أسطورة قتل الابن
وائل عبد الفتاحتبحث مصر عن قمر مفقود. الخبراء سافروا إلى أوكرانيا لمحاولة إعادة الاتصال بالقمر الصناعي «ايجيبت سات1». الاتصال مقطوع من 3 أشهر. والقمر لا يزال في مداره لكنه خارج سيطرة اجهزة التحكم. وحده في فضاء المعلومات اللانهائي بعدما فقدت «الإدارة» المصرية قدرتها على إدارته.
هل سرقته اسرائيل؟ اسرائيل فعلاً خافت منه ووصفته لحظة دورانه الاول في 2007 بأنه «قمر تجسس». لكن المتخصصين ركزوا على فكرة «الفشل» في ادارة المشروع الفضائي، وهجران شبه جماعي لخبراء تدربوا في أوكرانيا (الدولة المصنعة).
المفارقة أن القمر فُقد، بينما استعاد نظام مبارك قبضته القوية على حركة السياسة. كيف يمكن الفشل المتكرر في إدارة المشروعات الأساسية، من ملفات السياسة الخارجية إلى إدارة قمر صناعي، بينما يبدع النظام في سيطرته الناعمة على الحكم؟ هل هناك علاقة بين التركيز على إدارة مفاتيح السلطة والفشل في إدارة أساسيات الدولة الحديثة؟
أجهزة التحكم في كل تفصيلة من تفصيلات السلطة فعالة، بينما تتعطل أجهزة التحكم الأخرى، من انفجار الأسعار الى تدنّي مستوى الخدمات الاساسية الى ضبط العنف اليومي في الشوارع الى التخطيط من بعيد للحفاظ على طبقات اجتماعية مهددة بالانقراض.
الدولة تحدّث نفسها في مجالات السيطرة، وتعيش في عصورها المظلمة في الإدارة الحديثة. وهذا شعور الفزع العمومي في مصر من تحول النظام الى تنين يلتهم كل شيء في سبيل حياته.
النظام اعطى الضوء الاخضر لمرحلة جديدة، يرسم فيها المشهد السياسي بكل معطيات الخمس سنوات المسماة الآن «ربيع الديموقراطية». الربيع مفقود مثل القمر، لكن النظام يخطط لـ«ربيع..» جديد.
الربيع الاول كان تحت خطة: الفوضى بديل للديموقراطية. تسمح اجهزة النظام بممارسة السياسة على طريقة «الباعة المتجولين» في شوارع مصر، تتركهم يعرضون بضاعتهم على الارصفة ويصرخون عليها، لكنها تذكّرهم بوجودها كل فترة. يمر شرطي مرتدياً البدلة الرسمية، رمزاً للسلطة والنظام، فيحدث المشهد الذي تعرفه شوارع القاهرة جيداً: هرولة الباعة وهم يحملون بضاعتهم في هوجة لا تخلو من فزع الخروج عن النظام.
البيروقراطية هي السلاح الناعم الذي ينهي صفقة «الفوضى والديموقراطية»، حيث تستعيد اجهزة النظام مساحات الشغب، وتزيلها بسهولة مفرطة، من دون دماء، وبخطاب اخلاقي يعتمد على الخلط بين مساحات المعارضة ومساحات أخرى يبتذل فيها الدين ليصبح أداة في إشعال الفتن الطائفية. خلط متعمد بين مساحات معارضة النظام وقنوات متطرفة في شغل الجمهور بسحر الطوائف وقوة الشعوذة واللعب على الغرائز السهلة.
الحملة ذكية ومربكة، وخصوصاً أن مرحلة الفوضى أغرت الجميع في التورط بالدخول في صندوق القوانين العرفية، ووحدها أجهزة البيروقراطية تملك مفتاح الصندوق ودهاليز التخلص من كل محتوياته.
أما الربيع الجديد، فهو استثمار كل منتجات الربيع القديم، داخل خريطة جديدة، ستكون بروفتها الأولى في مجلس الشعب المقبل. الخريطة تعتمد على أدوات رئيسية من بينها:
1– تفعيل المعارضة النائمة في نعيم الصفقات الجاهزة لتبدو شرسة وقوية في الانتخابات المقبلة.
2 – محاولة الاتفاق مع رموز لامعة أفرزها ربيع الديموقراطية القديم، ليصار إلى حماية وصولها الى المجلس بضمانات عدم المساس بخطوط حمراء تخص الرئاسة والترتيبات الجديدة داخل النخبة الحاكمة.
3 – اعادة توزيع الثروة بما يسمح للنظام بتصفية جناحه المالي عبر حملات موازية للحملة السياسية تخص الأراضي التي كانت مملوكة للدولة.
4 – دفع عدد من أهل الثقة الى تأسيس كيانات إعلامية جديدة تشغل المساحات الفارغة وتعيد بناء المشاهد والصور لواقع السياسة في مصر.
5 – تغيير بنية الحزب الحاكم بإضافة عناصر من مؤسسات الدولة القديمة، أو تلك القادرة على ملء الفجوة بين الحرس القديم والجديد.
هذه الحملات تقوم على اسطورة قتل الابن، حيث يستعيد فيها الرئيس حسني مبارك جمهوريته من ورثته، ليرضي الشعب الغاضب من حكم العائلة.
هذه هي الأسطورة المنتشرة بوصفها خلفيةً للهجوم على الربيع. وتبدو مرضية لشريحة واسعة من معارضة لم يشغلها إلا مشروع جمال مبارك للوصول الى مقعد أبيه.
النظام يقول لهؤلاء: استبعدنا الابن وعليكم الرضا بمرحلة نهاية الفوضى، وعودة الدولة إلى هيبتها، والإعداد لفترة جديدة، يمد فيها في عمر النظام، ويحسمها خلال الست سنوات المقبلة الأقدر على فرض قوته على الثروة والسلطة.