• حماية الأماكن المقدسة الإسلامية من مخططات الصليبية البرتغالية.
• الدولة العثمانية تحافظ على إسلام وعروبة شمالي إفريقيا.
• إيجاد وحدة طبيعية بين الولايات العربية.
• إبعاد الزحف الاستعماري عن الوطن العربي.
• الدولة تضفي الهدوء والاستقرار على الولايات العربية.
• الدولة تمنع انتشار المذهب الشيعي إلى ولايتها العربية.
• الدولة العثمانية تمنع اليهود من استيطان سيناء.
• الدولة تحد من هجرة اليهود إلى فلسطين.
• دور الدولة العثمانية في نشر الإسلام في أوروبا.
• مدى نجاح الدولة العثمانية في نشر الإسلام في أوروبا.
• من إيجابيات الحكم العثماني.
• من أهم سلبيات الخلافة العثمانية، والتي كان لها الأثر في إضعاف الحكم.
• • • • •
لا ريب أن الدولة العثمانية قد قامت بدَوْر هامٍّ وبارزٍ في نشر الإسلام في أوربا، رغم ما تعرضتْ له من تكتلات صليبية حاقدة ضد الإسلام والمسلمين، وتبادلت الدولة مع أعدائها الهزائم والانتصارات، إلا أنها قدمت خدمات جليلة للمسلمين والعرب، وقامت بحماية الشرق العربي والإسلامي من الغزو الاستعماري لمدة ثلاثة قرون، ومن أهم ما قامت به في هذا المجال:
أولاً: حماية الأماكن المقدسة الإسلامية من مخططات الصليبية البرتغالية:
كانت أعظمَ خدمة أسدتها الدولة العثمانية للإسلام، أنها وقفت في وجه الزحف الصليبيّ الاستعماريّ البرتغاليّ للبحر الأحمر، والأماكن المقدسة الإسلامية، في أوائل القرن السادسَ عَشَرَ الميلادي، فعلى الرغم من أن الدولة أخفقت في طرد الاستعمار البرتغالي من مراكزه في المحيط الهندي ومنطقة الخليج العربي، إلا أنها نجحت في منع تغلغله إلى الحجاز، حيث كان البرتغاليون يعتزمون تنفيذ مخطط صليبي فظٍّ في قسوته ووحشيته، وهو دخول البحر الأحمر واجتياح إقليم الحجاز باحتلال ميناء جدة، ثم الزحف على مكة المكرمة، واقتحام المسجد الحرام، وهدم الكعبة المشرَّفة، ثم موالاة الزحف منها على المدينة المنورة؛ لنَبْش قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم استئناف الزحف على تبوك، ومنها إلى بيت المقدس، والاستيلاء على المسجد الأقصى؛ وبذلك تقع هذه المساجد الثلاثة في أيدي البرتغاليين[1]، وكان الأسطول البرتغاليّ قد نجح في دخول البحر الأحمر، وقام بمحاولتين لاحتلال ميناء جدة، كانت الأولى في عام (923هـ / 1517 م)، والثانية في عام (926هـ / 1520م)؛ ولكنه أخفق في محاولتيه؛ فأرسل البرتغاليون حملة كبرى إلى ميناء السويس باعتباره قاعدةَ الأسطول العثماني في البحر الأحمر، واستهدفوا تدميره هذه القاعدة، ولما بلغوا الطُّور علموا أن الأسطول العثماني يقف في حالة تأهب، وارتدوا على أعقابهم دون أن يلتحموا به[2].
وقررتِ الدولة اتخاذ اليمن قاعدةً حربية للدفاع عن البحر الأحمر، ومنع السفن البرتغالية من دخوله، ثم عمَّمت هذا المنْع على جميع السفن المسيحيَّة، بحيث كان على هذه السفن أن تفرغ شحناتها في ميناء "المخا" في اليمن، وتعود أَدْرَاجَهَا إلى المحيط الهندي، وكانت حجة الدولة العثمانية في هذا المنع هي أن الأماكن الإسلامية المقدسة في الحجاز تُطِلُّ على مياه البحر الأحمر، ويجب ألا تُدَنِّسَ مياهه بوجود سفن مسيحية تَمْخُر عَباب هذا البحر، وقد ظل هذا الحظر معمولاً به حتى القرن الثامن عشر[3].
وجدير بالذِّكر أن المشروع البرتغالي الصليبي لم يكن الأوَّلَ من نَوْعه، فقد حدث في أثناء الحروب الصليبية في الشرق العربي أن تجرأ أحد أمراء الصليبيين واسمه أرناط، وكان صاحب حصن الكرك، وقام بمشروع خطير سنة (578 هـ، 1182م) لغزو الحرمين الشريفين، فبنى عدة سفن حملت أجزاؤها مفكَّكَةً على ظهور الجمال، حتى "إيله" (العقبة) على خليج العقبة، وأعيد تركيبها، ثم قامت بهجوم على ساحل الحَوْراء قرب ينبع، وأغار الصليبيون على القوافل وأصبحوا على مسيرة يوم واحد من المدينة المنورة، واعتزموا الزحف عليها، ونَبْش قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإخراج جسده الطاهر ونقله إلى بلادهم، غير أن العالم الإسلامي في الشرق وقتذاك كانت تجمعه وَحْدَةٌ سياسية قويَّة على رأسها صلاح الدين الأيوبي، ووجب على مصر حماية الأماكن المقدسة في الحجاز، فما كادت تصل إليه - وهو في الشام - هذه الأخبار، حتى عهد إلى نائبة في مصر العادل سيف الدين بتجهيز قائد الأسطول الأمير حسام الدين لؤلؤ، وتعقب هؤلاء الصليبين في الحجاز، وعمل على إبادتهم أو أَسْرِهم، وأصرَّ صلاح الدين بقتل الأسرى؛ ليكونوا عبرة لكل من يتجرأ على الاعتداء على حَرَم الله وحَرَم رسوله [4].
ثانيًا: الدولة العثمانية تحافظ على إسلام وعروبة شمالي إفريقيا:
من الخدمات الجليلة التي قدمتها الدولة العثمانية للإسلام والعروبة أنها حافظت على إسلام وعروبة سكان شمالي إفريقيا من أخطار الغزو الصليبي الاستعماري الأوروبيّ، الذي حملت لواءه البرتغال وإسبانيا، والمنظمة الصليبية المعروفة باسم فرسان القديس يوحنا، والتي اتخذت من جزيرة مالطة مستقرًّا ومقامًا، وكان من أهداف هذا الغزو أيضًا إنشاء ممالكَ مسيحيةٍ تتناثر على الساحل الشمالي لإفريقيا كمرحلة ثالثة، وبذلك يغدو البحر المتوسط في المدى البعيد بُحيرة مسيحية أوروبية، ويعقب ذلك تغلغل صليبي أوروبي جنوبًا في داخل القارة الإفريقية، ولكن تصدت الدولة العثمانية لهذه المشروعات الصليبية الاستعمارية، فأصبحت أحلامًا، وغدت هباءً منبثًّا.
