ocean Admin
مزاجي *: : الجنسيه *: : عدد المساهمات : 16284 تاريخ التسجيل : 21/07/2009
| موضوع: عمران ابن خلدون.. والعمارة المعاصرة الثلاثاء أبريل 12 2011, 22:27 | |
| عمران ابن خلدون.. والعمارة المعاصرة
تطور فن العمارة عبر مختلف حقب التاريخ بفعل الإرادةالإنسانية, التي عبّر عنها الفرد أو الجماعة. لذا تعتبر إرادة القوى البشرية المحركالأساسي والمباشر للتفاعل الجدلي, بين المادة الخام وتحولاتها اللاحقة إلى مبانجميلة. العمارة ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى فهم معمق للمقولات الجمالية الدائمةالتطور, وبالتالي, لا يجوز تفسيرها بالأوضاع الاقتصادية بصورة ميكانيكية, دون إعطاءالإرادة البشرية لدى الأفراد والجماعات, ومعها إرادة القوى الحية والفاعلة فيالمجتمع - الدور الأساسي في قيام ما أسماه ابن خلدون (علم العمران الحضري), فيمواجهة البداوة المترحلة, التي يغلب عليها طابع الخشونة والتوحش وعدم الاهتمامبالعمران, وتهديم ما هو موجود منه. كان ابن خلدون من أوائل الباحثين العرب الذين صنفوا الظاهراتالاجتماعية على أسس علمية, ودعوا إلى تحليلها بعد مقارنتها مع طبائع (علم العمران) الذي شكل منطلقا مهمًا لقيام علم الاجتماع, ومن بعده علم الإناسة أو الأنثروبولوجياالثقافية. أما في التاريخ الحديث والمعاصر, فقد تم ربط علم العمارة بالتطورالفكري والاقتصادي والاجتماعي الذي شهدته بعض مناطق العالم, خاصة أوربا منذ القرنالتاسع عشر, فالعمارة الأوربية الحديثة هي وليدة عصر النهضة, الذي كان بدوره وليدإحياء العقل الإغريقي بصورة عقلانية وإبداعية. وجاءت ولادة العمارة العصرية كمنطلقلإحياء العقلانية الإغريقية, ونبذ كل أشكال اللاعقلانية. في حين لم يتمكن الفكرالعربي في عصر النهضة من تجاوز جماليات القرون الوسطى التقليدية, تجاوزًا يؤهلهلمواجهة متطلبات المعاصرة, بقدر ما تمكنت منه أوربا تدريجيًا, وخلال القرون الخمسةالماضية. تتمحور المنهجية العامة في مجال فن العمارة العصرية حول معايير ثلاثة: المعرفة الوصفية لخصائص الأشياء والظواهر, والمعرفة المعنوية للعلاقات الاجتماعية, بما في ذلك تحديد هوية المجتمع وخصوصيته, والتراتبية الاجتماعية والطقوس الدينيةوالعادات الاجتماعية, وأخيرًا المعرفة التي تحدد مقاييس للأشياء والظواهر الطبيعيةوالاجتماعية. ويلعب المهندس المعماري دورًا أساسيًا في تأمين حاجات ثلاث: الوظيفةالنفعية التي تشبع المطلب النفعي, والوظيفة الرمزية التي تطمئن متطلبات هوية الفردوالجماعة, وتشمل العقائد والعادات والعلاقات الاعتبارية, والوظيفة الاستاتيكية أوالجمالية بحيث تؤمن العمارة متعة إدراكية وبصرية, ويتضمن التكوين المعماري فيهاقيما تنويعية مركبة تؤمن للناس المتعة والاسترخاء النفسي. إن إقحام التفسير الغيبي في تحليل الظاهرة الفنية, وفي صلبها فنالعمارة, مسألة غاية في الخطورة. فالعمران ظاهرة اجتماعية يمكن إخضاعها للتحليلالعلمي من خلال التعرف إلى بناها السكانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إلاأن