"رحلة العمر: من جون لام إلى عبد العزيز بوتفليقة"
.. في عام 1974، كانت الجزائر أو بالأحرى رئيس الوفد الجزائري، نموذج الأمم المتحدة بجورجتاون، وقد كان ذلك بعد استئناف بلدينا للعلاقات الدبلوماسية بعد انقطاع بسبب حرب 1967 . كان عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمعية العامة للأمم المتحدة وكنت أنا طالبا ثانويا، في ولاية فرجينيا، يكتشف عالم الدبلوماسية الدولية.
*
وقد كانت هذه التجربة بداية رحلة العمر بالنسبة لي. كانت أول تجربة لي حول الأهمية التاريخية للعلاقات بين الجزائر والولايات المتحدة الأمريكية، فقد بلورت وجهة نظري عن الدور المحوري الذي تلعبه الجزائر في منطقتها المباشرة، في القارة الإفريقية، وحتى في بقية العالم، لقد كانت الجزائر مصدر إلهام لي أن أصبح دبلوماسيا.
*
لم أكن، كمعظم الأمريكيين آنذاك، أعرف الكثير عن الجزائر. ولم أكن أعي مدى عُمق تاريخنا المشترك، لقد تعلمت بعض الدروس القيمة خلال دراستي لأكون "أفضل ممثل جزائري"..اكتشفت أنه منذ ما يقارب 200 عام وطئت قدما أول مبعوث أمريكي، جون لام، الجزائر، للتفاوض على معاهدة السلام والصداقة، وكان ذلك عام 1785، بعد سنتين فقط من حصولنا على استقلالنا. في عام 1795، وقع بلدانا على تلك المعاهدة الأولى التي أقرّت منذ ذلك اليوم: "كلا البلدين...(سيعاملان)... بعضهما البعض بكياسة، بشرف وباحترام"، وقد حل بالجزائر أول مبعوث مقيم أمريكي بعد ذلك بعامين، مما جعل الجزائر سادس دولة في العالم لديها بعثة أمريكية دائمة، والأولى خارج أوروبا.
*
تعلمت أيضا أن الجزائريين، على غرار الأمريكيين، يثمنون الحرية، الوفاء والإنسانية قبل كل شيء. في عام 1823، وفي أعقاب اشتباك بين القوات التركية والقبائل في بجاية، أمر الداي جميع البعثات الدبلوماسية تسليم موظفيها القبائل إلى السلطات التركية. وكان هذا قبل فترة طويلة من صياغة اتفاقية فيينا التي تمنح الحماية للدبلوماسيين. خُربت العديد من البعثات ونُهبت كما اعتقل مُوظفوها. على الرغم من المخاطر، رفض القنصل العام الأمريكي وليام شايلر خيانة زملائه القبائل وأمَّن لهم ملجأً داخل أسوار القنصلية. لم يعتقل أي مُوظف؛ ولم يتأذى أي منهم.
*
بعد سنوات عديدة، خلال الحرب العالمية الثانية، حاول الفاشيون تجريد اليهود في الجزائر من ممتلكاتهم وحقوقهم، وعرضُوا على المسلمين الجزائريين مكافآت مُغرية في حال مساعدتهم. فحشد الشيخ الطيب العقبي، الذي كان يتبنى نفس أفكار ومبادئ العلامة عبد الحميد بن باديس، الملأ للدفاع عن جيرانهم اليهود الذين كانوا يواجهون خطرا شخصيا هائلا. أصدر الأئمة في جميع أنحاء البلاد فتاوى ضد الاغتناء على حساب معاناة الآخرين. وعلى الرغم من فقرهم المدقع، رفض المسلمون الجزائريون قبول العرض. واجه الجزائريون البسطاء خطرا كبيرا في سبيل الدفاع عن شرف الإنسانية.
*
هذا المناخ ميز أول لقاء بين الوطنيين الجزائريين والدبلوماسيين الأمريكيين. في لحظة استشراف للمستقبل عام 1942، سأل فرحات عباس المبعوث الأمريكي روبرت مورفي عن نظرة الولايات المتحدة الأمريكية لجزائر مستقلة، أجاب مورفي، "الأمريكيون متعاطفون مع جميع الرغبات من أجل الاستقلال". بعد خمسة عشر عاما، أعلن السيناتور جون كينيدي، بجرأة، في مجلس الشيوخ أن "الإمبريالية عدوة للحرية" وعَرض مشروع قرارٍ لدعم استقلال الجزائر. صَدمَت كلمات كينيدي النظام القائم في جميع أنحاء العالم آنذاك. ولكن بعد خمس سنوات، تحققت قناعة السيناتور بخروج الجزائر من الحرب قويةً ومستقلةً. في 3 جويلية 1962 - أي قبل 49 عاما بالضبط - شدد الرئيس كينيدي، بفخر، على أهمية توطيد "أواصر الصداقة الأمريكية مع حكومة وشعب الجزائر" وعلى التزام بلدينا للعمل معا لتحقيق "الحرية، السلام والرفاه".
*
في السنوات التي أعقبت ذلك اليوم البالغ الأهمية، تصارع بَلدَاناَ مع أسئلةٍ عويصةٍ حول طبيعة الحُرية. كبلد حديث الاستقلال، كانت الجزائر تُناضل من أجل ترسيخ وتحديد حكومتها، مجتمعها المدني، ودورها في العالم.
*
ما تعلمته وما عشته "كجزائري" دفعني إلى الالتحاق بالسلك الدبلوماسي. منذ ذلك الوقت، شهِدت كيف استطاع بلدانا العمل معا بطرق يصْعُب على الجيل الذي قبلنا تخيُلها. رفعت رأسي بكل فخر عندما هرعَت الطائرات الأمريكية لنقل المساعدات الإنسانية إلى مطار هواري بومدين لفائدة ضحايا زلزال 1980 بالأصنام. كما انحنيت تجلةً وامتناناً عندما شاهدت الرهائن الأمريكيين المختطفين في طهران، المفرج عنهم بوساطة جزائرية، ينزلون بأمان من الطائرة بعد ثلاثة أشهر فقط، في المطار نفسه.
*
الخلافات القديمة أصبحت من الماضي، تجاوزناها بالتزامنا المشترك لمواجهة التعصب ولمواجهة أولئك الذين يستعملون سياسة التخويف والترهيب لفرض أساليبهم على العالم.
*
عندما نتأمل في التغيرات العميقة التي تجتاح المنطقة، أود أن أقف وقفة إجلال وإكبار لشجاعة أسلافنا. الناس يبحثون عن الحرية، الفرص والكرامة بإصرارٍ لم يسبق له مثيل، والسعي لتحقيق تلك التطلعات سيأخذ أشكالا تختلف باختلاف المجتمعات.. ولكن هناك شيء واضح. نحن نشهد لحظة محورية في التاريخ، والعالم الذي سنتركه للجيل القادم يعتمد على المثال الذي نضعه الآن، نحن ندين بهذه اللحظة لولاء وليام شايلر، لكرامة عبد الحميد بن باديس، لإنسانية الطيب العقبي، ولشرف جون كينيدي. وما ندين به لأطفالنا لا يقل عن ما قدمه لنا هؤلاء الرجال، إنه دورنا الآن
.