بسطت الدولة العثمانية سيادتها على ثلاثة أقاليمَ في شمالي إفريقيا في القرن السادس عشر، وكانت حَسَبَ ترتيب دخولها تحت السيادة العثمانية، الجزائر وطرابلس وتونس، ولم تمد الدولة نفوذها إلى مراكشَ لرفض الأسرة السعْدِيَّة التي تنتمي إلى سلالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدخول في تَبَعِيَّة الحكم العثماني.
وكان سكان تلك الأقاليم، وبخاصة الجزائر وطرابلس، قد استنجدوا بالدولة العثمانية على أساس أنها أكبر وأقوى دولة إسلامية اكتسحت دُولاً أوروبية عديدة، وفتحت مصرَ والشرق العربي الآسيوي، وطالبَ سكان شمال إفريقيا بإنقاذهم من الزحف الصليبي الاستعماري، الذي كان خطره يتفاقم يومًا بعد يوم، واستجابت الدولة لاستغاثاتهم.
ولذلك لم يكن دخول العثمانيين إلى شمالي إفريقيا نتيجةَ معاركَ حربيةٍ خاضتها القوات المسلحة العثمانية ضد أهالي البلاد، أو تدخُّل مباشر من حكومة إستانبول، على غرار ما حدث في الشام أو مصرَ أو العراق؛ ولكنهم فتحوها مُنْقذين للسكان من أخطار القضاء على دينهم، وطَمْس عروبتهم، وتحويل بلادهم إلى جزء من العالم المسيحي.
أما تونس فكان الوضع فيها يختلف، حيث اشتد الصراع عليها بين الدولة العثمانية والإمبراطورية المقدسة، وتبادلت الدولتان الهزيمة والانتصار أكثر من مرة، حتى عادت تونس للحكم العثماني عام (982 هـ / 1574 م) واستقر الحكم العثماني فيها، وتأسست النيابة الثالثة والأخيرة في شمالي إفريقيا[5].
ثالثًا: إيجاد وحدة طبيعية بين الولايات العربية:
أوجدت الدولة العثمانية وحدة بين الولايات العربية التي دخلت تحت سيادتها، فاحتفظت هذه الولايات بمقوماتها الأساسية:
• الدين الإسلامي.
• واللغة العربية.
• والثقافة العربية الإسلامية.
• والتقاليد والعادات الموروثة عبر العصور.
وكان سكانها تجمعهم دولة إسلامية واحدة، هي الدولة العثمانية، وتضمهم رعوية واحدة بصفتهم رعايا عثمانيين، ويشتركون في تبعيتهم لحاكم واحد، هو السلطان العثماني، ولم تلجأ الدولة العثمانية إلى إقامة حدود مغلقة بين الولايات العربية، أو حواجزَ مصطنعةٍ بين سكانها، فكانت حرية الانتقال والسفر أمامهم مكفولةً ومحترمةً في جميع الأوقات، وكانت فرص العمل متاحةً لهم في كل الأوقات، وكان في مقدور العربي في دمشق مثلاً أن ينتقل إلى بغداد، أو مكة المكرمة، أو المدينة المنورة، أو القاهرة، أو القيروان أو غيرها من مدن الولايات العربية، ويعيش فيها ويمارس ألوانًا من النشاط الاقتصادي أو الثقافي، دون أن يحصل على إذن بالخروج أو الإقامة، وكانت هذه هي أوَّلَ وَحْدَةٍ تتحقق للعالم العربي إبان الحكم العثماني، بعد تفتُّت وَحْدَتُهُ بسقوط الدولة العباسية في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي عقب غزو المغول، وتخريب مدينة بغداد، وانسياحهم في وادي الرافدين، ثم شمالي بلاد الشام إلى جنوب فِلَسطين؛ ولذلك يرى عدد من المؤرخين والباحثين أن الوَحْدَة التي تمت على أيدي العثمانين تعتبر نقطةَ البداية في تاريخ العرب الحديث[6].
وفضلاً عن تلك التَّبَعِيَّة السياسية، كانت وشيجةُ الدين تربط سكان الولايات العربية بالسلطان العثماني، باستثناء أهل الذمة، وكانوا قلة عددية يعيشون على هامش المجتمعات الإسلامية في الولايات العربية[7].
وكانت وشيجة الدين من أقوى الوشائج التي ربطت الجماهير العربية بالدولة العثمانية، فأخلصوا لها واشتركوا في حروبها ضد التكتلات الصليبية التي واجهتها، وكان يزداد ولاؤهم لها، والتصاقهم بها إذا تعرضت الدولة لهزيمة عسكرية من دولة أوروبية، وكان الدين يعمل في تلك العصور في تقرير الأوضاع السياسية، والحربية لشعوب الولايات العربية [8].
ولعل خير مثال للترابط الديني بين سكان الولايات العربية إبَّان الحكم العثماني، ما حدث في مصر عندما نزلت الحملة الفرنسية أرض مصر عام (1213هـ / 1798م) بقيادة نابليون بونابرت، وكانت هذه الحملة هي أوَّلَ غزو عسكري مسيحي أوروبي لولاية عربية من ولايات الدولة العثمانية في الشرق الإسلامي في التاريخ الحديث، وقد أعلن السلطان سليم الثالث (1204 – 1224 هـ/ 1789 – 1807م) الجهاد الديني ضد الفرنسيين، واستجاب لدعوة الجهاد الدينيّ عربُ الحجاز والشام وشمالي إفريقيا، وقد صمموا على الظفر بإحدى الحُسْنَيَيْنِ، الاستشهادِ أوِ الانتصارِ، واتخذوا شعارًا لهم الآية الكريمة: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[9]، وهكذا فإن سكان الولايات العربية لم ينظروا إلى السلطان العثماني على أنه سلطان المسلمين فَحَسْبُ؛ بل نظروا إليه أيضًا على أنه خليفة المسلمين، يستظلون بظل خِلافته، وكانت السمةُ البارزة في تاريخ الولايات العربية وقتذاك أنها كانت مجتمعاتٍ دينيةً إسلاميةً، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، ولم ينظر العرب للدولة العثمانية على أنها دولة أجنبية، ولم ينظروا إلى الحكم العثماني على أنه استعمار، وظلت هذه الفكرة السياسية الدينية مسيطرةً على أذهان الغالبية العظمى من الشعب العربي إلى أوائل القرن العشرين، ولم تتدخل الدولة في شؤون الحكم إلا في نطاق ضئيل، وبقدر يسير، فاعتبرت نفسها مسؤولة عن حماية الولايات العربية، وتوفير الأمن فيها، وإقامة الشعائر الدينية، والحفاظ على مبادئ الشريعة الإسلامية، وتنظيم وحماية قوافل الحج إلى إقليم الحجاز، والإشراف على القضاء، وجمع الضرائب بواسطة شيوخ الطوائف على هذه المجالات في الولايات العربية، وتركت سكانها يعيشون على النحو الذي كانوا يألفون[10].