صعوبة تحليل الظاهرة الفنية المعمارية تكمن في غياب المصطلحات والمفاهيم العلميةالدالة عليها. وقد توصل الباحثون في الدول المتطورة إلى صياغة مناهج دقيقة لمقاربةالظاهرة الفنية المعمارية من مختلف جوانبها, في حين بقيت تلك المصطلحات والمفاهيممغيبة أو غير دقيقة لدى المعماريين العرب. ويعتبر الدكتور رفعة الجادرجي من أبرزالباحثين المعماريين العرب الذين كتبوا دراسات نظرية مهمة استفدت منها في إعداد هذهالدراسة للربط بين مقولات (علم العمران) الخلدوني, ومقولات فن العمارة في الدولالأوربية والأمريكية والآسيوية المتطورة. علل الجادرجي غياب الدراسات العربية المتميزة في مجال فن العمارةبوجود معوقات فكرية ولغوية تمنع قيام منهجية متكاملة لدراسة الظاهرة الفنية فيالمجتمعات العربية. لذا تم اللجوء إلى مصطلحات مثالية كالإبداع والإحساس المرهفوجمالية الشكل وغيرها. فوصف الجادرجي هذه المعضلة بقوله: (إن الفكر الكامن وراء هذهاللغة لم ينفض عنه بعد هيمنة السلطة, أي الدولة والدين, ولم يتمكن من إطلاق طاقاتهفي استحداث مفاهيم معاصرة يصف بموجبها ظاهرة الفن وغيرها من الظواهر التي تخصه. كماأن الحوار الثقافي الذي يهيئ لنا لغة التنظير, قد أهمل في الفكر العربي منذ القرنالثالث عشر, حيث أنهى عهد الفلاسفة العرب بسبب تعارض هذا الحوار مع الغيبياتالدينية). العمران... وثيقة تاريخية العمران ظاهرة اجتماعية متعددة الغايات, وهي تستجيب لحاجات اجتماعيةولمتطلبات العلاقات العائلية والطبقية والتراتيبة الاجتماعية من جهة, ولتبدلاتالتقنيات المستخدمة في تصنيع المواد الخام من جهة أخرى. وهي تعبر أيضًا عن توقالإنسان لحياة أفضل, وسعيه نحو التنمية البشرية والمادية المستدامة, وشغفه بإبداعظاهرات اجتماعية تخلد ذكراه, وبهذه الطريقة أبدع الإنسان المفكر أنواعًا متجددة منالعمارة كوثائق دالة عليه, وذلك في توسع دائم نحو معرفة أكثر توافقًا مع الواقعالاقتصادي والاجتماعي الذي عاش فيه. وليس من شك في أن الصيغة الأمثل للإنتاج لا علاقة لها بديمومة الشكلالتقليدي, ولا تقترن بعوامل تصنيعه, وبالتحديد الخصائص الواقعية للإنتاج, وإنماتقترن بعوامل اجتماعية أخرى, كالسياسة أو العقيدة أو العاطفة. ولا جدوى من الرجوعإلى الحرفة التقليدية, أو الإصرار على الحفاظ عليها في الإنتاج البنائي المعاصر. وهذه مسألة نظرية مهمة لا علاقة لها بالحفاظ على مكونات التراث وموجوداته, وكيفيةصياغة معالمه وفق أحدث الطرق العلمية الحديثة. إن حماية التراث علم قائم بذاته, بالإضافة إلى كونه واجبًا إنسانيًاملقى على عاتق البشرية بأسرها, وليس فقط على الدول التي تحتضن أمكنة تراثية, وكثيرًا ما تكون عاجزة عن ترميمها أو صيانتها أو الحفاظ على معالمها. والهدفالإنساني منه هو التوثيق العمراني, أي الحفاظ على العمارة كوثيقة تاريخية تتحول إلىكتاب مفتوح لجميع الناس. ولا تتضمن هذه العملية أي أهداف اقتصادية على الإطلاق. ناهيك عن أن الحفاظ على المعالم التراثية هو المدخل