لطّواف حَول البحر الأحمر وَثيقة يونانيّة فريدة من القرن الأول الميلادي الإمبراطوية الحميرية العظيمة ونفوذ عَرب الجنوب في البَر وَالبحر

الطّوافحَول البحر الأحمر وَثيقة يونانيّة فريدة من القرن الأول الميلاديالإمبراطوية الحميرية العظيمة ونفوذ عَرب الجنوب في البَر وَالبحر

إبراهيم خوري

عبَّرالإغريق بلفظي "أرثره ثالته" Erythra thalatta ou thalassa (1) عن مجمعالماء المترامي الأطراف الذي يمثل في عرفنا المعاصر المحيط الهندي وذراعيه"البحر الأحمر" و"الخليج". ولا يحيد مؤلف "الطواف حول أرثره ثالته" عن هذاالاصطلاح. وتنفرد رسالته القصيرة، القيمة بموضوعها، وإن كانت تماثلهاتصانيف يونانية عديدة، تحمل عناوين تشبه عنوانها، تناولت شؤون بحار أخرى،وتوالى تحريرها على مدى سبعة قرون، من القرن الخامس ق. م. إلى القرنالثاني بعده، نذكر منها "الطواف حول إفريقية" لحنون القرطاجني (القرنالخامس ق. م.) المصنف باللغة القرطاجنية والمحفوظة بترجمته اليونانية فقط" والطواف حول أوربا وآسيا وأفريقية" لمنسياس تبارة ( القرن الثاني قبلالميلاد) و(الطواف حول البحر الداخلي" أي البحر المتوسط، لمينيبس البرغامي(مطلع القرن الأول الميلادي)، و"الطواف حول بحر أو كسينس" أي البحر الأمينيعني البحر الأسود لأريانس (القرن الثاني الميلادي). ولم تثر جميع هذهالمصنفات ما أثاره "الطواف حول أرثره ثالته" من جدل لم يحسم بعد، أنصب علىاسم البحر وتاريخ التصنيف، وكاتبه، ومضمونه. ويحسن بنا الإطلاع على هذهالقضايا قبل قراءة متن المخطوطة النفيسة.‏
أولاً: قضية تسمية المحيط الهندي "أرثره ثالته" ومناقشة اغترخيذس لها:‏
لميعرف جغرافيو اليونان ولا ملاحوهم المحيط الهندي في العصور القديمةالأولى. وسمع الأغارقة باسمه أول مرة من مؤرخهم هيرودوتس في القرن الخامسق. م.، مع أن بحَّاراً يحمل اسم سكيلاس اليوناني عمل في جيش دارسون الأولوقام برحلة بحرية استطلاعية قادته من الخليج إلى شاطئ السويس، كما قامنيارخس برحلة بحرية استطلاعية أخرى استكشف فيها الساحل من مصب نهر الهندوسإلى مصب نهر الفرات العتيق في أثناء حملة الاسكندر العسكرية علىالإمبراطورية الفارسية. وبقيت معارفهم عنه سماعية حتى جاء اغترخيذسالكنيدسي في عهد بطليموس فيلو متر (181 ـ 146 ق. م.) وناقش تسميةهيرودوتس. ثم أتى بعده أفذوكس السيزيكي في أيام بطليمس أفرجيتس (146 ـ 117ق. م.)، وكان أول يوناني يصل بحراً إلى الهند. بالتالي لم يمخر الأغارقةعباب المحيط الهندي أو فروعه إلا في منتصف القرن الثاني: ق.م.، وحصلواسماعاً من الفينيقيين والفرس على كل ما روي على لسانهم قبل هذا التاريخ.وتؤيد الوثائق اليونانية هذه الأقوال. فلابد إذن من التسليم أن تسمية"أرثره ثالته" أقدم منهم ولاسيما أنهم كانوا مازالوا يناقشون مدلولها فيالقرن الثاني ق.م.‏
آ ـ هيرودوتس مدوّن تسمية "أرثره ثالته"‏
والدليلعلى هذا القدم ورودها لأول مرة عند هيرودوتس (حوالي 494 ـ حوالي 420 ق.م.) في سياق كلامه عن دورة الفينيقيين حول قارة إفريقية. قال هيرودوتس:‏
"نحننعرف أن البحر يغمر شواطئ ليبية (يقصد قارة أفريقية) من جميع جهاتها ماعدا مكان التصاقها بقارة آسية. وكان فرعون مصر نكاو أول من قام بهذاالاكتشاف. بعدما كفَّ عن شق القناة التي كان قد باشر فتحها بين نهر النيلوالخليج العربي (يعني البحر الأحمر الحالي)، وأنزل إلى البحر عدداً منالسفن اختار لها ملاحين فينيقيين، وأمرهم أن يبحروا إلى مجاز هيراقليس،ويرجعوا إلى مصر مارين به وبالبحر المتوسط. فانطلق الفينيقيون من مصر عنطريق "أرثره ثالته"، ودخلوا الأقيانس الجنوبي. وعندما جاء الخريق، نزلواإلى البر حيثما وصلوا، وبذروا قمحاً في حقل من الأرض، وانتظروا حتى أينعوحصدوه. ثم استأنفوا مسيرهم. وانقضت سنتان كاملتان على سفرهم. ولم يعرّجواعلى مجاز هيرقليس إلا في السنة الثالثة. وأنجزوا رحلتهم البحرية وعادوا.وأعلنوا بعد رجوعهم ـ لكن أنا لا أصدقهم ـ إن الشمس كانت على يمينهم عندماداروا حول ليبية (أفريقية). وعلى هذا النحو، اكتشف امتداد ليبية لأول مرة(2).‏
ب ـ وصول بحارة أغارقة مجندين إلى فرعين إلى فروع أرثره ثالته.‏
1ـ رحلة سكيلاكس البحرية:‏
