الحضارة طريقة حياة نشأت بعد أن بدأ الناس يعيشون في مدن أو مجتمعات نُظمت في شكل دول. الحضارة تشمل الفن والعادات والتقنية وشكل السلطة وكل شيء آخر يدخل في طريقة حياة المجتمع. ومن هذا المنظور فإن الحضارة مماثلة للثقافة. ولكن الثقافة تشير إلى وسيلة ما من وسائل الحياة وتشمل أسلوب الحياة البسيطة والمعقدة، أما كلمة الحضارة فتشير فقط إلى أساليب الحياة التي تتصف بنظم اقتصادية وحكومية واجتماعية معقدة.
ولذا فبالرغم من أن كل إنسان يعيش في إطار ثقافة ما، إلا أنه لا يعيش كل فرد في إطار حضارة معينة. انظر:
الثقافة.
وعلى مدار التاريخ لمعت حضارات فردية وعلت ثم انهارت، ولكن السمات الأساسية للحضارة لا تختفي. تنتشر الأفكار والاختراعات من حضارة إلى أخرى، وفي كثير من الأحيان يحدث تطور مشابه مستقل في حضارات مختلفة.
كيف تتطور الحضارات على مدى فترة ماقبل التاريخ، كان الناس يعيشون في جماعات صغيرة ويتنقلون من مكان لآخر بحثًا عن الطعام. كانوا يصطادون الحيوانات والأسماك ويجمعون النباتات البرية، وهؤلاء القدامى كان لديهم تنظيم اجتماعي بسيط يقوم على الروابط العائلية. وقرابة عام 9000 ق.م، بدأ الناس في الشرق الأوسط في زراعة الغلال والحبوب ونباتات أخرى،
واستأنسوا الماعز والغنم. والماشية أيضًا.
وفي جنوب شرقي آسيا، بدأ الناس في زراعة المحاصيل نحو عام 7000 ق.م. وتعلم الناس الذين كانوا يعيشون فيما يسمى الآن المكسيك، زراعة الحبوب قرابة عام 7000 ق.م. وكان قيام الزراعة خطوة كبيرة في تطور الحضارة. استقر الفلاحون في قرى دائمة حيث يمكنهم زراعة طعام يكفيهم ويكفي آخرين من أصحاب الحرف والكهنة. وكان النقص في الطعام على فترات من أسباب زيادة التجارة حيث تبادلت القرى فيما بينها الحبوب والفخار وبعض المواد الأولية الأخرى.
تعلم الناس في الشرق الأوسط نحو عام 3500ق.م صَهْر النحاس وصنع أدوات من البرونز وأسلحة، وزاد الطلب على المعدن الخام، واكتسب الكهنة ورؤساء القبائل سلطات أكبر على التجارة، وتحولت القرى في الشرق الأوسط إلى مدن تدريجيًا وأصبحت المزارات الدينية والأماكن المقدسة التي ازدهرت أماكن احتفالات، ومراكز للسلطة الاقتصادية والسياسية في المدن الناشئة.
وتطورت بعض الحضارات بطريقة مستقلة في أماكن متفرقة من العالم. فقد بزغت أقدم الحضارات عام 3500ق.م. في الشرق الأوسط، في وادي دجلة والفرات وفي وادي النيل في مصر والسودان، ووادي السِّنْد فيما يسمى الآن باكستان، ووادي هيانج هي في الصين. نشأت هذه الحضارات القديمة في بيئات طبيعية مختلفة تمامًا، وأنشأ الناس أنظمة للكتابة ونظمًا جديدة للحكم، وأحرزوا تقدمًا في العلوم والتقنية وتفوقوا في الحرف المهنية والفنون. للتعرف على وصف هذه الحضارات وحضارات أخرى سابقة. انظر:
العالم، تاريخ .
لماذا تقوم الحضارات وتنهار أبدى الفلاسفة والمؤرخون وعلماء الآثار القديمة أسبابًا كثيرة لقيام الحضارات وانهيارها. وقد شبَّه جورج و. ف. هيجل الفيلسوف الألماني في أوائل القرن التاسع عشر المجتمعات بالأفراد الذين ينقلون شعلة الحضارة من واحد إلى الآخر، وفي رأي هيجل، أنه خلال هذه العملية تنمو الحضارات في ثلاث مراحل: 1- حُكْم الفرد. 2- حُكْم طبقة من المجتمع. 3- حُكْم كل الناس. وكان هيجل يعتقد أن هذا النسق تسفر عنه الحرية فى آخر الأمر لجميع الناس.
كان الفيلسوف الألماني أوزوالد سبنجلر يعتقد أن الحضارات مثلها مثل الكائنات الحية تولد وتنضج وتزدهر ثم تموت. وفي كتابه
انحدار الغرب (1918 – 1922م) ذكر أن الحضارة الغربية تموت، وسوف تحل محلها حضارة آسيوية جديدة.
وعرض المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي نظريته عن التحدي والاستجابة في كتابه
دراسة التاريخ1 (1934ـ 1961م). كان توينبي يعتقد أن الحضارات تقوم فقط حيث تتحدى البيئة الناس، وحينما يكون الناس على استعداد للاستجابة للتحدي. على سبيل المثال، فإن الجو الحار الجاف يجعل الأرض غير مناسبة للزراعة ويمثل تحديًا للناس الذين يعيشون هناك. ويمكن أن يستجيب الناس لهذا التحدي ببناء أنظمة ري لتحسين الأرض. ورأى توينبي أن الحضارات تنهار حينما يفقد الناس قدرتهم على الابتكار. انظر:
توينبي.