الحقيقي للتأكيد على هويةالمجتمع وخصوصيته. أما الترويج لبعض المعالم التراثية لأسباب دينية أو سياحية أوعائلية, فشيء آخر. ففي هذه الحالة لا يعاد ترميم البناء التراثي أو تأهيله للحفاظعليه كوثيقة عمرانية, وإنما لصيانة الشكل بهدف إشباع حاجات شخصية, أو عائلية, أودينية, أو سياحية, أو تجارية, أو غيرها. وهناك فارق كبير بين الحفاظ على التراثكوثيقة عمرانية, وبين صيانتها وإعادة تأهيلها, والتلاعب أحيانًا ببعض مكوناتهاالأساسية لكي تلعب وظائف جديدة معاصرة تحافظ فقط على الشكل الخارجي للعمران كوثيقةتاريخية. وفي حين يتوجب التقيد الشديد بالتقنية التقليدية, أو بأسلوب متوافقكليًا مع التقنية الأصلية عندما يكون الهدف هو الحفاظ على التراث العمراني كوثيقةتاريخية, يتم التحلل بصورة شبه تامة من تلك القيود عندما يكون الهدف إشباع حاجاتسياحية أو تجارية معاصرة. ظاهرة العمران الحضري لكل ظاهرة اجتماعية, ومن ضمنها ظاهرة العمران, بنية خاصة بها, ويقومأساس نظرية العمارة على أن شكل العمارة المرئي هو محصلة لتفاعل مسبق بين المطلبالاجتماعي للعمارة من جهة, وتكنولوجيا استحداثها من جهة أخرى. فالعمران فن وتعبيرعن عاطفة بشرية, والتفاعل معه يتم عن طريق إسقاط العواطف الإنسانية على العمارةبهدف التمتع أو الإحساس الوجداني بها. وهي جسم مادي تم استيلاده بنتيجة التفاعلالخلاق بين الفكر والمادة. لكنها, في جوهرها, تلبي حاجات الإنسان. فهناك إحساسطبيعي لدى الإنسان بالحاجة, والوعي بها, وتعيينها, والقرار بإشباعها وتسخير الفكرللتوصل إلى صيغة فكرية مناسبة للتعامل مع العالم الخارجي عن طريق تحويل الموادالخام إلى معالم مادية مناسبة. يقدم تاريخ تطور العمارة أو علم العمران فرصة بحثية ثمينة للتعرف إلىالمقومات الاجتماعية والروحية والدينية والأسطورية والسحرية وغيرها, التي تكمن فيمعرفة الظروف المادية لقيام تلك العمارة, كما يقدم معرفة مباشرة بالتقنية الماديةوالاجتماعية, وطرائق الإنتاج, والمكننة الاقتصادية, والتنظيم الاجتماعي, وأدواتالإنتاج, التي استخدمت في تشييدها. ويستند التكوين الداخلي للظاهرة الاجتماعية إلىتفحص شتى العلاقات بين مقوماتها وترابط تأثير كل منها في الآخر, ومدى القبولوالاستجابة للتأثيرات الخارجية أو رفضها, وتنقسم دورة الإنتاج إلى ثلاث مراحل: التصور والتصنيع والتلقي, ومن خلال تفاعل هذه الركائز الثلاث تبرز جدلية العلاقاتكعملية انسجام أو تناقض بين الأضداد من خلال ترابطها لتشكيل كيان مادي. فظاهرة العمران من صنع الإنسان. ولا يقتصر دور الفكر على اكتشافالعمارة أو ترميمها فقط, بل أيضًا إلى تحليل الأسباب الكامنة وراء نشوئها وتطورها. وهي تنقسم إلى أربعة أشكال: علاقات الفرد الاجتماعية مع الأفراد الآخرين, ومعالمجتمعات الأخرى, ومع التصورات الوهمية, ومع الإنتاج الصناعي, الذي يتكون منالأعمال التي أنتجتها يد الإنسان في مختلف حقب التاريخ. وما يميز الظاهرات الطبيعيةأنها نتاج أعمال لا يد للإنسان فيها. أما الظاهرات الاجتماعية