كذلكتحدث الرحالة الكبير هيرودوتس نفسه، بمنتهى الإيجاز، عن ملاح يوناني اسمهسكيلاكس، ولد في مدينة كرياندة (من كارية في آسية الصغرى على بحر إيجه)،وعاش في القرن السادس ق. م.، كلَّفه داريوس الأول (521 ـ 485 ق. م.)باستكشاف مجرى نهر الهندوس حتى مصبه. ففعل، ثم قام في وقت لاحق سنة 508 ق.م. على الأرجح، باستكشاف سواحل جزيرة العرب الجنوبية، وسواحل البحر الأحمرالحالي حتى مصر، وقد أتجه من الشرق إلى الغرب وانطلق من الخليج، ووصل إلىالسويس. وهذه روايته:‏
"أرادداريوس أن يعرف أين يصب نهر الهندوس في البحر، فأنزل فيه سفناً قادهاسكيلاكس الكرياندي وسواه ممن يثق بكلامهم. فجروا من مدينة كسباتيوس،ونزلوا في النهر صبباً باتجاه الشرق ومطلع الشمس حتى بلغوا اليم. ثم ساروافيه نحو الغرب، ووصلوا في الشهر الثالث عشر إلى المكان (القريب من السويسالحديثة) الذي أرسل منه الفرعون نكاو الفينيقيين المذكورين من قبل ليدورواحول ليبية (أفريقية). ثم أخضع داريوس الهنود بعد إنجاز سكيلاكس رحلتهواستخدام البحر".‏
وقداكتشف نقش مسماري قرب السويس يؤيد استكشاف سكيلاكس، وفيه إشارة صريحة إلىإصلاح داريوس قناة النيل القديمة لوصل مصر بفارس عن طريق البحر. وهذا نصه:"أمرت بشق هذه القناة من النيل.. إلى البحر الذي يمتد إلى فارس. فتم ماأمرت به، وأبحرت السفن فيها، وذهبت من مصر إلى فارس، تنفيذاً لإرادتي"(3). إذن، عرف الفرس شيئاً عن أرثره ثالته في أواخر القرن السادس ق. م.فقط.‏
2 ـ رحلة نيارخس البحرية:‏
كذلك،أدّت فتوحات الاسكندر في الشرق إلى إعطاء اليونان لأول مرة فكرة محدودة عنالمحيط الهندي الشمالي وعن الخليج. فقد قاد نيارخس واونيز يكريتس رئيسربابنة سفنه، أسطول ذي القرنين بسلام من مصب نهر الهندوس إلى ديريدوتس عندمصب نهر الفرات العتيق، فسوس (سلوقية العهد الهلنستي). وبدأت الرحلة فيشهر أيلول سنة 325 ق. م. على الأرجح من جزيرة كلُّوته التي كانت واقعة علىذراع الهندوس الغربية، لكنها توقفت حتى آخر تشرين الأول أو منتصف تشرينالثاني في أحد المراسي غربي مدينة كراتشي، حتى هبوب الرياح الموسميةالشمالية الشرقية التي كان يجهلها الأغارقة. واستغرقت خمسة أشهر تضمنتتوقف 24 يوماً في مرسى الاسكندر و21 يوماً في مصب نهر سيتاكس، وقيل أقلوقيل أكثر حسب المؤرخين.‏
مهمايكن، تمثِّل رحلة نيارخس عملاً عسكرياً يونانياً، كما مثَّلت رحلة سيكلاكسعملاً عسكرياً فارسياً وتثبت الرحلتان كلتاهما أن فارس واليونان بقيتاتجهلان "أرثره ثالته" حتى هذا التاريخ. وسوف نرى أن اليونان أخذوا يتعرفونعليه في عهد بطالسة مصر.‏
جـ ـ تعرّف اليونان على أرثره ثالته في عهد بطالسة مصر:‏
حكمالبطالسة مصر بعد وفاة الاسكندر، واهتموا باستكشاف الآفاق البحرية بينهاوبين جزيرة العرب وأفريقية الشرقية والهند على ثلاث مراحل دامت كل منهاقرناً كاملاً.‏
1 ـ المرحلة الأولى (323 ـ 222 ق. م.):‏
ففيغضون مائة السنة الأولى (323 ـ 222 ق. م.)، في عهد البطالسة الثلاثة الأول(سوتير، فيلاذلفس، الفرجتيس الأول) تركز نشاطهم البحري على استطلاع البحرالأحمر الحالي وبناء المدن الساحلية، وشق قناة النيل ـ البحر الأحمر.وأولى بطليمس فيلاذلفس (283 ـ 246 ق. م.)، هذه الأعمال عناية كبرى. فبدأترميم قناة النيل القديمة التي تصل بوبستي (الزقازيق) على ذراع بيلوزيوم(الفرما) بخليج هيرووبوليت أي خليج السويس. وكان الفرعون سيتي الأول قدشقها في القرن الرابع عشر ق. م. وأصلحها نكاو الثاني في القرن السادس ق.م. ونظفها داريوس الأول في أواخره. وعمَّقها فيلاذلفس وأعاد وصلها بالبحرالأحمر حوالي 274 ق. م. (4)، وأسس مدن أرسينويي (اسم زوجته)، وميوس أورمس،وبرنيكي (اسم والدته)، وبتوليمايس الصيد.‏
2 ـ المرحلة الثانية (221 ـ 117 ق. م.):‏
وفيأثناء مائة العام الثانية، في عهود البطالسة الأربعة التالين (فيلوباتر،أبيفانيس فيلومتر، أفرجتيس الثاني)، استُكشفت جزيرة سقطرة وساحل جزيرةالعرب حتى جزيرة سرابس (مصيرة). وفي أيام فيلو ميتر (181 ـ 146 ق. م.) عاشاغثرخيذس الكنيدسي، وعاصر أفذووكس السيزيكي أفرجتيس الثاني (146 - 117).‏
مناقشة أغثرخيدس تسمية ( أرثره ثالته) : البحر الأحمر، بحر أرتراس، بحر الحمر، بحر حمير‏