ويذهب معظم علماء الآثار القديمة إلى أن بزوغ الحضارات يرجع إلى مجموعة من الأسباب تشمل البناء السياسي والاجتماعي للحياة والطريقة التي يكيف بها الناس البيئة المحيطة بهم والتغيرات التي تطرأ على السكان. وفي كثير من الحالات، يمكن أن تظهر الحضارات لأن رؤساء القبائل المحليين اتخذوا خطوات متعمدة لتقوية نفوذهم السياسي. ويعتقد كثير من العلماء أن سوء استخدام الأرض والمصادر الطبيعية الأخرى أسفرت عن الانهيار الاقتصادي والسياسي للحضارات الأولى.
الحضارة الإسلامية العربيةالحضارة العربية. ورد ذكر العرب عند مؤرخي الحضارة قبل منتصف القرن الرابع ق.م. بكثير، تعود الحضارة العربية في التاريخ القديم إلى سنوات ما قبل الإسلام. فالأرض العربية، وهي تشكل جزءًا من حوض البحر الأبيض المتوسط، بقيت فترة طويلة تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية. ومع القرن الرابع، حلت القسطنطينية محل روما في حكم تلك المنطقة، فيما كان الساسانيون يحكمون الجزء الشرقي الممتد من العراق إلى إيران إلى آسيا الوسطى. وكان اليمن طريق القوافل، مما أغرى الكثيرين بالسكن فيه أو حوله أو على الطرق المؤدية إليه. ومن اليمن، أخذت الموجة السكنية تنمو وتمتد إلى سائر شبه الجزيرة العربية حيث كان السكان، وسط فيافي تلك الصحراء يتكلمون لهجات عربية مختلفة. وعند اندلاع الحروب الطاحنة بين البيزنطيين والساسانيين، أخذ بنو لخم أو المناذرة، جانب الفرس الساسانيين، بينما حالف بنو جفنة، أو الغساسنة، البيزنطيين. ثم أخذ السكان ينزحون، لاشتداد الحروب من شمالي شبه الجزيرة العربية ووسطها، إلى المنطقة التي سماها ابن بطوطة
الهلال الخصيب، مما أدى إلى تفاعل سكاني كبير، ومن هذا التفاعل الحضاري غنمت الحجاز حصة كبرى بفضل موقعها واحتوائها الواحات التي كانت محط أنظار السكان في ذلك الزمان. وكان ذلك العصر قد عرف في القرنين الخامس والسادس الميلادي تطورًا نحو الاستقرار المدني، وبالتالي نحو إرساء معالم حضارية مع ممالك عربية توزعت عبر الجزيرة العربية.
فجر الإسلام. غير أن فجر الحضارة العربية الحقيقية لم يطل إلا مع
الدعوة الإسلامية عام 622م. ذلك أن
النبي (³) بنى أسس دولة حضارية متينة مستمدة من روح القرآن الكريم، ومن تعاليمه التي نزلت وهي للدين والدنيا معًا. ولهذا قيل إن الإسلام جاء قوة جديدة في عالم قديم.
مع الدعوة الجديدة والفتح الإسلامي اتجه الناس نحو عبادة الإله الواحد، والانتظام في قوانين ودساتير مدنية نظمها القرآن الكريم. فبدأ العرب ينضوون تحت لواء الإسلام، وينتظمون فيما أخذ يشكل هيكلية الدولة الحقيقية. وبين انطلاق النبي محمد ³ من مكة وهجرته إلى المدينة، ثم منها إلى العالم العربي إلى أن بلغ الإسلام بعد ذلك أقصى أنحاء العالم، ترسخت أسس حضارة إسلامية في عقل الإنسان الفرد وقلبه، وفي ضمير الجماعة.
أسس حضارة الإسلام. كانت فترة ظهور الإسلام الفترة التي أعادت صياغة الإنسان في الجزيرة العربية، وأرست لبنات حضارة جديدة أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، ووضعت الأساس لبناء الإنسان في الإسلام. وكان الوحي هو الذي يعيد صياغة الفرد في معتقداته وأفكاره ويزكيه وينشئ الروابط ويؤسس الصرْح الذي يقوم عليه بناء الأمة. ولاتزال نصوص الوحي وسيرة الرسول ³ ـ قائد هذه المسيرة ـ هي التي تحكم حضارة الأمة الإسلامية وتقوِّمها.
ومن أبرز الأسس التي قامت عليها الحضارة الإسلامية في العهد النبوي:
عقيدة التوحيد. لقد أرسى الإسلام مفهومًا للتوحيد عندما خاطب مشركي مكة ذاكرًا لهم أنه لايكفي ما هم عليه من توحيد الربوبيّة، أي الإقرار بأن اللّه هو ربُّ كل شيء وخالق كل شيء، بل لا بد أن يقترن هذا الإقرار بالتوجه بالعبادة لله وحده لا شريك له من مخلوقات الله.
وترتَّب على هذا التوحيد آثار إيجابية في بناء المسلمين، لأن الناس عندما تُقبل على الخضوع لله وحده تحّل الحلال وتحِّرم الحرام، وتجاهد في سبيل الله لإرساء قيم الحق والعدل والمساواة والكرامة والعلم النافع.
وُيخبرنا التاريخ الإسلامي أن العقيدة الإسلامية هي التي أفرزت بطولات نادرة، وجعلت المسلمين ينتصرون على شهواتهم، ثم يصمدون أمام قوى البغي والعدوان في مكة، وينتصرون في الغزوات والسرايا التي انطلقت من المدينة المنَّورة.
ومن يتابع أبحاث المستشرقين المنصفين يلحظ أنهم يقفون مندهشين أمام هذه الظاهرة الإيمانية القوية في الحضارة الإسلامية ويقدرونها، ومثال ذلك قول جوته: إذا كان الإسلام هو التسليم لله، فكلنا بالإسلام نحيا ونموت. ويرى نيتشه أن الغرب ما يزال فقيرًا بالنسبة لروحانية الإسلام السامية.
