لم تكتمل الفرحة بخبر صدور الترجمة العربية لكتاب "رجال بيض أغبياء"، بل
تحولت إلى حزن مقبض ونحن نرى على غلاف الطبعة العربية جملة ظن الناشر أنها
ستزيد من مبيعات الكتاب، فكان أن كشفت ما بداخل الكتاب من جرائم بحق الكتاب
وبحق الترجمة وبحق اللغة العربية.
تقول الجملة بأن المؤلف حصل على الأوسكار كأفضل مخرج أفلام وثائقية لعام
2003، ولما كانت جوائز الأوسكار لعام 2003 لم توزع بعد، ولما كانت الجائزة
التي حصل عليها مور هي جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل لعام 2002 باعتباره
منتج الفيلم الذي نال الجائزة ومخرجه.. فقد تحسسنا قلوبنا ونحن نتصفح
الكتاب، ولسوء الحظ، فإن ظننا لم يخب!
قد تكون محاولة استغلال الضجة التي أثارتها كلمات مور وهو يتسلم جائزة
الأوسكار هي التي تسببت في ظهور ترجمة بهذه الرداءة، لكننا مع الكتاب
المطبوع لا نملك غير أن نشكك في قدرة من قاموا بفعل الترجمة والذين لا نعرف
لهم اسما؛ فأبرز ما يميز كتاب مور هي تلك اللغة الساخرة المتهكمة القادرة
على انتزاع ضحكات القارئ ودموعه في آن واحد، إنها كتابة قريبة الشبه
بكوميديا نجيب الريحاني وقصائد بيرم التونسي.
أما اللغة التي وجدناها في الترجمة العربية فكانت قريبة من كتابة مبتدئ غير
موهوب: جمل ركيكة، وأخطاء لغوية، وتعبيرات مفككة، وجمل مفتوحة، ينقطع
نفَسك لتصل إلى نهاياتها إن وجدت، وهكذا تحولت اللغة الساخرة الرشيقة خفيفة
الروح إلى لغة سمجة بدينة لا روح لها! وصارت الترجمة لا تغري -للأسف-
بقراءة أكثر من فصل من الكتاب الذي كان يستحق أفضل من هذا في العالم
العربي.
كما تبرز في الترجمة البيروتية أيضا أخطاء الطباعة؛ لتجعلنا نشكك في قدرات من قاموا بمراجعة الكتاب قبل طباعته، إن كانت هناك مراجعة!
تشريح أمريكا الجديدة
يحمل أول فصول الكتاب عنوان "انقلاب أمريكي جدًّا"، وفيه يعلن مور دهشته
البالغة من فوز رجل مثل بوش بمقعد الرئاسة، ويؤكد أن بوش نفسه كان هو الآخر
مندهشًا، ويدلل على صحة ذلك بنقل حوار جرى بين بوش ورئيس وزراء السويد
جوران بيرسون يوم 14 يونيو 2001،
قطعًا لم يكن بوش يعرف أن شاشات التليفزيون تنقل الحوار الذي جاء فيه: "ما
أزال مندهشًا؛ لأنني فزت في الانتخابات؛ فقد كنت مرشحًا ضد السلام
والرفاهية والمسئولية".
ومن كلمات بوش ينطلق مور ليسرد الكوارث التي لحقت بالولايات المتحدة بعد
تولي بوش رئاستها، بدءا من تحقيق مؤشر "داو جونز" لخسائر لم يشهد لها مثيلا
طوال قرن مضى وهو القرن العشرون، ومرورًا على قيام تحالف بين روسيا والصين
في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تفكك القلاع النووية الأخيرة.
ويمضي مور فيصف عهد بوش بأنه العهد الذي دارت فيه عقارب الساعة عكس
اتجاهها، فرأينا مستثمرين يخسرون الملايين في أسواق البورصة، ورأينا معدلات
الجريمة ترتفع، واختفت من أمام أعيننا واجهات اقتصادية كان يفخر بها
الاقتصاد الأمريكي كمونتجمري وارد، وتي دبليو إيه. وفي مجال الاستثمارات
تراجع سهم مايكروسوفت من 120 دولارًا إلى 40 دولارًا، وسهم "ديل" من 50
دولارًا إلى 16 دولارًا، وفقدت ناسداك 40% من قيمتها، وفوجئ الأمريكيون
بجنون يتحكم بالأسواق.
ويتوقف مور عند طرد الأمم المتحدة لواشنطن من لجنة حقوق الإنسان، وعودة العداء بين الصين والولايات المتحدة.
ويتحدث عن انهيار السينما لدرجة أصبح عندها من الصعب مشاهدة فيلم واحد جيد،
كما انهار مستوى الشبكات التليفزيونية التي أصبحت كلها تبث الشيء نفسه؛
فأصبحت مملة وممقوتة.