صنفاغثرخيدس مؤلفاً عنوانه "أرثره الثالته"، فُقد لكن حفظ البطريرك البيزنطيفوتيوس (حوالي 820 ـ حوالي 895) مقاطع منه في مصنفه الكبير "ميريوبيليون"يهمنا منها مناقشة تسمية (أرثره ثالته) في الكتاب الأول، الفقرات 2 ـ 5.قال فوتيوس ملخصاً اغثرخيذس:‏
2ـ لم يُسمّ "أرثره ثالته" بهذا الاسم لأن أشعة الشمس النارية النافذة تسقطعلى الجبال الغربية الواقعة على ساحل الخليج العربي ( البحر الأحمرحالياً)، فينشأ ما يشبه الفحم الملتهب، في حين تقوم أكوام الرمال والأرضالحمراء المنتشرة على ساحله الشرقي بتلون مياه البحر بالحمرة على مسافةعدة ستاديونات عن الشاطئ. يقول اغثرغيذس: لم يُسمّ أرثره ثالته بهذا الاسملهذا السبب البتة، لأن الأشعة الهابطة من جانبي الخليج العربي تجعل البحريشبه البر ـ ويستطيع جميع الناس أن يلاحظوا هذا الوضع، وأن يتوصلوا إلىتعليله ـ حتى لو كان الممر الصالح للملاحة ضيقاً وتنتأ قمم ورواب من البرمشرفة عليه. مع ذلك، لم يؤخذ اسم هذا البحر من هذه الظاهرة، رغم أن مصنفينعديدين فكروا هذا التفكير نفسه قبل اغثرخيذس.‏
3ـ إذن هذا هو التفسير الأول الذي شُرحت به تسمية أرثره ثالته مع أنه غيرصحيح. وهنالك تفسير ثان خاطئ أيضاً، يقول أن أشعة الشمس عندما تشرق في تلكالأرجاء لا تهبط صافية على البحر كما هي الحال عندنا، بل حمراء بلون الدم،فيتصور الناظر أن لون البحر الأحمر، وبالتالي سمِّي البحر أرثره ثالته.‏
4ـ ويأتي التفسير الثالث من بند أرغولس في اليونان على حد قول أغثرخيذس.وهو تعليل جريء جداً لكن لا يستند إلى أي أساس. فمدرسة دينياس تذرعت"بالجواز الشعري"، فزعمت أن برشاوش أبحر من ارغس إلى اثيوبية (التي كانتتسمى كيفينية) ليحرر كريمة فيفاوس، ثم عبر منها إلى فارس، وأعطى الفرس اسمأحد أنجاله ليعلم ابنه أرثراس بمجيئه، فسمى البحر باسمه. هذه رواية أرغولسغير المعقولة عن تسمية أرثره ثالته.‏
5ـ التفسير الخامس (هكذا ورد بلا رابع) والصحيح، سمعه اغثرخيذس من رجلفارسي يدعى بوكسوس، غادر وطنه واستقر في أثينة، وتعلم أن يفكر ويتحدث مثلأي مواطن اسمه "ارثراس" واسم والده مووزيوس. وكان يسكن منزلاً لا يبعد عنالبحر، مقابل جزيرتين عامرتين، كانتا خاليتين من السكان في عهد امبراطوريةميدية، عندما عرفهما (ارثراس) الذي اعتاد أن يقيم في العاصمة بازارغادي فيالشتاء، وأن يرجع إلى بيته في الربيع راضياً بهذا التنقل ليبتهج ويجنيأرباحاً. وكان يملك رعيلاً صغيراً من الحجور، هاجمته الأسد في أحد الأياموقتلت بعضها. فارتعب ما تبقى من مشهد القتل، وأزعجته النعرات، فاندفع نحوالشاطئ الذي كانت تهب عليه ريح عاتية آتية من البر، وألقى بنفسه في البحرفي غمرة شروده، وسبح بموازاة الشاطئ لكن لم يخفّ رعبه، فجرفته قوة الأمواجووصل بصعوبة إلى الجزيرة بسلام. وعبر معه سائس مقدام متشبثاً بكاهل هذهالحجر أو تلك. ثم فتش ارثراس عن حجوره المفقودة، وصنع طوقاً وكان أول منعمله في تلك النواحي، ودفعته الأمواج بسرعة فعثر على حجوره وعلى سائسها.وأولع بالجزيرة فبنى فيها مرسى أميناً. ونقل إليها من البر المعوزين ثموضه مستوطنين آخرين في باقي الجزيرة غير المعمور بالفقراء. وشهرته هذهالأعمال إلى حد عظيم حتى أن هذا البحر المترامي الأطراف صار يعرف ببحر"أرثراس" حتى أيامنا الحاضرة. وتعليل هذه التسمية لغوياً يقتضي إدراكالفرق الكبير بين "أرثره ثالته" أي "بحر أرثراس" وبين "ثالته أرثره" أيالبحر الأحمر. فالاشتقاق من اللون مغلوط بينا الاشتقاق من اسم الرجل الذيحكم الجزيرة صحيح، كما جاء في التفسير الفارسي.‏
لميأخذ أحد بتحليل أغثرخيذس ولا برأيه. وتُستغرب حجته اللغوية الخاطئة التييرجح أنها دُست في نصه، لأنه يوناني يعلم جيداً أن البحر مؤنث بلسانه(ثالته)، فيجب أن يؤنث نعته (أرثره)، ويوضع النعت قبل المنعوت به في معظمالحالات (أرثره ثالته) وبعده أحياناً (ثالته أرثره): فالتعبيران يؤديانالمعنى ذاته: حرفياً "البحر الأحمر" باللغة اليونانية. وبالتالي، بقياللون أساس التسمية، وانتقل إلى التسمية اللاتينية في عهد الرومان، فقالالعالم الطبيعي بلينيوس (23 ـ 79 ميلادية): "نحن نسميه ـ أي البحر ـ "ماريروبروم" (= أحمر)" (5). وجاء في المعاجم اللاتينية "أرترايوم ماري"Erythaeum Mare لكن قطعاً لم يُقصد لون مياه البحر، بل يدل هذا الاستعمالالمجاري على شعب أو قوم أعطى اسمه لليم، كما يقال اليوم "الجيش الأحمر"للجيش