التربية البيئية
حقق الإنسان بواسطة التقدم العلمي والتقني الحالي منجزات هائلة لصالح تحسين مستوى حياته الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية والثقافية والترويحية. وها هو ينتج من الغذاء واللوازم الصناعية والكماليات ما يكفيه ويزيد عن حاجته، فيما عرف بعصر الوفرة والاستهلاك المفرط.. العصر الذي أصبحت فيه الكماليات ضروريات لا يستغني عنها الإنسان، وما زال تطلعه مستمرا بالبحث عن المزيد.
ثمن باهظ للحضارة المادية
دفع الإنسان الثمن مقابل تحقيق ذلك باهظاً، فقد استنزف موارد الأرض المحدودة وحولها إلى مصنوعات تراكمت نفاياتها وملوثاتها في البر والبحر والجو، وتوسع في الزراعة والصناعة والعمران توسعاً رهيباً أدى إلى اختفاء كثير من النظم البيئية، وانقرض العديد من الأنواع النباتية والحيوانية، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه فسوف ينقرض أكثر من 25% من الأنواع، التى خلقها الله على كوكب الأرض في غضون العشرين عاماً القادمة، وهي خسارة أصبحت تهدد بقاء الإنسان ذاته. فقد اختل التوازن الغازي في الغلاف الجوي، وأخذت درجة حرارة الجو في الارتفاع في جميع بلدان العالم، وقلت الأمطار في بعض المناطق، وزادت بشكل كبير في مناطق أخرى، وزاد معدل حدوث الزلازل والأعاصير والفيضانات الكاسحة التي لا تبقى ولا تذر. وخشي الإنسان من مستقبله على كوكب الأرض.
ليست مسؤولية الحكومات وحدها
اتخذت حكومات كثير من دول العالم، تدابير عاجلة لحماية البيئة والحياة الفطرية، ولكن للأسف ما زال الوضع متدهورا، وما زالت البيئة في حاجة إلى تشديد الحماية عليها، وإعادة تأهيلها، وإيقاف الأنشطة البشرية الهدامة، وتحويلها إلى أنشطة صديقة للبيئة وللحياة. والسبب في ذلك أن مسؤولية حماية البيئة والموارد الفطرية، ليست مسؤولية الحكومات وحدها، وإنما هي مسؤولية كل فرد، يعيش على سطحها.. هي مسؤولية شخصية وجماعية، يشترك فيها الأفراد والمؤسسات والجماعات والنوادي ورجال الأعمال والحرفيون والمهنيون ورجال التعليم والاقتصاد وجميع المواطنين والمقيمين.
الفهم المسبق أساس تحمل المسؤولية
هنا يبرز السؤال المهم، وهو كيف نضمن قيام كل فرد منا بمسؤوليته تجاه حماية البيئة؟ والجواب بلا شك هو بأن نشعره بهذه المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقه، وبأن نوجد لديه الوعي الكافي والإدراك الكامل بحقيقة علاقته بالبيئة من حوله، وبأهمية سلامتها، وما تحويه من كائنات حية نباتية وحيوانية ضرورية لحياته وحياة من بعده، وبأن أي أضرار تحدث للموارد الفطرية نتيجة نشاطه، سيؤثر عليه بالضرورة، أي أنه سيكون السبب والضحية في نفس الوقت.
التربية البيئية هي السبيل
لا بد أن يفهم الإنسان حقيقة البيئة على أنها تشكل نظاما شاملا متكاملا لا يقبل التجزئة، ويتميز بالتفاعل المستمر بين مكوناته الحية وغير الحية، إلى جانب المكونات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتقنية. وأن البيئة تتمحور أساسا حول الإنسان، الذي هو المكون الحي الرئيسي فيها. وحتى يمكن أن يفهم الإنسان هذه الحقيقة، ويَعِيَها، ويعمل من منطلقها، فإنه يحتاج إلى من يقوم بتوعيته وإفهامه، لكي يصبح إدراكا لديه، وسلوكا يتبعه في حياته، ونهجا يسير عليه. وهذا ما يجب أن يتم منذ نشأة الإنسان عن طريق (التربية البيئية) التى تبدأها الأم مع رضيعها وتنشئه عليها، حتى يصل إلى سن المدرسة، فتشترك مع المدرسة في القيام بها من رياض الأطفال حتى المرحلة الجامعية.