إن الوَحْدَةَ التي قامت بين الولايات العربية إبَّان الحكم العثماني، تبدو أكثر إشراقًا، إذا قورنت بالتفتيت السياسي الذي اصطنعته الدول الأوروبية الاستعمارية عقب استيلائها على معظم هذه البلاد، تحت اسم الاحتلال أو الانتداب أو الحماية من قبل عُصبة الأُمم، أو مناطق النفوذ[11].
وهكذا عملت بريطانيا على تفرقة وتجزئة الشعب العربي في الشرق العربي الآسيوي، ففصلت بريطانيا شرقي الأردن عن فلسطين، وفصلت شرقيَّ الأردن وفلسطين عن سوريا، وفرقت بين سوريا والعراق.
ونهجت فرنسا نَهْج بريطانيا في تفتيت سوريا ولبنان.
أما مصر وشمالي إفريقيا: فقد أبقى الاستعمار على التفتيت السياسي الذي كان قائمًا بينها قبل الحرب العالمية الأولى تحت الاستعمار البريطاني والإيطالي والفرنسي والإسباني، وظهرت الخلافات والأطماع الشخصية بين رؤساء وقادة العرب؛ مما عرقل سيرة الاستقلال والوحدة العربية[12].
رابعًا: إبعاد الزحف الاستعماري عن الوطن العربي:
ظلت الولايات العربية زهاء فترة تراوحت بين ثلاثة وأربعة قرون، من القرن السادس عشر إلى أوائل القرن العشرين، بمنأى عن الزحف الأوروبي الاستعماري عليها ما بقيت الدولة العثمانية قويةً، مَهِيبَةَ الجانب، فلما دخلت الدولة في دور الاضمحلال، وتبين للدول الأوروبية أن الدولة العثمانية عاجزة عن التصدي للدول الاستعمارية؛ تعرض العالم العربي للغزو الأوروبي النصرانيّ الاستعماريّ، كما تعرضت أقاليمُ أخرى، إسلاميةٌ وغير إسلامية، في قارات آسيا وإفريقيا وأستراليا:
وكانت فرنسا من أسبق الدول الأوربية في الزحف والسيطرة على الأقاليم العربية، فنجحت في احتلال نيابة الجزائر عام (1246 هـ / 1830م)، ولا شك أن من أهم العوامل التي شجعت فرنسا على احتلال الجزائر أن الدولة العثمانية كانت قد فقدت أسطولها في معركة نفارين البحرية 20 أكتوبر 1827 م (1243 هـ)، ولما كان اقتطاع فرنسا للجزائر بصفة الأخيرة إقليمًا إسلاميًّا عربيًّا من أقاليم الدولة العثمانية ـ: سابقةً خطيرة، قد تحتذيها دولة استعمارية أخرى تجاه الوطن العربي، لم تستسلم الدولة العثمانية لانتزاع الجزائر منها[13].
حاولت الدولة العثمانية بالطرق الدبلوماسية استرداد الجزائر، وبذلت مساعيَ مكثفةً لدى بريطانيا والنمسا وروسيا، ولدى فرنسا أيضًا، تؤكد حقها في بقاء هذا الإقليم في إطار الدولة، تأسيسًا على أن السيادة العثمانية عليه معترَفٌ بها من المجموعة الدولية، وأن الجزائريين هم رعايا السلطان، ولم تجد الدولة العثمانية تأييدًا من بريطانيا؛ لوقوع أحداث هامة في أوروبا شغلت بريطانيا عن كل شيء.
وهكذا فشلت الدولة العثمانية في اتصالاتها مع الدول الأوروبية، وحاولت استخدام القوة لاسترداد الجزائر، إلا أنها عَدَلَتْ عن ذلك بسبب عدم تمكنها من شن حرب على فرنسا؛ لضعف الأسطول العثماني، والجيش العثماني كذلك.
وأدى ذلك إلى قيام حرب باردة بين الجزائر والدولة العثمانية، ونجحت الدولة العثمانية في إنهاء حكم القرمانليين في طرابلس عام (1251 هـ / 1835 م)، وإعادة هذه النيابة إلى الحكم العثماني، واستغلت الدولة هذا الوضع الجديد، فتظاهرت بإرسال قوات برية من الأناضول إلى طرابلس، ومنها إلى الجزائر عبر تونس، ولكن فرنسا هددت الدولة العثمانية بإرسال أسطولها، وخشي الأسطول العثماني من الاحتكاك بالأسطول الفرنسي، فغادر طرابلس إلى مالطة، ثم إلى إستانبول، وبذلك قنعت الدولة العثمانية بهذه الحرب الباردة، والتي انتهت عند هذا الحد[14].
وبعد الاحتلال الفرنسي للجزائر عام (1246 هـ /1830م) توقف الزحف الأوروبي الاستعماري على الولايات العربية مدة ناهزت الخمسين عامًا؛ بسبب اشتداد حدة التنافس بين الدول الأوروبية على تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية، وتوزيعها أسلابًا فيما بينها، وما صحب هذا التنافس من حروب ومؤتمرات ومعاهدات، ازدحم بها تاريخ الدولة العثمانية في القرن التاسعَ عَشَرَ ومطلعِ القرن العشرين، وانتهجت هذه الدولة سياسة التعويض، وسياسة المصالحة على حساب الدولة العثمانية في مؤتمر برلين عام (1295 هـ / 1878م)، وبسطت فرنسا حمايتها على تونس عام (1299 هـ / 1881م)، واحتلت بريطانيا مصر عام (1300 هـ / 1882 م)، وكان قد سَبَقَ فَرْضَ الحماية والاحتلال على هذين البلدين العربيين الإسلاميين، انتهاجُ سياسة التغلغل السِّلْمِيّ، عن طريق تقديم قروض أوروبية ضخمة، بحيث عجزتا عن سداد القروض وفوائدها؛ مما أدى إلى التدخل في الشؤون المالية، وبعد ذلك في الشؤون السياسية، وانتهت بالغزو العسكري[15].
واشتركت بريطانيا مع مصر في حملة مشتركة عام (1314 هـ / 1896م)، لاسترداد السودان، واتخذت من هذا الاشتراك ذريعة لإقامة حكم ثنائي بريطاني مصري في السودان عام (1317 هـ/ 1899م)، وكان هذا الحكم الثنائي في لحمته وسداه فصلاً فعليًّا بين شطري الوادي، واستئثارًا من بريطانيا بالانفراد في حكم السودان[16]، وما لبثت بريطانيا أن عصفت بالمظهر الشكلي لهذا الحكم الثنائي.
ثم احتلت إيطاليا طرابلس وبَرْقَةَ في عام (1330هـ/ 1911م).
وفي مطلع الحرب العالمية الأولى احتلت القوات البريطانية البصرة في العراق، واستمرت القوات البريطانية تواصل زحفها في العراق وقتالها، حتى تمكنت من احتلال العراق احتلالاً كاملاً عام (1337 هـ / 1918 م).
وبانتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، تقاسمت الدول الغربية ما تبقى من أقاليم عربية بموجب قرارات مؤتمر الصلح (1338 هـ / 1919م)، ومؤتمر سان ريمو (1339 هـ / 1920)؛ فسيطرت بريطانيا على العراق وفلسطين وشرق الأردن، كما سيطرت فرنسا على سوريا ولبنان في شكل انتداب، وغدت هذه الأقاليمُ تحت الحكم الأجنبي بقرارات تصدر من لندن وباريس وروما[17].
خامسًا: الدولة تضفي الهدوء والاستقرار على الولايات العربية:
أضفت الدولة العثمانية على ولاياتها العربية نوعًا من الهدوء والاستقرار السياسي، وكانت بلاد الشام والعراق تعانيان الكثير من المتاعب، والفوضى، والتخريب من آثار غزوات المغول المدمرة، والتي نجحت مصر في صدها عندما أوقعت بالمغول هزيمة حاسمة في معركة "عين جالوت"، شتتت شملهم، وأنقذت أقاليم الشرق والمغرب العربي من شرورهم.
خضع السكان في الولايات العربية للحكم العثماني، وقد كان العثمانيون مسلمين مثلَهم، ويعتنقون مذهب السُّنة مثلهم، ويحرصون على تطبيق مبادئ الشرعية الإسلامية، ويحافظون على الشعائر الدينية؛ مثل الاحتفال برؤية الهلال لشهر رمضان وغيرها، ولم تضيق السلطات العثمانية عليهم، كما أنها لم تتدخل في شؤونهم إلا في نطاق محدود؛ مثل جَمْع الضرائب، والإشراف على القضاء، وتوفير الأمن، وتركت للشعب العربي شؤون التعليم، والصحة، والمواصلات، والتي تعتبر في الوقت الحاضر من صميم واجبات الحكومات، وعلى العموم، فقد تركت السلطات العثمانية الجماهير العربية تحيا على النحو الذي أَلِفَتْهُ من قبل، دون تغيير جوهري مسَّ حياتهم.
ومع ذلك تعرضت بعض الولايات العربية لهزات سياسية وسط الهدوء الذي كانت تعيش في ظلاله الوارفة، وكان يجتاح الولايات العربية من وقت إلى آخر نوعان من الاضطرابات:
أولاهما: انتفاضات شعبية، وكان يقوم بها سكان حي أو مدينة ضد الحكام المحليين؛ احتجاجًا على ظلم حكامهم، ورفع شكواهم للسلطان العثماني.
ثانيهما: حركات سياسية وعسكرية، يقوم بها أفراد طَمُوحون؛ مثل حركة علي بك الكبير، وحركة ظاهر العمر، والتي لم تلقَ استجابة واستحسانًا من الجماهير[18].
سادسًا: الدولة تمنع انتشار المذهب الشيعي إلى ولايتها العربية:
من المعروف أن المذهب الرسمي للدولة العثمانية كان المذهب السُّني، واعتبرت الدولة العثمانية نفسها حامية لهذا المذهب، وتأسيسًا على هذه الحقيقة فإنها منعت انتشار المذهب الشيعيّ إلى ولاياتها العربية في آسيا وإفريقيا باستثناء العراق، الذي كانت الدولة الصَّفَوِيَّة قد نشرت المذهب الشيعيّ فيه قبل الدولة العثمانية، بحيث أصبح أهل السُّنة وأهل الشيعة قوتين متوازيتينِ تقريبًا من حيث تَعْدَادُهم، وقد أبقت الدولة العثمانية على هذا الوضع، وذهبت إلى أبعدَ من ذلك فاحترمت مشاعر أهل الشيعة، واهتمت بتعمير مناطق العتبات المقدسة في النجف وكربلاء في العراق، ويسَّرت زيارتها أمام شيعة العراق وفارس والهند وأفغانستان، ولذلك فإن أهل السنة ينظرون إلى الدولة العثمانية على أنها قدمت خدمة جليلة بحصر المذهب الشيعيّ في فارس، بحيث لم تسمح بتَسَرُّبه إلى الأقاليم العربية التي دخلت تحت السيادة العثمانية، ولا تزال إيران هي المعقل الأول للشيعة في العالم الإسلامي[19].
سابعًا: الدولة العثمانية تمنع اليهود من استيطان سيناء:
لما فتح السلطان سليم الأول مصر عام (923 هـ / 1517 م) أصدر فرمانًا بمنع اليهود من الهجرة إلى سيناء، وواضحٌ من صدور هذا المرسوم بأن اليهود كانوا يريدون الهجرة إلى هذا الإقليم المصري واستيطانه، على أساس أنه يضم الوادي المقدس طُوى، الذي كلم الله سبحانه وتعالى فيه موسى - عليه السلام – تكليمًا، ومن ثَمَّ أصدر السلطان سليم الأول الفَرَمانَ الذي سدَّ الطريق في وجوه اليهود، ولما تولي ابنه سليمان المشرع (القانوني) عرش الدولة عام (926 هـ / 1520م) أصدر فَرَمانًا لاحقًا، أكد فيه ما جاء في الفرمان السابق، مما يدل على أن الخطر اليهودي كان لا يزال ماثلاً من حيث رغبتُهم في استيطان سيناء، واستعمارهم لها، الأمر الذي كان يقلق الدولة العثمانية، واستطال حكم سليمان زهاء ستة وأربعين عامًا (927 – 974 هـ / 1520 – 1566م)، ولم يجرؤِ اليهود على تنفيذ ما كانوا يبيِّتون.
فلما جاز إلى ربه جاء بعده ابنه السلطان سليم الثاني، وكان منحرفًا خُلُقيًّا (933 – 982 / 1526 – 1574)، ومنذ حُكْمه بدأت النُّذُر الأولى لاضمحلال الدولة، وخَلَفَهُ سلاطينُ على شاكلته، وكان أولهم مرادٌ الثالث (982 – 1005 هـ /1574 – 1596)، وتنفس اليهود الصعداء، وأدركوا أن الفرصة سانحة لهم لتحقيق حُلْمٍ راودهم طويلاً، فنَزَحوا في هجرات متقطعة على فترات متقاربة إلى سيناء لاستيطانها، وتركزت إقامتهم في مدينة الطور؛ ليسهل على اليهود إيجاد اتصالات خارجية عن طريق ميناء المدينة، بحيث يتمكن اليهود من الهجرة والقدوم إلى سيناء من بلدان مجاورة[20].
وقد تزعم حركة التهجير رجل يهودي يدعى إبراهام، استوطن الطور مع أفراد أسرته وأولاده، وكان من المحتمل أن تمر سنوات دون أن تدري بهم السلطات العثمانية، لولا أنهم تعرضوا بالأذى لرهبان دير سانت كاترين؛ مما حمل الأخيرين على إرسال شكاوى مكتوبة، كلها تؤكد على عدم أحقية اليهود للسكن في هذه المنطقة، وإيذاء رهبان الدير بأي حال من الأحوال، وصدرت أوامر الدولة العثمانية بطرد اليهود من دير سانت كاترين، ومنعهم من العودة إليه مستقبلاً، وهذا يدل على حرص الدولة العثمانية على منع اليهود من استيطان سيناء، وإشعارهم بقوة الدولة العثمانية ويَقَظَتِها لأهدافهم[21].