وحدة الأمَّة. جعل الإسلام رابطة العقيدة الأصل الذي يجتمع ويتفرق عليه الناس، ورفض كل العصبيات: الطبقية والقومية والعنصرية والقبلية، وما شابه ذلك. يقول الله تعالى : ﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ الحجرات: 13 ويقول أيضًا: ﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيرًا ونساء ﴾ النساء:1 ويقول الرسول ³ (
أيها الناس: إن ربكم واحد،
وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب،
إن أكرمكم عند الله أتقاكم،
ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).
إن اعتراف الإسلام بوحدة الأصل وبناء علاقات الناس على هذا الأساس نزعة إنسانية حضارية بارزة في تشريعات الإسلام المختلفة. فمثلاً: يقف الناس جميعًا في الصلاة بين يدي الله متراصيِّن، لا مكان مخصص لحاكم أو غني. ويلبسون زيًا واحداً في الحج، ويؤدون المناسك جميعها بعضهم مع بعض.
العدل. لقد عبرت بعض نصوص القرآن والسنة عن العدل، وطبّقه الرسول ³ والصحابة (رضي الله عنهم). ومن الأمثلة القرآنية: قول الله تعالى: ﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾ النساء: 58 وقوله: ﴿ ولا يجرمنكم شنئآن قوم على ألا تعدلوا ﴾ المائدة: 8 ، وقوله: ﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم .﴾ الممتحنة: 8
ومثال ذلك ما جاء في السُّنة، من قول الرسول ³ (
إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم ما ولوا) رواه مسلم. وذم الله والرسول الظلم.
ومن الأمثلة التطبيقية للعدل موقف الرسول ³ من حبِّه وابن حبِّه أسامة بن زيد بن حارثة، وقد جاء مستشفعًا في امرأة مخزومية سرقت وتقرر قطع يدها، فأهَمَّ ذلك قريشًا، فطلبوا من أسامة الشفاعة لدى الرسول ³ في هذا الشأن، فقال له الرسول: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟”! والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ). رواه البخاري ومسلم.
العلْم. جاء الإسلام ليعيد ترتيب العقل الإنساني، ثم يُطلقه ليعرف ربَّه من خلال آياته في الكون والنفس بقصد البناء. وكان أول ما نزل من الوحي يختص بالعلم، وهو قوله تعالى : ﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ القلم:1
وامتن الله على محمد ³ بالعلم في مواضع كثيرة من القرآن، وامتن على المسلمين بأن بعث فيهم محمدًا ³ رسولاً كما في قوله تعالى: ﴿ لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ﴾ آل عمران:164 وفضَّل الله العلماء على غيرهم.
ومن دلائل اهتمام الرسول ³ بالعلم، أنه جعل فداء بعض أسرى بدر تعليم الواحد منهم عشرة من أبناء الأنصار القراءة والكتابة. ووردت أحاديث كثيرة في الحث على تحصيل العلم النافع، مما كان له الأثر الفعال في بناء حضارة إسلامية رائدة.
الجهاد. كان الجهاد ـ بجميع ميادينه ومعانيه ـ أعظم وسيلة وأقوى أساس لتحقيق العمل بالدين بما في هذا نشر مبادئ العدل والمساواة والإخاء والحرية وحماية الدين بالنفس والمال. ولذا رغَّب فيه الإسلام ترغيبًا شديدًا، حين جعل ثواب المجاهدين الشهداء في المرتبة الأولى من مراتب الأعمال الصالحة.
والتزم النبي ³ بالعهود والمواثيق في جهاده ضد المشركين في حالتي الحرب والسلم، مهما كلّفه ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها أن جماعة من المسلمين المستخْفِين بإسلامهم خرجوا من مكة للحاق بالمسلمين بالمدينة أثناء حصار الأحزاب لها، ولكن لم يسمح لهم كفار قريش بدخولها، إلا إذا التزموا بعدم الحرب مع المسلمين. فلما أخبروا الرسول ³ قال: (
نفي بعهدهم ونستعين بالله عليهم) رواه مسلم. وعندما هاجر إلى المدينة، خلَّف وراءه عليًا ليؤدي عنه أمانات الكفار التي كانت بيده، ولم يستحل لنفسه الاستيلاء عليها.
الأخلاق الفاضلة. إن آيات القرآن دستور شامل لتربية الأفراد والجماعات تربية صحيحة في شتى مجالات الحياة، وهذا ما حدا بالمستشرق كارليل إلى أن يقول: “إن الإحساسات الصادقة الشريفة والنيات الطاهرة الكريمة تظهر في فضل القرآن والفضل الذي هو أول وآخر فضل وُجد في كتاب ونتجت عنه جميع الفضائل على اختلافها “.
كانت كل القيم التي أسست لقيام الحضارة الإسلامية في العهد النبوي من آثار تلك التربية الإسلامية الصحيحة للفرد والجماعة.
وتميزت هذه التربية التي بدأت بدار الأرقم بن أبي الأرقم بمكة بأنها
تربية أخلاقية شمولية تتناول كل شأن من شؤون المسلم، وبأنها قرنت القول بالعمل، وبدأت تنمية الشعور بالمسؤولية الفردية والجماعية تجاه نصرة دين الله . وكان لحمتها وسداها الأخلاق الإنسانية الراقية التي يلحظها الإنسان في جميع أحكام الإسلام من فروض وسنن ومندوبات ومستحبات. وتمثل ذلك كله في شمائل الرسول وصحابته. ويدرك الناظر في كتاب ” الأنوار في شمائل النبي المختار ” للإمام
البغوي هذه الحقيقة، إذ يكفي دلالة أن تعلم أنه أورد 1257 حديثًا وأثرًا، معظمها في
الأخلاق.
