الغريزة

اسلوك موروث أكثر من كونه مكتسبًا. يمكن أن نصف الشخص الذي يميل إلى القتال دومًا بأنه ذو غريزة عدوانية. ولكن هذا الشخص لم يُولد ومعه رغبة القتال. ولو أتيحت له بيئة منزلية أو مدرسية مختلفة لما تطوّرت عنده تلك الخاصية. ويطلق العلماء مصطلحي غريزة وسلوك غريزي على النشاط الذي لا ينطوي على خبرة أو تعلم. ولكي تكون الخاصية السلوكية غريزية حقًا، فإنها ينبغي أن تكون نمطية عند معظم أفراد نوع حيواني، من الجنسين أو أحدهما.


وينطوي السلوك السفادي للسمك ذي الثلاث شوكات، على أمثلة متعددة للغريزة. فالذكر منه يختار منطقة سفاده ويطرد منها غيره من السمك. وبعدئذ يجمع نباتات ويشكل منها كومة صغيرة. ثم يشق طريقه ملتويا داخل الكومة المكتملة ويفتح فيها نفقًا. وهذا النفق الذي هو أقصر من السمكة بقليل يصبح عُشاً له. وفي هذه الأثناء يتغير لون جسمه الداكن ـ عادة ـ فيصبح بطنه أحمر فاقعًا، وظهره أبيض مائلاً إلى الزُرقة. وبعدها يأخذ في مغازلة الإناث. وكلما دخلت منطقة سفاده أنثى منتفخة البطن بالبيض، سبح باتجاهها وأدى رقصة متذبذبة. ويستمر في رقصه حتى تتبعه الأنثى إلى عشه، حيث تضع بيضها. وبعد ذلك تسبح بعيدًا عنه، في حين يقوم الذكر بإخصاب البيض. ويبقى بالقرب من العش ليحمي البيض والصغار بعد ذلك.

ولايتعلم ذو الثلاث شوكات هذه العادات السفادية المعقدة. ومع ذلك فإن جميع ذكور هذا النوع يؤدون هذه العمليات نفسها بشكل أساسي. فهي مفطورة على هذا النمط السلوكي المتأصل في جهازها العصبي.

وفي بعض الحالات تغيِّر بعض أفراد نوع حيواني محدد بعض تفاصيل النمط السلوكي الغريزي. فالأفراد من فصيلة الحسّون الذهبي قد تستخدم نسبًا مختلفة من المواد المتعددة اللازمة لبناء أعشاشها. ولكن معظم السلوك الغريزي يكون مطردًا نسبيًا. وأعضاء أي نوع لا تُظهر عادة اختلافًا كبيرًا في تنفيذ النمط الفطري.


كيف يعمل السلوك الغريزي

المثير الدافع. معظم السلوك الغريزي مدفوع بمثير. أي بشيء يجعل الحيوان يتصرف على نحو معين. فمثلاً، يعرف العلماء أن ذكر ذي الثلاث شوكات، يبدأ بمغازلة الأنثى حين يرى بطنها المنتفخ. وفي التجارب المخبرية، تغازل هذه الذكور النماذج الكرتونية أيضًا، ولكن فقط حين تكون هذه النماذج منتفخة البطون.

ومن أمثلة المثيرات الدافعة بطن الأنثى المنتفخ وبطن الذكر الأحمر، فأنثى ذي الثلاث شوكات تخضع لجاذبية بطن الذكر حين يكون أحمر فاقعًا. وتتبع الإناث أيضًا الذكور غير المكتملة النمو ذات البطون الحُمر، أكثر مما تتبع نماذج الذكور المكتملة النمو التي لا تتصف بحمرة البطون.

ومن أمثلة السلوك غير المكتسب المدفوع بمثير رد الفعل المنعكس، مثل الإغماض بمجرد مواجهة الضوء الساطع، إلا أن الأفعال المنعكسة أقل تعقيدًا من السلوك الغريزي.