وعندما احتلت بريطانيا مصر عام (1300 هـ / 1882م)، عاود اليهود مطالبهم في سيناء، بعد أن رفض السلطان عبدالحميد الثاني فتح أبواب الهجرة أمامهم إلى فلسطين، وكان تيودور هرتزل زعيم المنظمة الصهيونية العالمية قد أطلق على سيناء اسمًا مُعَبِّرًا هو فلسطين المصرية؛ ليتخذ منها في المستقبل نقطة وثوب إلى فلسطين الآسيوية (فلسطين الحالية)، ولذلك دخل هرتزل في مفاوضات عام (1316 هـ / 1898م) مع بعض أعضاء الوزارة البريطانية، وبخاصة جوزيف تشمبرلين وزير المستعمرات، ولورد لانزدون وزير الخارجية، من أجل توطين اليهود في سيناء على أساس إقامة دولة يهودية فيها، تتمتع بالحكم الذاتي في نطاق الإمبراطورية البريطانية، ووافق الوزيران على الاقتراح؛ لأنه يحقق لبريطانيا أهدافًا استراتيجية؛ منها: ضمان حماية شرقي قناة السويس، وعزل مصر عن الولايات العربية في غربي آسيا، وإضعاف الدولة العثمانية، وإقامة دولة موالية لبريطانيا؛ غير أن هذا المشروع بعد بحثه فشل بسبب معارضة السلطان عبدالحميد الثاني له أولاً، وبسبب معارضة اللورد كرومر حاكم مصر، ومعتمَد بريطانيًا لدى مصر، وتوقف بحث مشروع استيطان اليهود في سيناء[22].
ثامنًا: الدولة تحد من هجرة اليهود إلى فلسطين:
تطلَّع اليهود على مر العصور التاريخية إلى فلسطين؛ كإقليم يجمع شتاتهم، ويُنشئون فيه دولة، متذرِّعِين بادعاءات دينية وتاريخية؛ فقد أسس اليهود الحركة الصهيونية، ونجحت في استقطاب الدول الكبرى وتأييدها، وكان على الدولة العثمانية أن تخوض - دفاعًا عن فلسطين - صراعًا سياسيًّا مريرًا ضد القوى الصهيونية، والدول الأوروبية المناصرة، ونجح الصهاينة في توقيت حركتهم ونجاحها نجاحًا باهرًا، فاختاروا فترة عصيبة من فترات الاضمحلال التي كانت تمر بها الدولة العثمانية، ولكن الدولة العثمانية عملت في حدود إمكانياتها على الحدِّ من الهجرة إلى فلسطين، وقاومت بذلك الحركة الصهيونية، وقد رفض السلطان عبدالحميد الإغراءات الصهيونية التي عرضها عليها هرتزل، رغم الضائقة المالية التي تمر بها الدولة العثمانية، وبذلك حافظ على عروبة وإسلامية فلسطين[23].
دور الدولة العثمانية في نشر الإسلام في أوروبا:
تشغل الدولة العثمانية حيزًا كبيرًا للغاية في التاريخ؛ حيث امتدت فتوحاتها إلى ثلاث قارات، هي آسيا وأوروبا وإفريقية، وغدت دولة آسيوية أوروبية إفريقية؛ وبذلك فإن الدولة العثمانية كانت أول دولة إسلامية في التاريخ الأوروبي تصل بقواتها الجرارة إلى هذه الأراضي الأوروبية، وكان الوجود الإسلامي العثماني، العسكري والسياسي، حقيقة لا جدال فيها.
وقامت الدولة بدور هامّ في نشر الإسلام في أصقاع شتى من الأقاليم الأوروبية، وكان العثمانيون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مسلمون قبل كل شيء؛ فكان ولاؤهم يتجه إلى الدين الإسلامي أولاً، ثم إلى السلطان ثانيًا، ثم إلى الدولة ثالثًا، وكانت روح الجهاد الديني غالبة في إسلام العثمانيين، وازدادت قوةً وصلابةً عندما استقروا في الأناضول على حدود أو على مقربة من الكيانات المسيحية المتناثرة وقتذاك في هذا الإقليم[24].
واحتفظوا بهذه الروح في مسيراتهم الحربية في أوروبا؛ فالإسلام عند العثمانيين دين محاربين، وازدادت هذه الروح الدينية الحربية تَأَجُّجًا في نفوس العثمانيين بعد ما واجهوا تكتلات صليبية متعاقبة واسعة النطاق، ضمت العديد من الدول الأوروبية، وكانت البابوية في روما تدعم وتؤيد هذه التكتلات؛ بل تنادي بالانضمام إليها، وكأن الحركة الصليبية التي شهدها الشرق الإسلامي في الماضي قد انتقلت ميادينها إلى أوروبا، ولكن شتان ما بين الحركتين؛ فالصليبيون في أوروبا واجهوا قوات إسلامية عثمانية مسلحة، وقفت في وجه الصليبية الأوروبية صفًّا واحدًا؛ كأنه بنيان مرصوص، يشد بعضه بعضًا، ولم تجد الحركة الصليبية في أوروبا ثغرة تنفذ منها لتفتيت وحدة الصف الإسلامي العثماني، فكان النصر حليفَ القوات العثمانية في معظم المعارك الضارية التي نشبت بين الفريقين.
وحولت الدولة العثمانية دار الحرب إلى دار الإسلام، وأسهم الجميع في غرس بذور الإسلام في الأقاليم المفتوحة؛ مما ساعد على نشر الإسلام في أوروبا، وبذلك اقترنت حركة الفتوح الإسلامية في كل من الأناضول وأوروبا بنشر الإسلام، وقد انتشر انتشارًا سريعًا واسعًا في بعض الأقاليم، وانتشر انتشارًا وئيدًا في أقاليم أوروبية أخرى، وغدت العواصم التي اتخذتها الدولة العثمانية تباعًا وهي قونية، بروسة، أدرنة، وإستانبول، مدنًا إسلامية عثمانية، ومراكز للدراسات الإسلامية والحياة الإسلامية[25].
ونظر الأوروبيون إلى الفتوح العثمانية في أوروبا على أنها فتوح إسلامية، وباسم الإسلام فتح السلطان محمد الفاتح (857 هـ / 1453م) القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، واتخذها عاصمة لدولته، واستبدل اسمًا جديدًا هو إستانبول، ومعناها دار الإسلام، وباسم الإسلام استولى السلطان محمد الفاتح على روما مقر البابوية، وباسم الإسلام استولى السلطان سليمان القانوني على بلغراد، وجزيرة رودس وبودابست.
وباسم الإسلام تقدم العثمانيون لمساعدة عرب شمالي إفريقيا في الصراع الصليبي، الذي احتدم بينهم وبين الإسبانيين والبرتغاليين، الذين أرادوا احتلال هذه الأقاليم، وتحويل سكانها إلى المسيحية:
وبذلك حفظت الدولة العثمانية لشمالي إفريقيا إسلامه وعروبته، وأوغلت الجيوش العثمانية في زحفها على قلب أوروبا حتى بلغت مشارف فيينا، وكانت الأساطيل العثمانية تحقق انتصارات كاسحة ضد التكتلات الصليبية، الأمر الذي أدى إلى تصاعد العداء بين أوروبا المسيحية والدولة العثمانية.