العمل. لما كان العمل هو الذي يشيّد صرح الحضارة، فقد علّم الإسلام المؤمنين المثابرة على العمل، وكان الرسول ³ يتعوّذ من العجز والكسل، وقرر عليه الصلاة والسلام أن الذي يخرج لطلب الرزق لأبويه الشيخين أو لذريته الضعاف أو ليعفّ نفسه من مذلة السؤال، فهو في سبيل الله.
وارتقى الإسلام بالعمل إلى مرتبة العبادة، إذْ جعل أي عمل يبتغي فيه المؤمن وجه الله عبادة.
وحثّ الإسلام الناس على العمل لعمارة الأرض في شتّى الميادين الاقتصادية مثل: استصلاح الأرض الموات، انطلاقاً من قول الرسول ³: (
من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق). ولذا شهدت وقائع التاريخ الإسلامي حركة عظيمة لاستصلاح الأرض وتحسين أساليب الزراعة وتنويع المزروعات، ومثل التعدين والإنتاج الصناعي، انطلاقاً من توجيه القرآن أنظار المؤمنين إلى أهمية المعادن وفي مقدمتها الحديد: ﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ﴾ الحديد:25 ، ومثل النشاط التجاري الذي انطلق من حث الله الناس للضرب في الأرض ابتغاء فضله.
الوعي بالزمن. لا يختلف اثنان مع المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي ـ يرحمه الله ـ في تحليله لشروط النهضة الحضارية عمومًا حين قال: إن مشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية؛ مشكلة الإنسان ومشكلة التراب ومشكلة الوقت. فالإسلام يربّي الإنسان المؤمن به على محاسبة نفسه على كل لحظة يعيشها واستغلال كل لحظة للصالح العام والخاص. قال عليه الصلاة والسلام: (
من أحس قيام الساعة وبيده فسيلة فليغرسها)، ومن أول ما يُسأل عنه المرء يوم القيامة عمره فيم أبلاه.
عصور الحضارة الإسلامية. في السنة الحادية عشرة للهجرة، توفي النبي ³ ولحق بالرفيق الأعلى بعد أن حج حجة الوداع. وجاء بعده الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر الصديق فعمر بن الخطاب فعثمان بن عفان فعلي بن أبي طالب. وقد جعلوا اهتمامهم نشر رسالة الإسلام على هدي الرسول ³ واتسعوا في فتوحات البلدان ونشر رسالة الإسلام.
وفي عام 41 هـ، انتقلت الخلافة إلى دمشق مع الخلفاء الأمويين الأربعة عشر، الذين ركز معظمهم على إرساء معالم الحضارة الإسلامية. وفي عصرهم، تطور الشعر بأنواعه والنثر وفنونه (خطابة، كتابة) كما ازدهرت بعض نواحي العلوم والموسيقى والغناء. ومع الأمويين، اتسع العالم الإسلامي صوب مشارق الأرض ومغاربها، وعرف عهدهم تراثًا عربيًا مزدهرًا. وقد بلغت فتوحاتهم إفريقيا الشمالية والمغرب، ثم عبروا إلى أسبانيا (الأندلس)، فأنشأوا فيها حضارة إسلامية راسخة لا تزال آثارها باقية حتى اليوم.
في عام 132 هـ، انتقلت الخلافة من دمشق إلى بغداد مع الخلفاء العباسيين السبعة والثلاثين الذين انقسم عصرهم إلى أربعة حقب زاخرة. ذلك أن الخلافة الإسلامية بلغت معهم أقصى مداها. ففي العصر العباسي، اتخذت الدولة شكلاً متطورًا، وعرف المجتمع الإسلامي عصره الذهبي. وكان من أواصر هذا التقدم الحضاري قيام المجتمع الإسلامي على ثلاث وحدات: وحدة الدين، ووحدة الاقتصاد، ووحدة اللغة. وفي ذلك العصر، قامت المذاهب الفكرية التي تعالج قضايا الشريعة والعقل مستمدة مواقفها من روح القرآن الكريم. ويمكن القول إن العصر العباسي حقق اتساعًا في النواحي الدينية والمدنية كافة.
من أبرز مآثر العصر العباسي تأسيس
بيت الحكمة على عهد
المأمون. وقد كان تجمعًا لكبار المفكرين والمترجمين والعلماء، وفيه بدأت عمليات الترجمة من اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية. حيث تم ترجمة وتأليف الكثير من كتب الفكر والعلوم، مما أهل المسلمين لاستقبال الفكر الإنساني في أبلغ مصادره، وإلى جانب أنشطة الشعر والنثر، برز أدب السيرة والرواية والتصنيف الأدبي وفقه اللغة والمعاجم والنحو والعلوم الدينية والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والطب والفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية والغناء والموسيقى. ويمكن القول إن العصر العباسي رفد الحضارة الإسلامية بالعلوم وشتى مجالات المعرفة. وهو ما ظهر أثره لاحقًا على الفكر العالمي والإنتاج الغربي. انظر:
العلوم عند العرب والمسلمين.
أصيب العصر العباسي بنكبة حضارية كبرى حين أقدم الفاتح المغولي هولاكو على إحراق مكتبة بغداد، فدخلت الحضارة العربية عصرًا أطلق عليه بعض الدارسين
عصر الانحطاط.
إشعاع الحضارة الإسلامية. بين القرنين السابع والثالث عشر الميلاديين، أقام المسلمون حضارة عالمية جعلتهم في طليعة الشعوب الحضارية. وقد جمعت حضارتهم أسبانيا وإفريقيا الشمالية في الغرب إلى شعوب العالم القديم من مصر إلى سوريا إلى بلاد ما بين النهرين في الشرق. وكان واضحًا أن سرعة انتشار الإسلام هي التي عجلت في ربط أجزاء الخلافة الإسلامية. هكذا كان الإسلام هو المحرِّك وكانت اللغة العربية هي الصلة.