فهي بالتحديد من صنعالإنسان. والعمارة هي الظاهرة الاجتماعية الأكثر بروزًا وثباتًا, لأنها صنعت منمواد صلبة, ومنها ما له القدرة على الاستمرار لقرون طويلة. ونظرًا للترابط الوثيق بين الاستاتيكية والجمالية يصبح الفن المعماريضرورة اجتماعية, أو أنه يفرض نفسه كضرورة اجتماعية على مستويين: الأول, لتطمينالتعامل اليومي للحاجة الاستاتيكية, والثاني من خلال التفاعل بين المادة والفكر. وتكمن أهمية الفن المعماري في كيفية التعامل اليومي معه, وأي موقف نظري لا يرجعإلى هذه الضرورة هو موقف ميتافيزيقي غيبي, لا يصف الواقع وصفًا يتمكن الفكر بموجبهمن الوقوف على الظاهرة الاجتماعية, ومعرفة واقعها المادي. ويلعب العمران أيضًاوظيفة البديل الذي يخفف من رتابة المعاش اليومي, لكي يتمكن الإنسان بموجبه من تخفيفالتوتر النفسي المتراكم بسبب الرتابة المتأصلة في معاشه اليومي. لذا يرجع تاريخغالب الأعياد والمهرجانات والكرنفالات, لدى شعوب الشرق الأوسط, كما لدى شعوب أوربا, إلى هدف أساسي هو إعادة الحيوية لحياة الفرد والمجموعة. فالأعياد, بهذا المعنى, ظاهرة اجتماعية في الأصل, هدفها تجميع الأفرادفي زمن محدد مسبقًا وبموجب تقويم معتمد. والسبب الجوهري لجمعهم هو تحقيق وظيفةاجتماعية يتم بموجبها تهيئة الظروف المناسبة ليتمكن الفرد من أن ينسحب مؤقتًا منرتابة المعاش اليومي وتخفيف التوتر النفسي المتراكم من جرائه. هنالك سلوكيات مختلفة للمجتمعات البشرية في مجال منح الفرد فرصةالاسترخاء لتطمين الحاجة الاستاتيكية, عن طريق المرح كما هي الحال في أكثرالمهرجانات العالمية, أو تطمينها عن طريق الحزن الظاهري. وفي هذا النمط من الاحتفالالجماهيري يصبح النحيب والبكاء وسيلة ظاهرة لتأمين مناسبة اجتماعية, يستطيع الفردمن خلالها تخفيف التوتر النفسي المتراكم لديه. فمنذ قيام المجتمع الزراعي الحضري قبل نحو ستة آلاف سنة, تبلور انفصامحاد بين المؤدي المصنع من جهة, والمؤدي المنظم الإداري من جهة أخرى. فانقسم المجتمعإلى قطبين: آمر ومأمور, الملك والرعية. تسند الملك نخبة تعمل ضمنها حاشية القصروالكاهن والقاضي والقائد العسكري والإداري, وغيرهم ممن يتمتعون بمركز السلطة علىسلوكية الإنتاج ومراقبة المحاصيل. وفي مواجهة هذا الحلف يقف حلف آخر يتكون منالفلاح والحرفي والجندي. وجاءت الأيديولوجيات لتبرر هذا الانفصام الاجتماعي وتعتبره حالةقائمة منذ الأزل, وهي غير قابلة للتغيير إلا في عالم لاحق حيث يتساوى الجميع بعدالموت. وقد ابتليت المجتمعات العربية بأيديولوجيات تبرر السلطة الاستبدادية وتمنحهاطابع الشرعية الدينية. وتم التعاطي مع من يؤدي العمل اليدوي بأنه ينتمي إلى فئةاجتماعية تتصف بالعامية أو الدونية كالفلاح والحرفي. ونشأت فلسفة مثالية اعتبرتالعمل اليدوي سلوكًا دونيًا يشير إلى انقسام المراتب والطبقات الاجتماعية. وأعطيت أهمية استثنائية للقوى البشرية التي لا تمارس الأعمال اليدويةواعتبرتها طبقات مميزة منها الملك, والسياسي, ورجال الإدارة, والكتاب, والفلاسفة, والفنانون