ولذلك فإن الأوروبيين اعتقدوا بأن الدولة العثمانية هي الرمز الحيّ المجسِّد للإسلام[26]، وهكذا أصبحت عبارة الدولة العثمانية مرتبطة بالدين الإسلامي بعُروة وُثْقَى لا انفصام لها؛ مما أدى إلى تصاعد موجات الحقد والعداء بين الغالبية العظمى من الحكومات والشعوب الأوروبية للدولة العثمانية، بصفتها دولة إسلامية تحكم شعوبًا مسيحية أوروبية.
وهكذا عملت الشعوب الأوروبية التي خضعت للدولة العثمانية على تصفية الوجود العثماني من أراضيها، وأسهمت معها دول أوروبية لم يمتد إليها الحكم العثماني، ولكن جمعت بينها وحدة الهدف في الانتصار للمسيحية، والقضاء على الإسلام، ودعم مصالحها الاستعمارية بتوزيع الممتلكات العثمانية أسلابًا بينها.
وتأسيسًا على هذه النظرة الأوروبية: فإن التحالفات الدولية ضد الدولة العثمانية كانت في لحمتها وسداها محالفات صليبية ضد الإسلام، أَمْلَتْها روحٌ صليبية، ووجَّهَتْها روح صليبية، وكانت حكومات بعض الدول الأوروبية تُحَرِّض رعايا الدولة العثمانية المسيحيين على الثورة، وتمدهم بالأسلحة والذخائر والأموال؛ لإجراء مذابح عامة بين رعايا الدولة المسلمين أصلاً، ورعاياها الذين اعتنقوا الإسلام؛ لنشر الخوف والذعر بين هؤلاء الأخيرينَ؛ كي يعودوا إلى المسيحية، وكانت هذه الحكومات تعطيهم المنح والهدايا والعطايا نظير قيامهم بهذه الأعمال إذا فشلت الثورات عن تحقيق أهدافها، وأطلقت الحكومات الأوروبية على السلطان العثماني شتى الأوصاف، فهو "رجل أوروبا المريض" حِينًا، و"المريض الذي لا يرجى شفاؤه" حينًا ثانيًا، و"المريض الذي يجب الإجهاز عليه شفقةً به، ورحمة عليه حتى يستريح ويريح" حينًا ثالثًا[27].
مدى نجاح الدولة العثمانية في نشر الإسلام في أوروبا:
لم تنجح الدولة العثمانية نجاحًا كليًّا في نشر الإسلام بين جميع رعاياها المسيحيين في ولاياتها الأوروبية؛ بل حققت نجاحًا محدودًا في مجال الدعوة الإسلامية، فقد تركت الدولة العثمانية بصماتها قوية واضحة في مجال نشر الدعوة الإسلامية في أوروبا، فعلى امتداد قرون وتعاقب عصور ودهور ظلت جماعات إسلامية تعيش حتى اليوم في أوروبا، ولم تغيِّر دينها بأي شكل من الأشكال، رغم الضغوط التي بذلت من قِبَل الدول الأوروبية لتحويلها إلى المسيحية، ولم ترضَ هذه الجماعات الإسلامية عن دينها بديلاً[28].
والحق أن الوجود العثماني في أوروبا قد عجز من أن ينبت جذورًا تمده بالعناصر التي تحفظ عليه حياته، حين بدأ الضعف يتسلل إلى الدولة، ومنها الاندماج والانصهار، ونشر اللغة العربية، والثقافة الإسلامية التي تحفظ للإسلام وجوده؛ إذ لا يوجد روابط حضارية تربط بين العثمانيين وبين تلك الشعوب الأوروبية، فلما زال الوجود العثماني من أوروبا لم يخلف من بعده أثرًا ذا بال سوى بصمات في بعض الأقاليم البلقانية[29].
ومهما يكن من أمر، فإن الأتراك العثمانيين قد بذلوا جهدًا كبيرًا على نشر الإسلام في أوروبا، وكانوا يقيمون الأفراح إذا ما دخل فرد في الإسلام من المسيحيين طوعًا، مما يدل على غَيْرَةِ الأتراك العثمانيين على الإسلام ونشره، فكانوا يُحيون فيها من دَخَلَ طوعًا من المسلمين الجُدُد في الإسلام، فكان المسلم الجديد يمتطي حصانًا، ويطاف به في طرقات المدينة، وهم في نشوة النصر، فإذا توسموا فيه خُلوص النية في تغيير دينه، وعرفوا أنه دخل بمحض إرادته في حظيرة الإسلام، أو كان شخصًا ذا مكانة طيبة استقبلوه بتكريم عظيم، وأمدوه بما يعينه، ولا شك أن هناك دليلاً قويًّا يؤيد قول من قال: "إن في نفوس الأتراك غَيْرة، لا يكاد يصدقها العقل حين يبتهلون إلى الله أن يُحوِّل الناس المسيحيين إلى الإسلام، إنهم كل يوم يبتهلون إلى الله في مساجدهم مخلصين أن يؤمن المسيحيون بالقرآن، وأن يهتدوا على أيديهم، ولم يدعوا للتأثير وسيلة من وسائل الترغيب والترهيب، والعقاب والجزاء إلا فعلوها"[30].
وقد عامل العثمانيون الأتراكُ أهلَ أوروبا المسيحيين معاملةً تقوم على التسامح، النابعة من روح الإسلام، هذا التسامح الديني الذي جعل الكثيرين من الإغريق وغيرهم يَقبَلون بتغيير ديانتهم حمايةً لحياتهم وأموالهم، وكان العثمانيون يَلْقَوْنَ ترحيبًا من الإغريق بسبب الحكم الظالم المستبِدِّ، الذي واجهوه من حكم الفِرِنْجة وبيزنطةَ، فلم تعد في محاكمهم عدالةٌ، ولا في قلوبهم شجاعة، فقد أقام الحكم الإسلامي العدل والمساواة، وإصلاح المفاسد، وانتشر الأمن والنظام في البلاد، وكان النظام الإداري والقانوني رائعًا وقويًّا[31].
ويؤخذ على الدولة العثمانية ضريبة الأبناء المسيحيين، الذين كانوا يؤخذون من آبائهم في سن مبكرة كرهًا، وينتظمون في سلك الانكشارية، وربما كان ذلك بسبب تعرض البلاد للخراب من جراء الحروب، الأمر الذي أدى إلى هلاك كثير من الأسر جوعًا، ومن ثم كان الأبناء الذين يتبنون يتامى في كثير من الأحيان، ولولا تبنِّيهم لتعرضوا للهلاك، كما أن رعاية الدولة العثمانية للمسيحيين كان عليهم أن يدفعوا ضريبة الرأس في مقابل حمايتهم، وإعفائهم من الخدمة العسكرية.