السوفياتي، مما دفع أدوارغلازر وفريتزهومل إلى افتراض هجرة بشريةقادت الفينيقيين من عيلام إلى جزر البحرين، ثم إلى جنوبي جزيرة العربمخلفين وراءهم وصف أماكن عديدة بصفة "أحمر". منها البحر الذي كان يغمرشواطئهم ويحمل سفنهم. في هذه الحالة يتحتم أداء "أرثره ثالته" ببحرالحُمر" "أو بحر الفينيقيين" المشهورين أصلاً باللون الأرجواني. أخيراًيرى المستشرق الألماني هرمان هيرت (1865 ـ 1936) إن التسمية مشتقة منالحميرين الذين كانوا يرتدون حللاً حمراً، وأيده الإيطاليون في دليلإفريقية الشرقية الإيطالية (ميلانو 1938). وأخذت الآثار والنقوش المكتشفةفي الثمانينات توضح قيام امبراطورية حميرية عظيمة شملت سلطتها أزانية أيإفريقية الشرقية. لذلك يرجِّح وجوب ترجمة عنوان الوثيقة اليونانية بـ:الطواف حول بحر حمير.‏
وهذا ما يجب عمله أن صح هذا الاجتهاد.‏
أفذوكس السيزيكي أول يوناني يصل إلى الهند بحراً‏
ذهبأفذوكس السيزيكي في أواخر حكم بطليموس أفرجتيس الثاني (+ 117 ق. م.) إلىالاسكندرية مندوباً عن مسقط رأسه ليحضر احتفالات عيد برسيفوني كريمة زفس.وفي أثناء وجوده في البلاط الملكي، أدخل الحراس رجلاً هندياً شارف علىالموت، عثروا عليه في البحر الأحمر، روى بعد تعلمه اليونانية أنه الوحيدالذي نجا من الهلاك غرقاً من سفَّار رحلته البحرية. ولم يصدّقه الملك،فعرض الهندي أن يعمل دليلاً لفريق يوناني يبحر إلى الهند. فاختار الملكأفذوكس ليكون أحد أفراد تلك الرحلة. فسافر مرتين أحداهما سنة 120 ق.مبدلالة الهندي، والأخرى سنة 115 ق.م. بلا دليل. فكان أول يوناني يعبر"البحر الأحمر" ويصل إلى الهند.‏
3 ـ المرحلة الثالثة (117 ـ 30 ق. م.)‏
خلالالمائة عام الثالثة من حكم البطالسة التي انتهت بانتهاء حكم كليوباترة (51ـ 30 ق.م.) ملكة مصر وزوجة انطونيوس مرقس، وقعت مصر تدريجياً تحت سلطةرومة، لكن لم تتوقف تجارتها في البحر الأحمر الحالي وما وراءه، بل نافسهاالأنباط والحميريون. وفي سنة 59 ق. م. وصل اليونان إلى سقطرة (6) واسيلة(قلهات) مرسى الانطلاق إلى الهند، وهي أقصى نقطة بلغوها، باستثناء رحلتيأفذوكس.‏
مهمايكن، غلب استكشاف الطرق البحرية على نشاط البطالسة في "البحر الأحمر"،خلافاً لما فعلته رومة من الاهتمام بالتجارة، بحراً وبراً، بالدرجةالأولى، بعد تأسيس إمبراطوريتها الأولى. وحفز الترف الروماني تزايد الطلبعلى السلع الشرقية، فتوسع التعامل بين مصر واليمن، والهند، حتى قالسترابون (حوالي 58 ق. م. ـ بين 21 ـ 25 بعده): "علمت أن 120 سفينة تغادرميوس أورمس إلى الهند ـ سنوياً ـ في حين لم يكن إلا القليل النادر منالمراكب يغامر بالسفر إليها ويتاجر بالسلع الهندية في عهد البطالسة" (7)،وتبادل ملك بريغازة (بروج) وأوغسطس السفارات والهدايا. وأعجبت سيدات رومةكثيراً بلؤلؤ مضيق منار والخليج فاستوردته العاصمة الرومانية بمقاديرهائلة اضطرت الإمبراطور تيباريوس أن يخطر مجلس الشيوخ سنة 22 م بتسرب نقدإمبراطورية إلى الخارج، ودفعت تاسيتس (حوالي 55 م ـ حوالي 120 م) إلىإدانة تبذير نساء رومة، الذي يؤدي إلى انتقال ثروتها إلى بلدان عدوةوغريبة. وقدر بلينيوس 550 مليون سيسترس (1.4 مليون دولار ذهب). وكانت معظمالسلع تشحن بالبحر، وتأتي إلى الاسكندرية، فرومة بعد مرورها بالمرافئالعربية.‏
ثانياً ـ تاريخ تصنيف "الطواف حول البحر الأحمر" ومؤلفه:‏
لميُذكر اسم مؤلف "الطواف حول البحر الأحمر" في أي من مخطوطاته، لا فيمخطوطتيه المحفوظتين في هايدلبرغ (من القرن العاشر) ولا في المكتبةالبريطانية (من القرن الرابع عشر أو الخامس عشر). ولا أشير إليه فيالوثائق التاريخية. وبقيت الأوساط العلمية مدة طويلة تظن أن أريانسصنَّفه، لأن مجموع هايدلبرغ يتضمن مخطوطة "الطواف حول البحر الأحمر" ثممخطوطة "الطواف حول بحر أكسينس" لاريانس نفسه بعدها مباشرة. فاعتقدالباحثون إنه كتب الطوافين. وقد صحح هذا الالتباس في وقت لاحق. وظل مؤلفالطواف حول البحر الأحمر" مجهولاً. لكن استخلصت من نصه ذاته بعض الإيضاحاتعن جنسية الكاتب المجهول وعن مهنته.‏