مضى زمن حرية الاختيار؛ فلم يعد أمامنا غير 6 مؤسسات إعلامية، و6 شركات
طيران، ومؤسستين ونصف(!!) متخصصة في تصنيع السيارات، ومحطة إذاعة يتجمع
فيها عدد من الحمقى.
أما عن الحرية السياسية فليس أمامنا غير الاختيار بين حزبين سياسيين هما في
الواقع وجهان لعملة واحدة؛ فالانتخابات تجري فيهما بطريقة واحدة، ويتحكم
فيها الأثرياء، حتى الناس أصبحوا متشابهين في كل شيء، وكلهم يتلخصون في
ثلاث كلمات: "رجال بيض أغبياء".
طبخة الديمقراطية الأمريكية
بهذه السخونة يبدأ مور كتابه الذي يورد فيه بالتفصيل الجهود التي بذلها
أتباع بوش الابن وشقيقه جيب، وجميع أتباع وخدم بوش الأب؛ لطبخ الانتخابات
حتى تنتهي لصالحه رغم عدم أحقيته في ذلك.
بالتفصيل يعرض مور التلاعب غير القانوني المباشر في السجل الانتخابي، وما
تبعه من أحكام خاطئة صدرت بعد التصويت، والتلاعب الذي حدث في التصويت
البريدي الذي فاز فيه بوش بـ80% من أصواته؛ الأمر الذي يثير الارتياب.
وبعد أن يستعرض مور الماضي الشخصي "غير المشرف" بالمرة لبوش وفشله المتكرر
في كل الأعمال التي أوكلت إليه، يفتح ملف ماضيه السياسي كحاكم لولاية
تكساس، ويستعرض قراراته (الغبية)، المضرة بالبيئة، وبالسكان، وبالفقراء،
كما يكشف انحيازه السافر للرأسماليين الأغنياء. بعد كل ذلك يفضح مور ماضي
كل رجال الإدارة الأمريكية، تمهيدًا لانتقاد أدائها الداخلي وخضوعها الذليل
لمصالح الشركات الكبرى التي تدعم الحزب الجمهوري، وتفضيلها تلك المصالح
على قطاعي التعليم والبيئة، كما يستعرض مور أيضا التحالفات الفاسدة الخفية
بين أطراف الإدارة الأمريكية والشركات الكبرى، ويثبت تورط عدد من أصحاب
الأسماء السياسية اللامعة من الجمهوريين في صفقات مشبوهة.
تراجع في كل المجالات
ويمضي مور ليؤكد التراجع الثقافي والأكاديمي الذي بدأ يهدد المجتمع
الأمريكي؛ فيؤكد أن الغالبية الساحقة من خريجي الجامعات العريقة لا يملكون
الحد الأدنى من المعلومات في مجال اختصاصهم، ولا في أي مجال آخر، باستثناء
بعض الألعاب الرياضية.
وينقل مور عن شخصيات كسنوب دوجي دوج وبيفيز وبات هيد ما يؤكد انخفاض مستوى
التعليم، فـ44 مليون أمريكي لا يستطيعون القراءة فوق مستوى الصف الرابع
الابتدائي، و11% لا يتمكنون حتى من قراءة صحيفة يومية، باستثناء الصفحات
المضحكة وإعلانات السيارات المستعملة. هذا إلى جانب 200 مليون آخرين
يستطيعون القراءة، لكنهم لا يقرءون.
أسباب ذلك في رأي مور كثيرة، لكنه ينتقي منها انخفاض الدخل للأساتذة، ووباء الأمية المنتشر في النظام التعليمي، والانحلال الخلقي.
هناك أيضًا انخفاض ميزانيات المدارس العامة، وإغلاق المكتبات العامة أو تقليص أعدادها، وانهيار المباني الرسمية لهذه المدارس العامة.
شيك على بياض.. لإسرائيل
لعل أهم ما في الكتاب بالنسبة لنا كعرب هو ما ذكره مور في كتابه عن الوضع
في الأرض العربية المحتلة ومسئولية الأمريكيين أكثر من غيرهم عن معاناة
الفلسطينيين هناك.
مور كان قد زار الأراضي العربية المحتلة عام 1988، وكان رائعا أن نجده يعطي شرعية للانتفاضة ويراها ضرورية في ظل الاحتلال.