إنجازات الحضارة العربية الإسلامية. حققت الحضارة الإسلامية العربية في فترة ازدهارها الكثير من الانجازات في ميادين المعرفة المختلفة، خصوصًا في مجالات الرياضيات والفلك والطب والعمارة والجغرافيا والفيزياء والهندسة.
في الرياضيات. اخترع الخوارزمي، أحد منجمي المأمون، علم الجبر وانتشر العلم بفضله في العالم. وأخذت أوروبا في الرياضيات عن العرب مفهوم الصفر ونظام التقويم والنظام العشري (الذي دفع بعلم الرياضيات خطوات إلى الأمام) والأرقام العربية التي هي اليوم أوسع الأرقام انتشارًا في العالم. انظر:
الخوارزمي، أبو أحمد.
في علم الفلك. شهد علم الفلك ظهور الأسطرلاب العربي الذي أوجده العلماء المسلمون لتحديد أوقات الفجر والمغرب والصوم، ثم طوّروه فاكتشفوا خطوط الطول والعرض وسرعة الصوت والضوء، حتى أصبح ذلك مرجعًا لعلماء الغرب. وتمكن
البيروني من اكتشاف دوران الأرض حول الشمس، وهو ما أثبته جاليليو بعد ستة قرون. وترجم الفلكيون العرب الزرقالي والفرغاني والفزاري مؤلفات بطليموس في الفلك وأضافوا إليها ما بات مرجعًا بعدهم للفلكيين الغربيين. انظر:
البيروني.
في الطب. تفوق العرب في فنون الشفاء التي كانت معروفة في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين. وكانت مؤلفات الرازي المتقدمة في الطب مرجعًا للأوربيين حتى وقت متأخر من القرن السادس عشر الميلادي، كما ظل الأوروبيون حتى القرن السابع عشر يتعلمون من نظريات ابن سينا الطبية. وكان ابن سينا أول من أشار إلى الطب العقلي، وهو ما أصبح فيما بعد أساسًا لعلم النفس. واشتهر عند العرب أيضًا أمر التداوي بالأعشاب والمواد الطبيعية (من ثوم ومُر وعصير جلاب وماء الزهر، إلخ) فكانت تزخر بها صيدلياتهم ومنها انتشرت إلى الشرق الأوسط فأوروبا. انظر:
ابن سينا؛
الرازي، أبو بكر محمد.
في العمارة. عرف المسلمون طرازًا معماريًا تجسد في بناء المساجد، مما عده الغربيون نماذج هندسية في فن البناء. ويعترف علماء الغرب أن الجامع الأموي في دمشق وجامع ابن طولون في القاهرة كانا أساسًا لبناء عدة كاتدرائيات ضخمة في أوروبا. وقد تأثر فن البناء الغربي كثيرًا ببناء المآذن والأقواس والقناطر والأهِلة والأطراف والمثلثات والمنحنيات المعكوسة وهندسة القباب والمكعبات، مما أخذه الأوروبيون عن مساجد مكة والقدس والقاهرة ودمشق. وكان لفن الزخرفة والخط والنقوش تأثير كبير على الأوروبيين، خاصة ما تركه العرب في الأندلس (كقصر الحمراء والجامع الكبير في قرطبة).
في الملاحة والجغرافيا. كان للعرب تأثير كبير على الغرب. وقد أخذ العرب من الكنعانيين، أسياد البحر، ومن قدامى المصريين، ما أعانهم على تطوير البوصلة. وبرع الإدريسي في القرن الثاني عشر الميلادي بابتكاراته ومكتشفاته، حيث وضع أول أطلس في العالم، حاويًا سبعين خريطة، بعضها لمناطق لم تكن معروفة من قبل. وكانت رحلات ابن بطوطة وتدويناته خير معين للأوروبيين على معرفة مناطق جغرافية لم يكونوا يعرفونها. وفي القرن السادس عشر تمكن حسن الوزان من كشف مجاهل إفريقيا ويدين له الغرب بذلك، ويُعْرَف عندهم باسم ¸ليون الإفريقي·. وفي رحلات فاسكو دي جاما الشهيرة كان الملاح العربي أحمد بن ماجد هو البحار الرئيسي في القيادة. ويقال إن كريستوفر كولمبوس كان يتكل على بحار عربي في توجيه حملته البحرية التي أدت إلى اكتشاف أمريكا. انظر:
الإدريسي، الشريف؛
ابن بطوطة .
في فن الجنائن والحدائق. واشتهر العرب كذلك بفن الجنائن والحدائق. وقد بات كتاب
الفلاحة الأندلسية لابن العوام مرجعًا أوروبيًا في علم النبات لأنه وصف فيه نحو خمسمائة نبتة وبيَّن طريقة زراعتها والاعتناء بها وبالأرض والتربة. وكذلك ظل الأوروبيون لوقت طويل يستفيدون من العرب خاصة الأندلسيين في فنون حفظ الخضراوات والفواكه والأزهار ومواد التجميل ومساحيق الوجه والعطور والتطيب والجواهر والحُلي.
في علوم الفيزياء. أفاد الأوروبيون، من ناحية أخرى، في علوم الفيزياء ـ وتحديدًا حقل البصر والبصريات ـ من مؤلفات الكندي وابن الهيثم. انظر:
الكندي، أبو يوسف؛
ابن الهيثم، أبو علي . في الحرفيات الدقيقة والمنمنمات. برع العرب في الحرفيات الدقيقة والمنمنمات، وفي الزجاجيات والخزف والحفر والبلَّور ومزج الألوان وصباغة الحرير والأقمشة والجلود والدباغة وصقل الحديد. ومازالت بعض هذه الخامات والحرف تحمل في الغرب اسمها الأصلي (دمقس، حرير دمشقي، دباغة مغربية، أزرق محمدي). ويردها بعض الغربيين صراحة لأصلها العربي.