وذهببعض المحللين إلى أنه يوناني يقيم في مصر. ورأى آخرون منهم أنه مصري يجيداللغة اليونانية. واعتمد الفريقان على حجتين وحيدتين تباين تأويلها. الحجةالأولى ورود شهور كانون الثاني وتموز وأيلول بأسمائها الرومية اللاتينيةمع مقابلاتها القبطية معاً في الفصول 6، و14، و39، و49، و56 من المخطوطة،مما يجيز القول بأنه يوناني ـ الشهور اليونانية ـ أو مصري ـ الشهورالقبطية. الحجة الثانية جملة تضمنها الفصل 29 من المخطوطة، هذا نصها:"مثلما يتقطر الصمغ من بعض الأشجار عندنا في مصر".‏
فتعبير"عندنا في مصر" يسوّغ الظن بأن المؤلف يوناني مستقر في مصر، وهذا اجتهادضعيف، أو أنه مصري يتحدث عن ظاهرة في وطنه ،وهذا الرأي أقوى. مهما يكن، لاريب أن مصنف "الطواف حول البحر الأحمر" رجل ضليع في أمور البحر وخبير بطرقالتجارة والغرب. فأما إن يكون معلماً ماهراً تعود سلوك طريق إفريقيةالشرقية بحراً، وأما أن يكون تاجراً أمضى عمره في التنقل بين مراسي مصرومراسي أفريقية الشرقية والهند، لأنه يعطي معلومات دقيقة وصحيحة عن شؤونالملاحة وتبادل السلع وعن الممالك القائمة على سواحل "البحر الأحمر" أوالقريبة من شواطئه، مما يضفي أهمية كبرى على تحديد تاريخ كتابة هذاالطواف.‏
إلاأن هذا التحديد لم يرد في أي من المخطوطات المعروفة، ولم تصرح به ولالمَّحت إليه الوثائق التاريخية لا من قريب ولا من بعيد. ولا سبيل إلىمعرفته إلا بالتقريب وبطرق غير مباشرة، أثارت ومازالت تثير جدلاً علمياًطريفاً يلقي أضواءً ساطعة على حضارة جنوبي جزيرة العرب في العصورالقديمة.‏
وقداشترك في هذا النقاش علماء كبار انطلقوا جميعاً من ذكر أسماء بعض ملوكاليمن القديمة معناها التاريخي الواسع وبعض قبائلها، مثل خليبس ملكالمعافر (فصل 22، 31) وكرب آل ملك حمير وسبأ (فصل 23 و31)، واليازوس ـ آلعذذ أو العزيلط ـ ملك مملكة البخور (فصل 27) أي حضرموت.‏
وتناولالجدل التاريخي التعرف على العزيلط ملك حضرموت وكرب أيل ملك حمير وسبأالمتعاصرين. فمتى تحدد تاريخ حكمهما تعين تقريباً وتلقائياً تأريخ تأليفالطواف حول البحر الأحمر.‏
وأثارالتعرف على العزيلط، ملك بلاد البخور (فصل 27)، المقيم في عاصمته سوباتا(شبوة) مشكلة عويصة لقلة المعطيات عن تاريخ حضرموت وتباين الآراء فيالموجود منها. وظن أن العزيلط أو العزيلط المقصود هو الملك العزيلط بن عمذخر (كتابة فيلبي 82). ويقال أنه العزيلط الثالث. ويرى جاك ريكنس أنه حكمحوالي 200 م ويفضل هـ. فون وزمن حوالي 220 م ويخالفهما كليسر والبرايتمعتمدين على الكتابة الموسومة 1619 المكتشفة في وادي بيحان التي ذكرتملكاً اسمه اليازوس ( العزيلط) حكم حضر موت سنة 29 م وملكاً آخر اسمه كربإيل حكم من حوالي 40 إلى 70 م (.‏
كذلكآثار التعرف على الملك كرب إيل إشكالاً آخر كاد يستعصي على علماء العربياتالجنوبية لكثرة الأسماء المتشابهة. ويشترط تحديد كرب إيل المقصود فيالطواف أن يقيم في سفار (ظفار) ويكون ملكاً على قبيلتي حمير وسبأ (سبأ وذيريدان) وصديق أباطرة رومة (فصل 23) وأن يعاصر العزيلط ملك حضرموت.‏
ورأىجاك ريكمنس في البدء أن كرب إيل الطواف نجل "ذمر علي بين" الذي ملك قبيل"علهن نهفن". وقد اغتصب علهن نهفن عرش سبأ هو ووالده "يرم أيمن" من كربإيل وتر يهنعم وهب آل يحز، ودام استيلاؤهما عليه من سنة 145 ق م إلى 115ق. م. حسب فيلبي، وأسسا الأسرة المالكة الهمدانية.‏
ويدعىكرب إيل المقترح "كرب إيل وتر يهنعم" الذي خلف والده "ذمر علي بين" وصارملكاً في مدينة مآرب، ولقب بلقب ملك سبأ وذي ريدان. وقد سكَّت مجموعة نقودباسمه في ريدان، وضربت عليها حروف متشابكة، فدعاه الباحثون "كرب إيلالنقود" (9). وقد نذراً إلى الإله "المقه" ليبارك عليه وعلى قصره سلحينوعلى مدينته مأرب، وأصلح سور المعبد (373) وأنجب ولدين هما "هلك أمر" الذيتوفي قبله، و"ذمر علي ذرح" الذي ملك مع والده وبعده. وقدّر البريت حكم"كرب إيل وتر يهنعم" وابنه هلك أمر في منتصف القرن الأول للميلاد. وحكمذمر على ذرج من 75 إلى 95 م في رأي فلبي.‏