وغيرهم. عندما أصبح التنظيم والتوقيت للانتفاع عن طريق الآلة, فقد العاملالمصنّع دوره الفكري بهذا الموقع الجديد والعلاقة بالإنتاج, أي فقد آنية القرار, التي كان يتمتع بها عندما كان حرفيًا. وبقدر ما كانت تتم المكننة لعملية التصنيعوبرمجة إدارتها مسبقا, كان يتم عزل الفكر الحرفي, وألغي الكثير من دوره السابق فيالإنتاج. وبسبب هذا العزل فقد الفكر المبرمج تماسه المباشر مع عملية التصنيع. استمر الفكر الأكاديمي في عزل نفسه عن عمليات التصنيع وحصر التعليم فيالتنظير, وكتابة تاريخ العمارة في مسألة شكلية الشكل لا غير. وانحصر النقاشالأكاديمي في جمالية الشكل وأفضليته ذوقيا أو دينيا أو وجدانيا أو رسمانيا وتميزطرزه غوطيا أو كلاسيكيا. أما ظاهرة الفصم بين التنظير والتصميم والتنفيذ فحالة مستحدثة, لاسيمافي العالم الثالث وذلك منذ مرحلة الاحتكاك المباشر والكثيف مع الخارج. وتطورت ظاهرةالمكننة وهيمنة الأكاديمية على العمل المعماري إلى زيادة الفصم بصورة مضاعفة, وبرزتتأثيراتها السلبية في مختلف مجالات العمارة العربية. فابتعاد الفكر المعماري عنالممارسة الفعلية حالة سلبية, لأن الفكر عندما يعمل بصورة مجردة ودون تماس معالواقع المادي يتحول إلى فكر تجريدي لا يدرك التبدلات الحقيقية, التي تحصل فيالمادة أثناء عملية التصنيع. بعبارة موجزة, خلال تاريخها الطويل أقدمت العمارةالحديثة الدولية على ثورات تقنية متتالية. إلا أنها تجاهلت الخصوصيات الإقليمية والمحلية, وافترضت أن متطلباتالمكننة المعاصرة تستلزم اختزال التنويع إلى الحد الأدنى. وغالبًا ما تحولت البيئةالتي أنتجتها العمارة الحديثة في كثير من المدن الحديثة إلى أماكن تستدعي الكآبة, وتحتضن مراكز للإجرام أحيانًا. ومع تكاثر الأعداد السكانية وتمركزها في أماكن جغرافية ضيقة, ظهر تلوثالبيئة الاجتماعية والطبيعية بصورة بشعة, وذلك في ظل غياب أي رادع سياسي أو ديني, أو أخلاقي قادر على التصدي لتلك المشكلات التي تسيء إلى إنسانية الإنسان. ونتج عنذلك تلوث البيئة الجغرافية بسبب التصنيع الممكنن بصورة غير عقلانية, وسعي دائملتحقيق أرباح سريعة, وعدم التزام المهندس المعماري بالمبادئ الخلقية في تقديم سكنمريح يليق بالبشر ولا يمتهن من كراماتهم ككائنات إنسانية ذات حقوق مكتسبة يجبالحفاظ عليها. لقد برز إرباك كبير في الفكر العمراني لعدم وضوح الدور المنوط بهلبناء مجتمع الرعاية والرفاه الاجتماعي, وتجاهل مشكلات التلوث البيئي والاكتظاظالسكاني والتشوه الذوقي. وتم ذلك تحت وطأة الربح السريع الذي تسعى إلى تحقيقه قوى رأسماليةطفيلية, تقوم على المضاربات العقارية, وتخالف أبسط المبادئ الإنسانية والخلقية. هكذا ولدت عمارة ما بعد الحداثة على قاعدة احترام التكوين الشكلي فقط, وتجاهلالموقف الاجتماعي والإنساني, وعدم الاهتمام برفاه المجتمع وبالرعاية الاجتماعية. واتجه بعضها لبناء عمارة بمواصفات تكنولوجيا مجردة من المبادئ أو القيم المثالية, ولا تسعى إلى إشباع الحاجة الجمالية لدى البشر. تحديث التراث يتمثل التقليد بانتقال المعرفة من جيل إلى جيل, ومن المعلم الكبير إلىالمبتدئ الصغير وذلك عن طريق تكرار الممارسة نفسها. فالتقليد يفضي إلى معرفة مكررةلا تقبل التطور.