في الموسيقى وآلاتها. طور العرب في الموسيقى وآلاتها، فعرف الغرب الكثير منها. وما زالت حتى اليوم آلات عديدة (القيثارة، الطبلة، الزار، الناي، المزمار، مزمار القربة إلخ…) معروفة على أنها تطوير غربي للآلات الموسيقية العربية. كما أخذ الأوروبيون الكثير من الألحان العربية التي كانت شائعة في غناء القصائد العربية في قصور الملوك.
في الفلسفة. نقل المفكرون العرب أهم مصادر الفلسفة المشرقية واليونانية القديمة ترجمة وتطويرًا، فاشتهر الكندي بتطوير فلسفة أفلاطون وأرسطو، والفارابي بفكرة المدينة الفاضلة، وابن سينا بفلسفته العقلية، وابن خلدون بنظرياته الاجتماعية التي لاتزال حتى اليوم في أصل مؤلفات الكثيرين من الفلاسفة الاجتماعيين الغربيين. وبرز ابن رشد بفلسفته التي ارتكز عليها بعده فلاسفة غربيون كبار.
وقد أخذ الغربيون كذلك جمالية الخط العربي متأثرين باللغة العربية نفسها، لذلك دخلت كلمات وعبارات عربية كثيرة إلى عدة لغات أوروبية، ولا تزال حتى اليوم في نسيج هذه اللغات (الإنجليزية، الفرنسية، الأسبانية، الإيطالية، الألمانية). وقد أثرت مؤلفات عربية مثل
حي بن يقظان لابن طفيل،
وألف ليلة وليلة،
ومقدمة ابن خلدون، إلخ… في الفكر الغربي. انظر:
الكندي، أبو يوسف؛
ابن خلدون . هكذا نجد أن المسلمين ساهموا في إعلاء الحضارة العالمية وتقدمها وتطورها، بفضل أعلامهم في العلوم والفنون والتربية والفلسفة والشعر والموسيقى. وفي مكتبات العالم اليوم آلاف الوثائق التي تشهد بالفضل للمنجزات الحضارية الإسلامية في حقول الفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب والصيدلة والجغرافيا والعمارة والموسيقى، وما كان لهم من تأثير في تصنيع النسيج والورق والدهان والصابون والحبر والشمع والسكر والنشاء والزيوت النباتية والعطور والبارود، وكذلك في اكتشاف أو تطوير الميزان ورقاص الساعة والساعة المائية والطاحونة المائية والهوائية والآلات الفلكية وأجهزة سكب المعادن وصك النقود والمعدات الحربية والأدوات الطبية والجراحية، وكذلك بناء الجسور والقنوات المكشوفة وجر المياه والتدفئة والتبريد وأنظمة الري والحمامات العامة وأبراج المراقبة والتحصينات العسكرية، وسواها من المنشآت والإنشاءات والابتكارات والاكتشافات التي يعترف الغرب اليوم بفضلها للعرب وحضارتهم.
وبهذا تكون الحضارة العربية الإسلامية قد قدمت للحضارة العالمية إسهامات رئيسية مايزال العالم يستخدمها اليوم، مدينًا بها للعرب بالسبق والابتكار.
الحضارة الإسلامية في الأندلس . فَتحَ العرب المسلمون بلاد الأندلس بقيادة طارق بن زياد في رمضان عام (92هـ – 711م)، بعد أن انتصروا على جيوش القوط، وأسّسوا دولة إسلامية حكمت ثمانية قرون من الزمان، تمتد من نهاية القرن الأول حتى نهاية القرن الثامن الهجري (92 – 798هـ)، الموافق للفترة من القرن الثامن حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي (711 – 1492م).
وقد أدّت الأندلس، في عهد ولاتها الذين شجَّعوا العلم ورعوا حقوق العلماء، دورًا مهمًا في نقل الحضارة العربية الإسلامية من المشرق إلى المغرب، فقامت بلادُ الأندلس بحمل مشاعل الفكر والمعرفة مضيئة ما حولها من ظلام الغرب وتخلّفه، قبل أن يبدأ ما عُرف بعصر النهضة، الذي كانت أوروبا تعيش قبله في جهل وظلام فكري وروحي.
وقد تمّيزت الحضارة العربية الإسلامية بالأندلس بمقومات عدّة أهمها: أ – العقيدة: وهي الدين الإسلامي. ب – اللّسان: وهو اللغة العربية.
ومن ثَمّ اختلفت عن كل الحضارات التي سبقتها أو لحقت بها، إذ إن هويتها إسلامية عربية، فهي تحلِّق بهذين الجناحين اللذين لا تشاركها فيهما حضارةٌ أخرى. وهي ـ بعد ـ تَحْمِل قيم الإسلام وعزّته مع فصاحة اللّسان العربي وبيانه.
أدّى تاريخ الأندلس السياسي دورًا كبيرًا ـ سلبًا وإيجابًا ـ سواء في ازدهار هذه الحضارة ونموّها، أو في تقلصها وانكماشها. وعرفت الحضارة الأندلسية تطورات مختلفة من القوة والضعف، وصلت بها إلى ذروة قوتها ونضجها في عهد الخلافة الأُموية أيام حكم الخليفة عبد الرحمن الناصر (300هـ ـ 350هـ، 912 ـ 961م)، وابنه الحَكَم (350هـ ـ 366هـ، 961 ـ 976م).