وتعدجاكلين بيرين كرب إيل الطواف كرب إيل النقود نفسه. وتستند على هذه النقودوتقارنها بنقود سكها "عمدن بين يهقبض" ملك سبأ وذي ريدان وظهرت بعد بضعةأجيال من تاريخ حكم ملك قتبان "شهر هلل يهقبض ذراكرب" (حكم حوالي 200 م فيرأيها) خلافاً لـ هـ. فون وزمن الذي جعل حكمه في العقد الأخير من القرنالأول الميلادي (بين 90 و100). لكن لم تثبت بيرين على تاريخ محدد، فقالتأيضاً أن كرب إيل النقود حكم بعد ملوك قتبان الذين سكوا نقوداً حوالي 180ـ 200 م، وقالت حوالي 220 م في مكان آخر (10) لأنها تعتقد أن كرب إيل وتريهنعم ملك في ظفار وفي مأرب بآن واحد، فتصطدم برأي جاك ريكمنس الذي يزعمأن اللقب بحد ذاته لا يستتبع أن الملك حكم المدينتين، بل قد يكون مطالباًبالثانية. مهما يكن لم يحسم الأمر، ولم يستقر الرأي على جعل كرب إيلالطواف كرب إيل وتر يهنعم عند الجميع ولا سيما أن هـ. فون وزمن ملَّكهحوالي 140 ـ 150 م ولأن لقبه لا يعني أنه حكم حمير. لذلك كله قدّم جاكريكمنس اقتراحاً أخراً لم يحز الرضى أيضاً، وبقيت قضية تاريخ الطواف عالقةبين فئة غالبة تصر على إعادته إلى أواخر القرن الأول الميلادي وبين أقليةتتمسك بإرجاعه إلى القرن الثالث. ولم تجد نفعاً محاولات دراسة حكم الملوكالآخرين ولا مقارنة معطيات الطواف بمعطيات بلينيوس وسواه. لكن لا ينال هذاالجدل البتة من قيمة مضمون الطواف.‏
ثالثاً ـ مضمون الطواف حول البحر الأحمر‏
لاريب أن التجار العرب والهنود كانوا يعبرون المحيط الهندي ذهاباً وإياباًمنذ أقدم العصور مستفيدين من هبوب رياح دورية يتغير اتجاهها مرتين فيالعام وتدعى الرياح الموسمية في أيامنا الحاضرة. ويشك كثيراً في أنبحَّاراً يونايناً يسمى هيبالوس اكتشف في عهد الإمبراطور أغسطس أو كلوديوسوربما سنة 45 ميلادية، رياحاً، رغم أنها سميت باسمه تهب في المحيط الهنديمن الجنوب الغربي بين شهري أيار وتشرين الأول، ومن الشمال الشرقي بين شهرتشرين الثاني وآذار، وتسهل قطع اليم من جزيرة العرب وأفريقية الشرقية إلىالهند وآسية الجنوبية دون اتباع الشواطئ. لكن أثبتت الوثائق التاريخية أنسيطرة العرب والهنود الفعلية على الملاحة في المحيط الهندي زالت في زمنقريب من بدء التاريخ الميلادي دون أن يحدد بدقة حتى الآن، وإن "أهل البحرفي المتوسط" صاروا يعرفون الرأي عن المحيط الهندي ما يعرفه أهله عنه فيتلك الأيام، والدليل القاطع على سداد هذا الرأي وثيقة الطواف ذاتها التيتلخص ما يعرفه المصريون أو اليونان المقيمون في مصر عن سواحل البحر الأحمرالحالي وجزيرة العرب وإفريقية وآسية الجنوبية، وتشتمل هذه المعارف علىمعطيات عن المراسي والسلع المتبادلة فيها والمماليك القائمة فيها، جمعتقطعاً في أثناء أسفار طويلة توالت خلال مدة زمنية غير قصيرة، وتكررت حتىبلغت مستوى الدقة والصحة التي تتصف بهما. وتصور هذه الوثيقة واقع العلاقاتبين الشرق والغرب بين المحيط الهندي والبحر المتوسط في القرن الأولللميلاد، وتدونها في سفرتين إحداهما أفريقية والأخرى آسيوية.‏
آ ـ السفرة الأفريقية في الطواف حول البحر الأحمر (11):‏
تجاريهذه المرحلة سواحل البحر الأحمر الحالي الغربية، وساحل عدن الجنوبي حتىرأس جردفون، وساحل أفريقية الشرقية حتى مدينة رابتا. وتبدأ من ميوس أورمسفي زاوية البحر الأحمر شمالية الغربية. وصف نصها (الفصول 1 ـ 18) أكلةالسمك ـ قبائل البشارين اليوم ـ والبربر أكلة الوحوش وأكلة الأعشابالبرية.‏
ويذكرمن الحكام زوسكليس والشهبنادر المتحكمين بالمراسي وملك المعافر العربيالذي يحكم أزانياس. ويتحدث عن السواحل الأمينة والسواحل المليئةبالقراصنة. ويفصل السلع المنتجة في جميع تلك الأنحاء أو المستجلبةوالمتاجر بها فيها، منها الأنسجة والأكسية والقرفة وألكاسيا البرية وذبلالسلاحف والعاج والتوابل والصموغ. ويشير إلى السفن والزوارق والأطوافالمستعملة في الملاحة.‏
ويمثلهذا النص أول وثيقة دقيقة من منطقة توابل ذكرها الرومان تمتد حتى رأسجردفون (رأس التوابل)، لكنه يستبهم ويشتبه حتى أن القارئ يستبعد أن يكونالمؤلف قد زار الساحل الواقع بين الرأس جردفون وابتا ويميل إلى الظن بأنهنقل معطياته سماعاً عن الإخباريين. ويستشهد سترابون بالجغرافي أبتميذورسليثبت جهل اليونان لساحل أفريقية الشرقية ويروي قوله: "في ذلك الزمان(القرن الأول ق. م.)، كان المرء يدور حول هذا الرأس (جردفون) باتجاهالجنوب تقريباً، ولم تدون لنا المراسي والأماكن، ونجهل كل شيء عنه وعنالساحل بعده (12). لكن يبدو أن البحارة مرّوا على تلك الواجهة البحرية فيالمائة والخمسين سنة التالية.‏