وهي لا تخضع لضرورات التعديل بل تتجنبه لأنها اكتسبت صفة رمزيةكالتي تتمثل بطقوس دينية. لقد كانت معرفة محتكرة من قبل فئة من المصنعين دون غيرهم للحفاظ علىسر المهنة. ويلعب التقليد عاملاً أساسيًا في منع قيام التغيير بسبب سهولةالتلقين, والحفاظ على معاش القوى المستفيدة من الحرف التقليدية, والطقوس الاجتماعيةوالدينية المرتبطة بعملية الإنتاج التقليدي. بالمقابل, بعد أن تحرر الفكر الغربي العلمي من الاعتقاد الأعمى وهيمنةالسلطة الفوقية, الدينية والمدنية, تحول العلم إلى سلاح نظري لفهم الواقع بهدفتطويره وتغييره. فالعالم المعاصر لا يعتبر النظرية العلمية أكثر من تعميم مناسبومفيد في تفسير الظاهرات الطبيعية, وأسلوب التعامل معها. وقد منح العالم لنفسه الحقفي الشك لإثبات الفرضية باليقين العلمي. ومن دون هذا الاستقلال المنهجي سيبقى الفكرالمعاصر معوقًا. إن إنجاز عمارة معاصرة يحتاج بالضرورة إلى تسخير تقنيات معاصرة من أجلتلبية حاجات الناس المتزايدة في المرحلة الراهنة. لذا, فاللجوء إلى تقنية غيرمعاصرة أو نقل أو تكرار الحرفية التقليدية في الزمن المعاصر هو عمل معوق لاستحداثعمارة عربية معاصرة. فلابد للمهندس المعمار العربي من أن يبقى على تماس مباشر معالنظريات المعمارية التي تنتجها مركز الدول المتطورة. وعليه أن يواكب مسار التقدمالمعماري العالمي من جهة, وأن يجد لنفسه موقعًا متميزًا في شبكة الثقافة العالمية. وبحصوله على استقلاله النسبي عن الفكر الغربي والعالمي عامة, وعن هيمنة ما هو سائدمن التراث المحلي, ينتقل المعمار العربي إلى حالة أكثر تقدمًا في إقامة التوازنالإيجابي بين الفكر العالمي والفكر التراثي التقليدي معًا. ختامًا, لقد أطلق ابن خلدون في مقدمته مقولات لثقافة كونية الطابع تحتعنوان (علم العمران الحضري). لكن المنظرين الأوربيين والأمريكيين والآسيويين طورواخصائص العمارة المعاصرة بصورة مذهلة لدرجة لم تعد معها المقولات السابقة قادرة علىالمواجهة. ولم يترك التكوين الاقتصادي والسياسي العالمي للمجتمعات المحلية في عصرالعولمة خيارًا للعزلة. وليس بمقدور العرب الانعزال عن المجتمعات الأخرى تحت ستار الهوية, والخصوصية, ونقاوة التراث, فقد انفتحت آفاق الثقافة والفنون, ومنها فن العمارة, علىمتطلبات عصر العولمة, وباتت المواجهة الثقافية تتطلب المزيد من معرفة الثقافاتالمعولمة بهدف التفاعل الإيجابي معها, والتخفيف من سلبياتها الكثيرة. وذلك يتطلب منالباحثين العرب الكثير من الجهود النظرية للانتقال من مقولات (علم العمران) الخلدوني إلى فن العمارة العصرية, مع الاحتفاظ بجماليات عربية أصيلة ومتميزة. هيَ النَّفسُ إنْ ألقتْ هواها تضاعفتْ قُواها, وأعطَتْ فِعلَها كُلَّ ذرّة وناهيكَ جَمعاً, لابفَرْقِ مساحَتي مكانٍ مقيسٍ أوْ زمانٍ موقتِ مسعود ضاهر
| |
|