عرفت الاندلس في هذا العصر شعراء كبارًا كابن عبدربه وابن هانئ وكبار مؤرخيها كالرازي وابن القوطية، كما عرفت فن التأليف الموسوعي
كالعقد الفريد، وظهرت في هذا العصر المُؤَلَّفات الفلسفية على يد ابن مسَّرة. كما حظيت الدراسات العلمية في مجال الفلك والرياضيات باهتمام طيب وإن كان أقل شأنًا من الاهتمام بالدراسات الأدبية. وبلغ الاهتمام بالعلوم الدينية والشرعية، فظهر محدِّثون وفقهاء ومفسرون من الأعلام. ولعل ما بلغته مكتبة الخليفة الناصر من ثراء وغنى يُعَدُّ دليلاً على تلك النهضة الحضارية الشاملة التي عاشتها الأندلس في هذا العصر.
ولما انهارت الخلافة الأموية، انقسمت الأندلس إلى إمارات وطوائف، وظلت شمس الأدب والفكر ساطعة رغم تطاحن هذه الدول. وعرفت الأندلس في هذه الفترة المضطربة طائفة من أعظم مفكريها وأدبائها وشعرائها. فقد كان أكثر حكام الطوائف وأمرائها من رجال الفكر والأدب، ومن ثمّ حظيت الحركة الثقافية بتشجيعهم وحفزهم لها. من أشهرهم حاكم أشبيليا الشاعر المعتمد بن عباد وكذلك المُظَفَّر وابنه المتوكل، ثم المعتصم بن صُمادح أمير ألمريِّة والمقتدر والمؤتمن من بني هود في سرقسطة. كما برز الفقيه العالم
ابن حزم (ت 456هـ)
وابن حيَّان مؤرخ الأندلس (ت 469هـ)
وابن زيدون درة الشعر والشعراء (ت 469هـ) وغير هؤلاء كثيرون.
وعندما استولى المرابطون على الأندلس بقيادة يوسف ابن تاشفين (493 – 541هـ ، 1099 – 1146م)، تألقت بعض الأسماء اللامعة في مختلف مجالات المعرفة. ووصلت الأندلس في هذا العصر أعلى درجات الازدهار الأدبي والفكري والحضاري. فقد كانوا كما يقول المستشرق الأسباني جوليان ربيرا: “هم الشعب الأوروبي الوحيد الذي ازدهرت عنده الفنون بشْتَّى صنوفها، والآداب والفلسفة وغيرها ازدهارًا عظيمًا. وحينما نهضت أوروبا نهضتها الفلسفية والفنية والعلمية والأدبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين كانت الأندلس من أكبر شعوب أوروبا تأثيرًا في الفلسفة والفلك والطب والقصص وشعر الملاحم.
ومن أعلام هذا العصر الفيلسوف
ابن ماجه (ت 523هـ)؛
والفتح بن خاقان صاحب
قلائد العقيان (ت535هـ)؛
وابن بسام (ت 542هـ) صاحب
الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة. وفي مجال الطب كان
أبو القاسم خلف بن عباس القرطبي (ت 516 هـ) علمًا لا ينكر.
ولما حَلَّ الموحِّدون حكامًا للأندلس (541-668هـ ، 1146-1269م)، انطلقت حركة الفنون والعلوم بقوة أكبر في مجالات التأليف والبحث والبناء والعمران، فازدهرت على عهدهم الدُّور العلمية في مختلف المدن الأندلسية في
قرطبة وأشبيليا وبلنسية وغرناطة ومرسية ونشط التأليف في مختلف العلوم والفنون.
من الأسماء اللامعة لهذا العصر
ابن طفيل صاحب رسالة حيِّ بن يقظان (ت 571هـ)؛ والفيلسوف
ابن رشد (ت 594 هـ)؛
وابن بشكوال صاحب كتاب
الصلة ـ (ت 578 هـ)، وغيرهم كثيرون.
ولما اضمحل شأن الموحدين وضعف أمرهم بالأندلس والمغرب في أوائل القرن السابع الهجري. بعد أن دام ملكهم نحو مائة وثلاثين سنة انحصرت الدولة الأندلسية منزوية في الركن الجنوبي الغربي في مملكة صغيرة هي
غرناطة تحت حكم بني الأحمر (668 – 798هـ ، 1269 – 1395م) الذين امتاز عصرهم بنصرة العلوم والآداب. وقد نبغ في هذا العصر شعراء وكتاب ومفكرون ومؤرخون كبار، على الرغم من سوء الأحوال السياسية وعدم استقرارها.
ومن هؤلاء العالم النباتي والطبيب المشهور
ابن البيطار المالقي الذي رحل من الأندلس إلى المغرب ثم إلى مصر والشام، وتُوفي بدمشق سنة 646 هـ، وشيخ المتصوفة بالأندلس
محيي الدين بن عربي الذي نزح إلى المشرق وتوفي بالشام سنة 638 هـ، وعن هذه الفترة قال
ابن الأَباَّر القُضَاِعي صاحب المرثية المشهورة في سقوط بَلَنْسِيه:
|
<table style="border-collapse: collapse;" cellpadding="2" cellspacing="2"><tr><td class="ptry"> </td><td style="width: 30px;"> </td><td class="ptry"> </td></tr></table> |
وقد هاجر إلى تونس وتوفي بها سنة 659 هـ، وكذلك
ابن سعيد الأندلسي صاحب
المُغْرب في حُلَي المَغْرب وقد رحل إلى دمشق وتوفي بها سنة 673 هـ. هذا فضلاً عن وزير العصر
لسان الدين بن الخطيب (ت 776 هـ)،
وابن خلدون مؤسس علم الاجتماع ( ت 808 هـ).