التغيرات الهورمونية. يفعل المثير الدافع فعله، في حالات كثيرة، في واحدة أو أكثر من غدد جسم الحيوان. فمثلاً تؤثر التغيرات الموسمية لدرجة ضوء النهار، في غدد بعض أنواع الطيور، فتفرز الغدد سوائل تُدعى الهورمونات. ويحفز التغير في كمية الهورمونات المفرزة الطيور إلى الهجرة. وإذا لم تفرز الغدة هورمونًا معينًا بشكل صحيح فقد يعجز الحيوان عن القيام بالسلوك الغريزي المرتبط بذلك الهورمون.

وبعض الغدد تنتج هورمونات في مرحلة معينة من حياة الحيوان فقط. فالغدد الجنسية، مثلاً، لا تؤدي وظيفتها كاملة في الحيوانات صغيرة السن.


الغريزة والتعلم. تؤدي كل الحيوانات الأفعال الغريزية والمكتسبة. وتحدد الغريزة سلوك الحشرات والعناكب والقشريات، مثل سرطان البحر والكركند إلى حد كبير. ولا تستطيع هذه الحيوانات أن تتعلم إلا القليل، وهكذا يعتمد بقاؤها على أنماط السلوك الغريزية. أما الحيوانات الأرقى، مثل السمك والبرمائيات والزواحف والطيور والثدييات، فإنها تستطيع أن تتعلم أكثر. ثم إنها تعدل سلوكها الغريزي بالتعلّم. فالأفرُخ الصغيرة، مثلا، تنكمش بلا حراك عند ظهور أي جسم فوقها، حتى لو كان مجرد ورقة شجر ساقطة. والطيور الأكبر سنًا تكون قد تعلمت أن الأوراق لن تؤذيها، وبذلك لا تؤدي ردود فعل كالتي سبق لها أن أدّتها. ولكن الطيور الأكبر سنًا تنكمش بلا حراك عند اقتراب صقر. وكلما ارتقى الحيوان ازدادت مقدرته على التعلّم وقل اعتماده على الغريزة. فالسمك يتصرف بتأثير الغريزة أكثر من الطيور، والطيور تؤدي أفعالاً غريزية أكثر من الثدييات. وعند بني الإنسان يبتسم الأطفال ويرضعون غريزيًا. ولكن حين يكبرون تصبح معظم أفعالهم مكتسبة.


الانطباع. هناك نوع من النمط السلوكي يدعى الانطباع، يحدث حين يتعلم الحيوان كيف يتعرف مثيرًا يدفع إلى سلوك غريزي. فمثلاً، يتبع فرخ الإوز أول جسم متحرك يراه بعد فقسه. والإوزة الصغيرة تتعرف الجسم المتحرك على أنه أحد الأبوين. وفيما بعد تتعرف أجسامًا مشابهة على أنها أعضاء في جنسها. ويؤدي سلوك الإوز المفقس وظيفته إذا كان الجسم المتحرك الأول إوزة مكتملة النمو. ولكن الإوز الصغير المفقس في الحاضنة قد يرى الإنسان أولاً، ويصبح منطبعًا بهم. وهذا يعني أن فرخ الإوز يتصرف تجاه بني الإنسان مثلما ينبغي له أن يتصرف تجاه الإوز. وبعد أن تنضج الفراخ تُقدم حتى على مغازلة الإنسان. وفي حالات كثيرة تعجز الحيوانات التي أصبحت منطبقة تجاه حيوانات من جنس آخر عن تعلم كيفية تعرف أبناء جنسها.


الجمع بين الغريزة والتعلم. يعتمد البقاء عند الحيوانات الأرقى من الحشرات على الجمع بين الغريزة والتغيّرات الجسدية. ومن أجل أن ينمو الحيوان نموًا طبيعيًا، فلابد له من أن يصبح على اتصال بالمثيرات الدافعة السوية لأبناء جنسه.

وبعزل مجموعة قرود عن القرود الأخرى؛ تبين أن هذه القرود لا تبدي سلوكًا، اجتماعيًا أو جنسيًا سويًا، إذا وضعت بعد البلوغ مع القردة الأخرى. وينتج السلوك السوي للقرد المكتمل النمو عن خبرات نموه بوصفه عضوًا في مجموعة من القرود. وهذه الخبرات تؤهل القرد لاستكمال سلوكه الغريزي من خلال التعلم.