قيل :"إن انطباق الفكر مع ذاته يقتضي تجاوز اللغة العادية و رفض لمبدأ الثبات ." حلل و ناقش هذه الاطروحة.
طرح المشكلة: يتميز العقل السليم بتماسكه الفكري و احترازه من الوقوع في الخطأ و التنازع مع ذاته و هو في حاجة غلى ميزان يصقل به اشتدلالاته و يوجهها توجيها صحيحا يعرف بالمنطق الصوري الذي ارتبط تاريخيا يالفيلسوف الاغريقي أرسطو طاليس حين أقر بأنه أوجد الة للتفكير الصحيح"أورغانون" يميز بها صحيح الفكر و فاسده,غير أن تقدم المعرفة و ظهور أنماط جديدة من التفكير وضع هذا المنطق على المحك نظرا للغة المبهمة التي يعتمدها و قيامه على مبدأ الهوية و الثبات’حتى قيل ان انطباق الفكر مع نفسه يقتضي تجاوز اللغة العادية و رفضا لمبدأ الثبات,فهل انتهى عهد المنطق الصوري؟ و غلى اي مدى يصدق الاعتقاد الداعي إلى تجاوزه باسم الرمزية و التجديد؟
محاولة حل المشكلة:
ان المنطق الصوري يفيد معرفيا إذ يعصم الذهن من الوقوع في الخطأ استنادا الى مجموعة قواعد صورية و احترامها يقود الى تفكير صحيح خال من الاخطاء,منها تلك التي تساعد على التمييز بين التعريف المنطقي و غيره من التعاريف اللامنطقية,و اخرى تبين الاستغراق في القضايا الحملية و شروطه و ثالثة تتعلق بالاستدلال و قواعده مباشرا كالتقابل و العكس أو غير مباشر كالقياس بنوعيهالحملي و الشرطي,علاوة على ان المنطق الصوري يستند الى مجموعة مبادئ كمبدا الهوية و مبدأ عدم التناقض و الثالث المرفوع ما يضمن سلامة التفكير و تطابقا للفكر مع ذاته,لقد وصل اليقين بالمنطق الصوري أن قال عنه أرسطو:"إنه الة العلم و صورته"ووصفه الغزالي بالقول:"عاصم للذهن من الوقوع في الزلل مميز لصواب الرأي من الخطا في العقائد..." و ساد الفكر الاوروبي لفترة تزيد عن السبعة عشر قرنا لدرجة غدا فيها مقدسا ووصف بان غنجيل العصور الوسطى بل هو الفن الذي يكفل لعمليات العقل قيادة صحيحة بتعبير القديس توما الاكويني.
لا ننكلر ما للمنطق الصوري من اثر في سلامة التفكير و بلوغ اليقية المعرفي و ضمان قيادة منظمة للعقل اثناء عملية الاستدلال نظريا,إلا انه وصف بالثبات و الجمود نتيجة قيامه على مبدا الهوية كما نعت لاعقم و صلاحه للمناقشة و الجدل اكثر من صلاحيته لإنتاج معرفة جديدة,و قيامه على لغة مبهمة ما يؤدي إلى المغالطات,يقول ثابت الفندي:"مادام المنطق يتعامل بالالفاظ لا بالرموز فانه يبقى مثار جدل حول معاني المفاهيم و التصورات المستعملة....."
و تبعا لهذا النقص و تماشيا مع متطلبات التفكير المتجدد المتغير اتجهت اهتمامات المناطقة و الرياضيين خلال القرنيين التاسع عشر و العشرين الى اساليب جديدة تسمح للفكربالنتقال من اللفظ الى الرمز و من الثبات الى التغير,فأكد الانجليزي برتراند رسل أن من أراد دراسة منطق ارسطو أو احد تلامذته فوقته ضائع و أبدع ما يعرف بالمنطق الرمزي مع فنجشتاين و اخرون يقوم على لغة الرموز و الاعداد توخيا لاكبر قدر من الدقة و الوضوح و اليقين علاوة على ان نتائجه غير متضمنة في مقدماته و يقود الى نتائج ايتكارية و مثال ذلك:
-الكل اكبر من احد اجزائه
-لدينا خمسة اجزاء
-النتيجة مفتوحة للبحث....
كما ظهر المنطق الجدلي على يج الالماني فريديريك هيجل ينبذ الثبات و يقوم على التناقض و صراع الاضداد كنتيجة حتمية لجدل و تغير على مستوى الافكار
مثال:الفكرة+نقيضها=المركب
المركب+نقيض المركب=نتيجة جديدة
و ينطبق ذلك على جدلية السيد و العبد و جوهرها صراع فكري محرك للتاريخ.
لئن كنا نوافق المناطقة وعلماء الرياضيات على ضرورة الحركية و الدقة في النتائج و تجاوز السكون واللغة العادية التي مجالها العلوم الانسانية بشكل اساسي الا اننا نؤكد من جهة مقابلة ان الاحكام المنطقة على اختلافها مهما بلغت في التجديد و التطور فانها لا تفلت من تأثير حتميات متعددة نفسية كانت او اجتماعية او فلسفية,يقول ثابت الفندي:"لا شك ان موقف الانسان من فكرة الحقيقة و مدى اليقين بها انما يتاثر باعتناقه منطقا دون اخر من انواع المنطق العديدة الممكنة للانسان..."
و عليه فغن انطباق الفكر مع ذاته و البحث النظري عن الحقيقة تجلى للانسان بطرق مختلفة منذ القرن الثالث قبل الميلاد الى اواخر القرن العشرين و ما بعده ,لقد كان المنطق الارسطي على جانب كبير من الفائدة الصورية فكما ان تدريب البدن على الرياضة لا يفيد مباشرة فان الذهن بحاجة الى ممارسات عقلية بالحتام الى قواعد منطقية يتعودها مع الممارسة المستمرة ما يعصمه من الوقوع في الخطأ’و بما ان التطور خاضية الفكر الانساني فان حتمية هذا التطور أبرزت أشكال جديدة من التفكير المنطقي كما هو حال باقي العلوم و إن عبر ذلك عن شيئ فإنه يعبر عن مدى تقدم الانسان.
حل المشكلة:
نلخص بناءا على ما سبق ذكره إلى أن تطور المنطق و انتقاله من مرحلة الصورية إلى الرمزية و الجدلية حقيقة يقرها التاريخ نتيجة عوامل متعددة ذاتية وأخرى موضوعية ,وأيا كانت نتيجة الجدل القائم بين القدماء و المحدثين حول المؤاخذات التي وجهت إلى منطق أرسطو فإن له جانب كبير من الفائدة العملية , يكفي اننا نستخدمه في تفكيرنا العلمي و العامي و بدونه يفقد الخطاب تماسكه.