ويحتملأن ينطبق موقع أبوني (الفصل 13، 15) مع موقع حافون قرب رأس حافون على بعد90 ميلاً عن جردفون جنوباً. ويخلو ساحل أزانياس الصخري من المراسي منحافون إلى رأس الخيل جنوبي خليج نيغرو وعند درجة عرض 45ً 7ْ شمالاً علىمسافة ملاحة ستة أيام (أجرف أزانياس العالية). وإذا سارت السفينة ستة أيامأخرى مقابل السيف الطويل وحتى رأس "أود" (شواطئ أزانياس الرملية)، وصلتإلى "مجاري أزانياس" وهي شواطئ رملية خالية من السكان تمتد حتى خطالاستواء ومجرى الأول منها سرابيونس قرب مقديشو على بعد 800 ميل عنجردفون. والمجرى الثاني مجرى نيكنس عند براوة. وتمر السفينة بعده على جزربيرلاون (باتا، مندا، لامو) وتصل إلى جزيرة مينوثيس. فإذا عدت هذه الجزيرةبمبا، أصبحت رابتا باغومو بنغاني الحديثة على عرض 25ً 5ْ جنوباً. وإذا عدتزنجبار، صارت رابتا باغامويو الحديثة أو دار السلام على بعد 44 ميلاً إلىالجنوب. وكانت باغامويو أول مرسى تجاري في منطقتها ونهاية طريق بريةداخلية تأتي من البحيرات الأفريقية الكبرى. ولعبت رابتا الدور ذاتهأيضاً.‏
وأبانالطواف أن ساحل إفريقية الشرقية يمتد إلى 1200 ميل جنوبي رأس جردفون، فصححمفهوماً يونانياً قديماً أيده العديد من المؤرخين والجغرافيين القدامى،يقول أن أفريقية تتجه إلى الغرب في مكان ما يقع بين رأس جردفون وخطالاستواء، واستعاض عنه بما يلي: "ذلك أن المحيط لم يستكشف بعد هذه الأسواق(رابتا الخ) وينعطف مستديراً إلى الغرب، ويمتد نحو الجنوب باتجاه يعاكساتجاه أثيوبية وليبية وأفريقية، ويمتزج بمياه البحر الغربي". وهذا القولمتفق مع رأي هيرودوتس وأراتوستينس وحتى سترابون الذين يعدون أفريقية شبهجزيرة. مع ذلك كان سترابون يعتقد بتعذر الدوران حول أفريقية، لأن جميعالذين جازوا سواحل المحيط مقابل شواطئ ليبية (أفريقية) سواء انطلقوا منالبحر الأحمر أو من مجاز هيراقليس، عادوا كلهم بعد قطعهم مسافة معينة،وحالت ظروف معقدة دون استمرار أسفارهم. بالتالي أوحوا للناس أن برزخاً يسدطريقهم. مع ذلك استطاع المدعو ديوسكورس بعد مرور نصف قرن على كتابةالطواف، أن يبلغ الرأس الأخضر، وهو على الأرجح رأس دلغادو في موزمبيق إزاءطرف جزيرة مدغشقر (44ً 10ْ عرض جنوباً). ولعل وجود هذا الرأس وجزيرةمدغشقر حياله دفعامارينوس الصوري وبطليموس القلوذي إلى إحياء فكرة هيبارخسالقائلة بأن ساحل أفريقية يتجه إلى الشرق فالشمال مشكلاً لساناً برياً يصلأفريقية الجنوبية الشرقية بآسيا الجنوبية الشرقية، ويحول المحيط الهنديإلى بحيرة مغلقة.‏
ومهمايكن، يعد الرأس الأخضر أقصى نقطة جنوبية بلغها اليونان على ساحل أفريقيةالشرقية وعرفوها، في حين يخبرنا الطواف (فصل 16) أن ملك المعافر في اليمنكان يحكم رابتا أزانياس استناداً إلى اتفاق قديم وضعها تحت سلطة مملكتهالتي أصبحت الأولى في جزيرة العرب، وأن أهل مدينة موزا اليمنية يتولونشؤونها لقاء دفعهم ضريبة له.‏
ويرسلونسفنهم إلى مدينة رابتا التي يقيم فيها ربابين وعملاء أكثرهم عرب تزاوجوامع أهلها، وأصبحوا خبراء في طبيعة أماكنها ولغتها. ويحتمل أن يكون هؤلاءالمعالمة الحميريون قد وصلوا إلى سفالة جنوبي مدينة بيرا الحديثة.‏
ب ـ السفرة الآسيوية في الطواف حول البحر الأحمر:‏
تتبعهذه الرحلة سواحل البحر الأحمر الحالي الشرقية، وساحل جزيرة العرب الجنوبيوتقطع البحر العربي الحالي حتى مصب نهر الهندوس، وتجاري ساحل ملبار حتىرأس كمهري، وتصعد على ساحل كورومنديل حتى مصب نهر الغانج، وتعطي فكرةموجزة جداً عن ساحل بورمة وتايلند حتى شبه جزيرة ماليزية. وتبدأ من لفكيكومي (القرية البيضاء: الحورة أو ينبع البحر) التي تستقبل السفن القادمةمن الجنوب ومن ميوس أورمس وتصلها طريق برية طولها 500 ميل بالبتراء عاصمةمملكة الأنباط ومقر مالخس. وتمتلك لفكي كومي سفناً وفيها مركز جباية ضرائبوحصن وحامية. ويليها ساحل الحجاز واليمن الشمالية الوسخ الخالي من البنادرالكثير القراصنة الذي تتحاشها المراكب وتعرّج على جزيرة الزبير البركانيةوقيل على جزيرة جبل الطير، على بعد 120 ميلاً شمالي غربي موزا.‏
وموزا(موشج أومخا) أعظم سوق في أعظم منطقة يمنية حضارة آنذاك، تشتهر بربابتنهاوبحارتها وسفنها. وتدير شؤون مستعمرة أزانياس العربية. وتقع في بلادالمعافر التي يحكمها خلبيس (كليب) من مدينة سفي (لعلها أذين) بالاتفاق معكرب إيل ملك حمير وسبأ المقيم في سفار (ظفار) قرب يريم الحديثة على بعد100 ميل تقريباً شمال شرقي مخا، وعلى طريق صنعاء.‏
