة في' تونس' وفي'
مصر', وبدا الربيع العربي وكأنه عالم مفتوح لكل شيء, ولكن هؤلاء نسوا أن
نضج عناصر أي ثورة ضروري لنجاح فعلها, وكذلك لم يعد ما يجري في ليبيا ثورة
شعبية وفقط, وإنما تبدو الآن غزوا خارجيا, واستيلاء راح ضحيته حتي الآن
أكثر من ثلاثين ألف رجل وامرأة وطفل من الليبيين, وجرح منهم قرابة سبعين
ألفا, ووقع تدمير مرافق ومنشآت, والآن أري أن المقاومة مستمرة وأظن أن
الذين يقاومون مع' القذافي' يفعلون ذلك بانتمائهم إلي الوطن الليبي, ليس
تمسكا بـ' القذافي', ولكن لأن هناك غزوا لليبيا, وأظن أن نفس الداعي سوف
يصل بليبيا مدنا وقبائل إلي حافة حرب أهلية.
وبكل أمانة فالثورات لا تصنع, ويستحيل أن تنجح بهذا الأسلوب
كيف؟
الثورات فعل لا يتم بطريقة تسليم
المفتاح, أعني أنه ليست هناك ثورات تسليم مفتاح من قوي خارجية تطلب
السيطرة, هذه القوي الخارجية تريد مصالحها فقط, ولا يصح أن يتصور أحد أنها
بعد المصالح تريد تحرير شعب
ولقد عرفنا مما سمعنا ورأيناه في شبه
الجزيرة العربية عن بناء القصور بطريقة مقاولة' تسليم مفتاح'( كما يقال في
التعبير الشائع), وذلك حدث أيضا في مجال الموانئ والمطارات, كله مدفوع نقدا
ومقدما برسم التسليم علي المفتاح لكن الثورات شيء آخر.
باختصار حلف' الأطلنطي' لا يحرر بلدا أو شعبا, وإنما يسيطر علي شعب وعلي بلد