وبحلول عام 798هـ ـ 1395م، وصل المدّ الصليبي مداه وسقطت غرناطة وانهد آخر معقل للإسلام في أوروبا.
مجالات الحضارة الأندلسية. شملت الحضارة الإسلامية في الأندلس مجالات متعددة تركت بصماتها على الحياة والأحياء من حولها. وكان من ثمار هذه الحركة أن تحولت قرطبة ـ حقًا ـ إلى عاصمة للحضارة ليس في أسبانيا وحدها ولكن في المغرب قاطبة.
يذكر المؤرخون أن قصور قرطبة تجاوزت 20,000 قصر، وأن مساجدها تجاوزت 900 مسجد، وأن حَمَّاماتها تجاوزت 700 حَمَّام. وكانت بها مدارس للطب والهندسة والعلوم والفنون. وأُنْشِئت المستشفيات ومعامل الكيمياء ومراصد الفلك. وكانت جامعة قرطبة منارة شامخة للفكر والثقافة وحاملة لواء هذه الحضارة العربية الإسلامية الشاملة.
ويمكن أن نتعرف أوجه هذه الحضارة في المجالات الآتية:
البناء والعمران. يَتَجلَّى فن البناء والمعمار في بناء المساجد، والقصور وازدهار المدن ـ مثل مدينة الزهراء التي بناها عبدالرحمن الناصر ـ وما فيها من الحدائق والنّوافير والحمَّامات العامة والخاصة. فكانت الأنموذج والمثال لما بلغه فن البناء والعمران للحضارة العربية الإسلامية.
المجال الأدبي واللغوي. اهتم حكام الأندلس على مرِّ العصور برعاية العلوم والآداب، واستقطبوا الأدباء والمفكرين ووفروا لهم المناخ الطيّب المناسب لإبداعهم، فظهرت طائفة من الشعراء والعلماء والأدباء أنتجوا أعمالاً متألقة في مختلف مجالات المعرفة، فازدهر فن الشّعر والرسائل الأدبية والتأليف في علوم اللغة والنحو والمعاجم والطبقات والتراجم.
المجال الديني والشرعي. لما كان الإسلام ُمقوّمًا مهمًا من مقومات هذه الحضارة فقد كان الاهتمام بعلومه جزءًا من شخصية الأندلس.فظهر عدد وفير من المؤلَّفات التي عُنيت بالقرآن الكريم وعلومه، وبالحديث الشريف في روايته وشروحه، وبالدراسات المنوعة في مجال الفقه والعقيدة والفلسفة وتاريخ الأديان.
مجال العلوم التطبيقية. ازدهر علم الطب، خاصة في القرنين الخامس والسادس الهجريين (الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين) ـ وبرع أطباء الأندلس في الجراحة وتحضير العقاقير، وأُنْشِئت المستشفيات، ووُضعت عشرات المؤلَّفات الطبِّية مثل كتاب
الأدوية المُفْرَدَة للكتَّاني المُتَوفى سنة 420هـ،
والتعريف لمن عجز عن التأليف للزهراوي المتوفى سنة 403هـ.
أما علم الرياضيات، فتعد المدرسة التي ظهرت على يد الفلكي
مسلمة المجريطي المتوفى سنة 394هـ من أولى مدارسه في الأندلس، وقد أدى تلاميذه من بعده خدمةً جليلة لهذا العلم.
وفي ميدان الفلك ظهر
ابن برغوث (433هـ) وأبو
إبراهيم بن يحيى الزرقالي القرطبي وغيرهما.
وهكذا مرت الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس بمراحل وأطوار مختلفة تبعًا للعصور السياسية التي تواترت على الأندلس، لكن الذي لا يقبل الشك هو أن هذه الحضارة كانت نتاجًا لعقلية عربية إسلامية، استطاعت بوعي واقتدار أن تزاوج بين فكرها وتلك الأنماط التي كانت سائدة في شبه الجزيرة الأيبيرية (الأسبانية) قبل الفتح العربي الإسلامي، فكانت الأقوى والأشد تأثيرًا بفضل العقيدة واللغة. فانصرف الناس عما سواها حتى شكا القسيسون من ضياع اللاتينية بين النصارى، وانصراف بني جلدتهم إلى كتابات المسلمين باللغة العربية.
لقد أدى المناخ الحضاري الذي تنسّمته الأندلس إلى العناية بجوانب العلم والفكر، فشُيِّدت المدارس وافتُتحت المكتبات، واقتُنِيَت الكتب حتى أصبح معظم الناس قادرين على الكتابة والقراءة، فازدهرت الآداب والفنون وارتقت المباني بفنّ إسلامي أصيل.
في المقالة الموسعة التالية
حول الحضارة الإسلامية في الأندلس يجد القارئ مزيدًا من التفاصيل حول الآفاق التي اتسمت بها تلك الحقبة الحضارية في تاريخ الإنسانية على النحو الذي سمح لكثير من الأمم أن تتعلق بحضارة الإسلام وتغتني بلغته العربية.
أسئلة
- ما مفهوم كلمة حضارة؟
- متى بدأت مطالع الحضارات الأولى وأين؟
- كيف كان بزوغ الحضارة الإسلامية؟
- لماذا كان الإسلام محطة تاريخية لانطلاق الحضارة الإسلامية؟
- ما خصائص كل عصر من عصور الحضارة الإسلامية؟
- ما أبرز الحقول التي برزت فيها الحضارة العربية الإسلامية وأعطت إرثها للحضارة العالمية؟
- قدّم العرب نظريات في الرياضيات غيرت وجه العلم في العالم. ماهي؟
- ما دور الإدريسي وأحمد بن ماجد وحسن الوزان في الحضارة العالمية؟