وكانت الضرائب التي يدفعونها تعتبر قليلة إذا ما قورنت بالالتزامات الإقطاعية التي لا تنتهي، والإرهاق المستمر الذي كانوا يتكبدونه من البيزنطيين، ولا شك أن الولايات التركية العثمانية كانت أحسن حُكْمًا، وأكثرَ رخاء من معظم جهات أوروبا المسيحية، وأن المزارعين المسيحيين كانوا يَنعمون بقدر كبير من الحرية الشخصية، كما كانوا يَنعمون بثمار جهودهم في ظل حكومة السلطان أكثر مما كان يَنعم به معاصروهم في ظل كثير من الحكام المسيحيين، هذا فضلاً عن أن السلاطين العثمانيين كانوا دائمًا يعملون على إثراء النشاط الاقتصادي في مجالات الصناعة والتجارة بين رعاياهم، حتى غدت المدن الكبرى مزدهرةً أكثر من ذي قبل في عهد الدولة البيزنطية، التي كانت تعمل على طغيان ثروة، ومما عرقل نهضتها وشل حركتها[32].
وقد تعرضت الدولة العثمانية إلى حملات تشهير من الأوروبيين، والمتحاملين، وبعض المؤرخين العرب، ومن هذه الحملات حرمان الولايات العربية من عُلَمائها المبرِّزِين، وخاصة مصر، عندما أصدر السلطان سليم الأول فاتح مصر قرارًا بترحيل علماء مصر إلى إستانبول، ولكن معظم المؤرخين لم يذكروا تاريخ عودتهم، حيث إن إقامتهم في إستانبول قد امتدت إلى ثلاث سنوات ونيف، عاد بعدها جميعهم إلى القاهرة بأمر سلطاني من السلطان سليمان القانوني.
كما تعرضت الدولة العثمانية إلى حملة تشهير أخرى، هي دورها في عزلة الولايات العربية عن العالم، وكان لهذا الموقف ما يُبرره؛ ذلك بأن الدولة العثمانية منذ أن فتحت بلاد الشام عام 922 هـ / 1516 م، ومصر 923 هـ / 1517 م وتبعتها الحجاز، كان الغزو البرتغالي يهدد منطقة الخليج والعالم الإسلامي، وذلك لتحقيق أغراض صليبية واستعمارية واقتصادية؛ لذا كان على الدولة العثمانية أن تعمل على حماية الولايات العربية من أيِّ خطر استعماري يعزلها عن الاتصال بالعالم الخارجي[33].
وكانت هذه الأباطيل، والافتراءات، وحملات التشهير التي توجه للدولة العثمانية بقصد الإساءة للحكم العثماني الإسلامي، وبقصد النَّيْل منها والإطاحة بها، بعد أن رأى الأوروبيون أن هذه الدولة العثمانية دولة إسلامية حربية من الطراز الأول، وتريد تحويل دار الحرب (الكفر) إلى دار الإسلام.
ويجدر بنا أن نتناول إيجابيات الحكم العثماني، ثم سلبياته؛ إذ إن الدولة العثمانية لها جوانب إيجابية، وأخرى سلبية.
ومن إيجابيات الحكم العثماني:
1 – توسيع رقعة الأرض الإسلامية، إذ فتح العثمانيون القسطنطينية، وتقدموا في أوروبا، مما عجز المسلمون من قبلهم منذ أيام معاوية، وساروا فيها شَوْطًا بعيدًا؛ حتى وقفوا على أبواب فيينا، وحاصروها أكثر من مرة دون جدوى.
2 – الوقوف في وجه الصليبيين على مختلف الجبهات، فقد تقدموا في شرقي أوروبا؛ ليُخَفِّفوا الضغط عن المسلمين في الأندلس، كما انطلقوا إلى شمال البحر الأسود، ودعموا التتار ضد الصليبيين من الروس، هذا فضلاً عن التصدي للإسبان في البحر المتوسط، والبرتغاليين في شرق إفريقيا والخليج، ولم يُوَفَّقوا في حملاتهم؛ وذلك يرجع لعدم تكاتف المسلمين والتفافهم حولهم.
3 – عمل العثمانيون على نشر الإسلام، وشجعوا على الدخول به، وقدَّموا الكثير في سبيل ذلك، وعملوا على نشر الإسلام في أوروبا، وعملوا على التأثير في المجتمعات التي يعيشون بينها.
4 – أن دخول العثمانيين إلى بعض الأقطار الإسلامية قد حماها من بلاء الاستعمار الذي ابتليت به غيرُها، في حين أن المناطق التي لم يدخلوها قد وقعت فريسة للاستعمار، باستثناء دولة المغرب.
5 – كانت الدولة العثمانية تمثل الأقطار الإسلامية، فهي مركز الخلافة؛ لذا كان المسلمون في كل مكان ينظرون إلى الخلافة وإلى الخليفة نظرة احترام وتقدير، ويَعُدُّون أنفسهم من أتباعه ورعاياه، وبالتالي كانت نظرتهم إلى مركز الخلافة ومقرها المحبةَ والعَطْفَ، وكلما وجد المسلمون أنفسهم في ضائقة طلبوا الدعم من مركز الخلافة؛ كما كان الخلفاء.
6 – وكانت الخلافة العثمانية تضم أكثر أجزاء البلاد الإسلامية؛ فهي تشمل البلاد العربية كلها باستثناء المغرب، إضافة إلى شرقي إفريقيا، وتشاد، وتركيا، وبلاد القفقاس، وبلاد التتار، وقبرص، وأوروبا، بحيث وصلت مساحتها حوالي 20 مليون كليو متر مربع.
7 – كانت أوروبا تقابل العثمانيين على أنهم مسلمون لا بصفتهم أتراكًا، وتقف في وجههم بحقد صليبي، وترى فيهم أنهم قد أَحْيَوُا الروح الإسلامية القتالية من جديد، أو أنهم أثاروا الجهاد بعد أن خمد في النفوس مدة من الزمن، وترى فيهم مدًّا إسلاميًّا جديدًا بعد أن ضعف المسلمون ضعفًا جديًّا، وتنتظر أوروبا قليلاً لتدمرهم، والأتراك العثمانيون حالوا بينهم وبين المد الصليبي في الشرق والغرب الإسلامي، الأمر الذي جعل أوروبا تحقد على العثمانيين وتكرههم.
8 – كانت للعثمانيين بعض الأعمال الجيدة تدل على صدق عاطفتهم وإخلاصهم، مثل عدم قبول النصارى مع الجيش، وإعفاء طلبة العلم الشرعي من الجندية الإلزامية، وكذلك إصدار المجلة الشرعية التي تضم فتاوى العلماء في القضايا كافَّةً، وكذلك احترام العلماء، وانقياد الخلفاء للشرع الشريف والجهاد به، وإكرام أهل القرآن، وخدمة الحرمين الشريفين، والمسجد الأقصى، والحرم الإبراهيمي.