الإحساس بالإنتماء
علينا أن ننمي الشعور بالإنتماء لبيئتنا لدى النشء، ليحس أن المدرسة هي مثل المنزل، إليها ينتمي، وأن الحي الذي يسكنه هو أيضا منزله، وكذلك الشارع الذي يسير فيه، والمدينة التى يسكنها، بل والوطن، لأن البيئة واحدة شاملة، والأرض واحدة. لقد كان أسلافنا يحسون بالإنتماء إلى قبائلهم، إلى حارتهم إلي ديرتهم، وإلى الحمى الذي يرعون فيه مواشيهم. وقد ضعف هذا الإحساس مع غزو الحضارة المادية، وعلينا أن نعيده ونقويه ليس للديرة والحارة فقط وإنما للوطن ككل وللأرض جميعها.
جميع المناهج تصلح للتربية البيئية:
وحيث أن البيئة وقضاياها ومشاكلها التى تجابه الحياة في العصر الحاضر وتهددها، متعددة الجوانب والأبعاد، فلا يمكن التصدي لها من خلال منهج دراسي واحد. فمشكلة التلوث مثلا لها أبعادها وأسبابها ونتائجها السلبية في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والصناعية والسياسية والثقافية والعلمية والتقنية والتاريخية والجغرافية والدينية.. وغيرها. ولإيضاح حقيقة المشكلة، وإيجاد الحلول الممكنة لها، يجب تناولها بالبحث والتحليل من كافة هذه الجوانب. ولا يمكن أن يتم ذلك بالطبع إلا بمناقشتها في المناهج الدراسية المختلفة المتعلقة بواقع هذه الجوانب مع إيضاح العلاقات القائمة بينها.
فمما لا شك فيه أن أي منهج من المناهج الدراسية يصلح كقناة لتمرير وتحقيق بعض أهداف التربية البيئية. ويحتاج تنفيذ ذلك إلى جهد مكثف كبير، وإلى تعاون مخلص كامل بين المتخصصين في المناهج الدراسية، لإيضاح علاقة التكامل المنشودة، التى بدونها لا يمكن تحقيق أهداف التربية البيئية.
التربية الدينية أولى المناهج
يجب التأكيد هنا على أن مناهج التربية الدينية هي أَوْلَى المناهج، التى يمكن أن تخدم أهداف التربية البيئية. والشريعة الإسلامية لم تترك شيئا في حياة المسلم لم تتناوله وتنص عليه. بل هناك كمّ هائل من الآيات القرآنية الكريمة والسنة المحمدية المطهرة، التى تنص على كيفية تعامل المسلم مع بيئته. ولكنها ربما تدرّس فقط كنوع من الآداب العامة، التى يجب أن يتحلى بها المسلم. فالدين قد منع الإسراف في أي شيء، ونهى عن التبذير والإفراط، والسعي في الأرض بالفساد، والحث على عدم قتل أي حيوان، أو قلع أي نبات إلا بحقه. وقد يدرس ذلك للنشء دون التعريف بتأثير ذلك على البيئة ومواردها، وما يحدثه من إخلال بنظم الحياة. كل ذلك من تعاليم المحافظة على البيئة. والقواعد الفقهية التى تقول بأنه لا ضرر ولا ضرار، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، من أهم القواعد التى تؤدى إلى المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية. ولما تفاقمت قضايا البيئة وأصبحت الشغل الشاغل للعالم في الوقت الحاضر، فإن ذلك يستدعى ضرورة ممارسة التربية البيئية في مراحل التعليم العام، وتأكيد علاقة الإنسان بالبيئة في مناهج الكليات الجامعية، وترسيخ الأسس السليمة للتعامل مع البيئة في نفوس النشء والشباب ليشبوا عليها، وقد أصبحت لديهم سلوكا معتادا، يحسون بالبيئة ومشاكلها، ويحافظون عليها، ويتحملون مسؤولياتهم الشخصية تجاهها.