وتذهبالسفن بعد موزا إلى أوكلس (الشيخ سعيد) "فالعربية السعيدة" (عدن)، التييليها ساحل حضرموت ويسكنه أكلة الأسماك حتى قنا (حصن غراب) في مملكةالبخور (مملكة اليازوس) أو العزيلط الواقع فيها رأس سيغرس (حرفياً رأسخرطوم الخنزير البري، وهو رأس فرتك) العالي الذي يشاهد من البحر عن بعد 60كم وتقابله جزيرة ذيوسكويذر (سقطرة) الخاضعة للعزيلط مثلما تخضع أزنياسلكرب إيل وملك المعافر.‏
ويمثلخليج سخليتس في رأي الجغرافيين القدامى الخاطئ فرضة واسعة وعميقة واقعةعلى جانبي رأس سيغرس على ساحل جزيرة العرب الجنوبي، بين رأس الكلب (عرض14ْ شمالاً، 45ً 48ْ شرقاً) ورأس حاسك (عرض 23ً 17ْ شمالاً، طول 10ً 55ْشرقاً) ويدعى القسم الشرقي منه بعد رأس فرتك خليج عمانة (خليج قمر اليوم)نسبة إلى بر عمان خلفه. ويتصل جبل القمر بجبل سمحان وراء بندر موسخاً(سلالة على الأرجح) ويعيش سكانه في الكهوف. وتظهر شرقي جبل سمحان جزرزينوبيوس (خوريا موريا) التي يسكن أهماج مقابلها على الساحل. ويقطن عربمقدسون من أكلة السمك في جزيرة سرابس (مصيرة) بعدها. ثم يتجه الشاطئ إلىالشمال باتجاه خليج عمان، وفيه تقع جزر كلايو (الديمانيات) التي لا يبصرسكانها في الليل.‏
ويبدأالخليج العربي الحالي، حسب الطواف، من جبل كالون (الجبل الأخضر علىالأرجح) وتنتصب عند مدخله جبال أسبون (بني عصب) وجبل سميراميس (لعله جبلكوه ـ أي ـ مبارك) وينتهي عند أبولوغو (الإبلة) وبسيتوخاركس (المحمرة)وفيه سوق عمانة الفارسية. وهنا يتم ما يتعلق بجزيرة العرب (الفصول 19 ـ36). وتستعرض الفصول 37 ـ 66 الباقية سواحل بلاد برسيده (فارس وكرمان)التي يحتلها الفرثيون، وبيلوشيستان وباكستان باختصار بالغ (في أربعةفصول)، ثم ينتقل المؤلف إلى سواحل شبه جزيرة كاثياوار وشبه جزيرة الدكن،ويتحدث عنها بشيء من التفصيل النسبي، ويختم كلامه بإشارة عابرة إلى الصينوالشرق الأقصى. ويذكر في الفصل 57 قطع السفن البحر العربي مباشرة منطلقةمن قنا أو رأس التوابل إلى بنادر ساحل الدكن الغربية.‏
للبحث صلة‏
الحواشي:‏
(1)اعتمدنافي أداء الأسماء اليونانية اللفظ اليوناني الشرقي الصحيح المستعمل فياليونان سابقاً لاحقاً، لا لفظ الأوربيين لهذه اللغة على طريقة أرسموس،ثالتة بلهجة البحارة (كيني) ولهجة أثنية، ثالسة باللغة اليونانيةالكلاسيكية.‏
(2) هيرودوتس، الكتاب الثاني.‏
(3)المجلة الجغرافية الأمريكية، مجلد 8، (1896)، ص 623. يناقض هيرودوتس نفسهفي مكان آخر عندما يقول أن نكاو باشر فتح القناة وأن داريوس أتمها والواقعأن سيتي الأول (1312 ـ 1298 ق. م.) من السلالة 19 شق هذه القناة ثم أصلحهانكاو الثاني، ونظفها داريوس، وسيأتي تفصيل كل ذلك فيما بعد.‏
(4)انحطت هذه القناة مع الزمن وتوقف استعمالها سنة 31 ق. م. إلى أن جاءالإمبراطور الروماني تراجانس وفتح حوالي سنة 106 ميلادية قناة ثانية تنتهيعند القلزم.‏
(5) بلينيوس، التاريخ الطبيعي، كتاب 6، فقرة 28.‏
(6) اسمها جزيرة ذيوسكوريذو باليوناينة، وهو تحريف الاسم السانسكريتي "دفييا سخاذاره" أي جزيرة السعادة أو مقر السعداء.‏
(7) سترابون، كتاب 17، 1 / 13.‏
( Cool

جواد علي، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الثاني ص 141 ومايليها وويلفريد هـ. شوف، الطواف حول البحر الأحمر، ص 11 ـ 12.‏
(9)مكسيم رودنسون، الأثيوبي والعربي الجنوبي، 2 ـ شرح كتابات جنوبية وعربيةقديمة، ص 202 ـ 204 وجاك ريكمنس، التسلسل الزمني لملوك سبأ وذي ريدان، ص11 وما يليها.‏
(10) جاكلين بيرين، مملكة قتبان العربية الجنوبية وتاريخها، ص 64 وما يليها.‏
جاكلين بيرين، قضية رئيسة في تاريخ الشرق، تاريخ الطواف حول البحر الأحمر، المجلة الآسيوية، 249، 1961 ص 441 ـ 459.‏
هـ. فون وزمن، آثار الجنوب العربي وجغرافيته القديمة، ص 13.‏
(11) ولتر وودبورن هايد، البحارة اليونان القدامى. ص 209 ـ 214.‏
(12) سترابون، 16.‏

مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 31 - السنة الثامنة - نيسان "أبريل" 1988 - شعبان 1408

» الأسماك الخطيرة في البحر الأحمر
» تقسيم الفصل الأول إلى مرحلتين واعتماد نظام الدوام الواحد في الجنوب
» "البحر الأحمر ""
» لفوائد العظيمة للزنجبيل
» في حالة فريدة من نوعها