9 – وكان للعثمانيين دورهم في أوروبا إذ قضوا على نظام الإقطاع، وأَنْهَوْا مرحلة العبودية التي كانت تعيشها أوروبا؛ حيث يولد الفلاح عبدًا، وينشأ كذلك، ويقضي حياته في عُبوديته لسيده مالك الأرض[34]، واهتم السلاطين بتقديم الصدقات والعطايا للمواطنين.
ومن أهم سلبيات الخلافة العثمانية، والتي كان لها الأثر في إضعاف الحكم:
1 – إهمال اللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم، والحديث الشريف، وهما المصدر الرئيس للتشريع، وكان يجب الاهتمام بها وتعلمها من قِبَلِ سلاطين آل عثمان أكثر من اللغة التركية، وفي هذا جهل؛ لأن العربية لغة الإسلام، بالرغم من أن بعض السلاطين قد عمل على اهتمام المدارس باللغة العربية، واهتموا بالعلم الشرعي بشكل محدود، وكان على الخلفاء أن يتعلموا هم العربية، ويشجعوا عليها.
2 – عدم الوعي الإسلامي الصحيح، إذ كان كثير من المسؤولين لا يعرفون من الإسلام سوى العبادات، لذا كانوا يحرصون عليها وعلى تأديتها، وهذا أدى إلى انتشار الطرق الصوفية، وضعف فكرة الجهاد، وعدم الإنتاج؛ مما أدى إلى ضعف الدولة.
3 – كان العثمانيون يحرصون على تغيير الولاة باستمرار، وخاصة في أواخر عهدهم، وذلك خشية استغلال المنصب، أو الاستقلال بالولاية.
4 – الحكم الوِرَاثِيّ الذي سار عليه العثمانيون غير مقبول من وجهة النظر الإسلامية، ولكن سبقهم الأمويون والعباسيون، كما كان بعض السلاطين يقومون بقتل إخوانهم؛ حتى لا يُنازِعوهم في السلطة، هذا علاوة على زواج بعض السلاطين من الأوروبيات، فيه إساءة للأمة.
5 – كان العثمانيون يكتفون من البلاد المفتوحة بالخَرَاجِ، ويتركون السكان على وضعهم القائم من العقيدة واللغة والعادات؛ إذ يُهملون الدعوة والعمل على نشر الإسلام، وإظهار مزايا الإسلام؛ من المساواة، والعدل، والأمن، وانسجامه مع الفطرة البشرية.
6 – ضَعْفُ الدولة العثمانية في أواخر عهدها جعل الدول الأوروبية تتآمر عليها، فأثاروا ضدها الحركات الانفصالية السياسية والدينية، كما استغل دعاة القومية والصهيونية هذا الضعف، مما جعلهم يقومون بحركات لتقويض هذه الدولة[35].
ومما يجدر ذكره أن الجوانب الإيجابية في الدولة كانت في مرحلة العصر العثماني الأولى، عصر القوة والتوسع، أما مراحلها الأخيرة للدولة العثمانية فتمثل الجوانب السلبية، وقت الضعف والتراجع والانهيار.
[1] عبدالعزيز الشناوي، "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها"، جـ 2 ، القاهرة 1980، ص 862.
[2] نفس المرجع، ص 862 – 863.
[3] نفس المرجع، ص 862 – 863.
[4] عبدالعزيز الشناوي: "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها"، جـ 2 ، ص 863.
[5] د . محمد أنيس، "الدولة العثمانية والشرق العربي"، القاهرة 1977، ص 45 – 46.
[6] عبدالعزيز الشناوي، "الدولة العثمانية ..." مرجع سبق ذكره، جـ 2، ص 936.
[7] يرى الدكتور أنيس الصايغ أن العلاقات بين الأكثرية المسلمة السُّنية في الولايات العربية، والأقليات المذهبية والعنصرية فيها قد خلقتْ مشكلة شائكة ومزمنة بشكل عام، وقد أسهمت بريطانيا وفرنسا في توسيع شُقَّة الخلاف بين الأكثرية والأقلية، وشجعت الأقلية على عدم الاختلاط والاندماج، ونتج عن ذلك انكماش من الأقليات، وانقلابها على نفسها، مما عزلها عن الأكثرية. أنيس الصايغ، "الهاشميون وقضية فلسطين"، بيروت 1966، ص 95.
[8] المرجع السابق.
[9] [التوبة: 41].
[10] عبدالعزيز الشناوي، "الوحدة العربية في التاريخ الحديث والمعاصر"، القاهرة 1975، ص 8 وانظر كذلك: الجبرتي "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، القاهرة 1980، ج3، ص 88 ص 107.
[11] عبدالعزيز الشناوي، "الدولة العثمانية ..." ص 946 – 947.
[12] أنيس الصايغ، "الهاشميون ، وقضية فلسطين"، بيروت 1966، ص 93 – 94.
[13] د/ محمد أنيس، "الدولة العثمانية والشرق العربي"، ص 88 – 89.
[14] د. عبدالعزيز الشناوي "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها"، ص 953 – 958.
[15] د/ عبدالعزيز الشناوي، المرجع السابق ص 958 – 959.
[16] د/ محمد فؤاد شكري، "مصر والسودان"، دار المعارف بمصر 1958، ص 473 – 518.
[17] دكتور محمد بديع شريف وآخرون، "دراسات تاريخية في النهضة العربية الحديثة"، القاهرة 1963، ص 269 – 275.
[18] د/ عبدالعزيز الشناوي، المرجع السابق، ص 961 – 963.
[19] د/ عبدالعزيز الشناوي، المرجع السابق، جـ 2 ص 964 – 966.
[20] نفس المرجع ص 966.
[21] د/ أنيس صايغ، "الهاشميون وقضية فلسطين"، بيروت 1966، ص 22.
[22] Stein Leonard. The Balfour Declaration London 1967, PP. 26 - 93
[23] "مذكرات هرتزل"، ص 275.
[24] Lewis, Bernard: The Emergence of Modern Turkey, 2nd Edition London. P. 2 1968.
[25] محمد جميل بيهم، "فلسفة التاريخ العثماني"، بيروت 1954، ص 24.
[26] عبدالعزيز الشناوي، "الدولة العثمانية"، جـ 1، ص 14 – 15.
[27] المرجع السابق ص 15 – 16.
[28] د/ عبدالعزيز الشناوي، "الدولة العثمانية"، ج1 ، ص 26.
[29] المرجع السابق، ص323 – 324.
[30] سير توماس أرنولد، "الدعوة إلى الإسلام"، ترجمة د/ حسن إبراهيم حسن، وآخرون، القاهرة، 1970، الطبعة الثالثة، ص 185.
[31] المرجع السابق ص 174.
[32] سير توماس، أرنولد، "الدعوة إلى الإسلام"، ص 174.
[33] د/ عبدالعزيز الشناوي، المصدر السابق ج2، ص 690 – 696.
[34] محمود شاكر، "التاريخ الإسلامي"، العهد العثماني، بيروت 1986 – ص 26 – 34.
[35] محمود شاكر ، "العالم الإسلامي" ، العهد العثماني ص 36 – 40.