ولا تقتصر معاناة الفلسطينيين في رأي مور على ما يلاقونه في الأراضي
العربية المحتلة فقط؛ إذ يراهم أيضا يعانون في كل الدول العربية بمعاملتهم
هناك كمواطنين من الدرجة الثانية، لكنه في الوقت نفسه لا يعتبر الأمريكيين
مسئولين عما يحدث للفلسطينيين في الدول العربية، وأن مسئوليتهم فقط عما
يحدث في إسرائيل.. لماذا؟
يجيب مور بأن الولايات المتحدة لا تدفع 3 مليارات دولار في السنة لهذه
البلدان بل تدفعها لإسرائيل، إنها أموالنا -يقول مور- فهل ندفعها لكي يتم
استخدامها في القتل والقمع والتفرقة العنصرية؟
إنني كدافع ضرائب أمريكي أرفض أن أساعد إسرائيل على ارتكاب جرائمها، أرفض أن أمول التفرقة العنصرية باسمي كمواطن أمريكي.
ويمضي مور فيقول: "إننا جميعًا مؤمنون بحق جميع البشر في تقرير مصيرهم وفي
العيش بحرية وسعادة، فيما العرب في الضفة الغربية وقطاع غزة محرومون من كل
ذلك، ولولا أنني وأنت وكل من يدفع الضرائب في أمريكا ندفع من رواتبنا 4
سنتات من كل مرتب نتقاضاه لما استطاعت إسرائيل أن تشتري الرصاص الذي تطلقه
على الأطفال الفلسطينيين؛ لذلك فإنني أطالب الولايات المتحدة بأن تتوقف
فورًا عن إعطاء إسرائيل شيكًا على بياض، وأطالب الكونجرس بأن يبلغ إسرائيل
بأن عليها أن تتوقف عن سفك الدماء خلال ثلاثين يومًا، وإذا كان هناك من
ينتقد الإرهاب الذي يقوم به أفراد ويرونه سيئا؛ فإن إرهاب الدولة شر كامل
علينا ألا نسمح باستمراره، وألا نقتطع من أقواتنا لنموله، أما إذا كانت
إسرائيل تريد أن تستمر في الحصول على أموال ضرائبنا؛ فإن عليها أن تتوقف عن
جرائمها، وأن تسمح بقيام دولة فلسطينية للفلسطينيين فيها كامل الحق في
الممارسة الديمقراطية، فإذا حدث ذلك يكون على الولايات المتحدة أن تقدم
للدولة الفلسطينية ضعف ما تقدمه لإسرائيل.
إننا لو نفعل ذلك نصبح مسئولين وبشكل أساسي عن استمرار معاناة الشعب
الفلسطيني، وعلينا أن نحول بشتى الطرق أن نوقف تلك المجازر، أولا لهذا
السبب، وثانيًا لأن القتال في المنطقة العربية يجب أن يتوقف الآن؛ لأن
إسرائيل تمتلك السلاح النووي، وقريبًا تمتلك بعض الدول العربية السلاح
نفسه؛ لذلك فإننا علينا أن نوقف تلك المجازر حتى لا ندفع كلنا الثمن.
ولأن أهل مكة أدرى بشعابها كما يقولون؛ فإن مايكل مور -وهو الأكثر دراية
بإدارة بوش- يؤكد أنه يعرف مسبقًا أنه لن يجد من يصغي لاقتراحاته؛ لأنهم
كما قال مرارًا رجال بيض أغبياء.
هل تتدخل الأمم المتحدة؟
يسترعي الانتباه أيضًا في كتاب مور تشريحه لرجال الإدارة، الذي يخلص من
خلاله إلى ضرورة أن يتم القبض على هؤلاء الأشخاص البيض الأغبياء؛ لكونهم
خطرًا على المجتمع الأمريكي، مؤكدًا أنه أبلغ الأمين العام للأمم المتحدة
عن أماكن وجودهم ليتم العثور عليهم واعتقالهم من قبل الأمم المتحدة!
وبعد أن يؤكد مور أن ما حدث في الانتخابات التي أتت ببوش الابن رئيسًا ليس
سوى عملية سطو مسلح على الحكم، وبعد أن يوجه رسالة للأمين العام للأمم
المتحدة يطالبه فيها بالتدخل كما تدخلت الأمم المتحدة والولايات المتحدة من
قبل لتغيير أنظمة الحكم في دول تراها غير ديمقراطية، لإقرار حكم ديمقراطي
في الولايات المتحدة.
إنهاء الحكم
بعد ذلك يتوجه مور للشعب الأمريكي مؤكدًا أنه يستطيع البدء في حملة قوية
تؤدي في النهاية إلى الإطاحة بمجموعة بوش الانقلابية. فيطالبه بتخصيص
ساعتين في الأسبوع فقط، يقومون خلالها بالاتصال بممثليهم في الكونجرس،
ويطالبونهم بالاحتجاج العام، وأن يقوموا بملاحقة بوش أينما ذهب، "إذا سمعتم
أن بوش آت لزيارة مدينتكم فنظموا الاحتجاجات، وذكروا وسائل الإعلام بأن
بوش لا يحكم بإرادة الشعب".
وبعد أن يطلب مور من المواطنين أن يؤلبوا الديمقراطيين، ويحثهم على ممارسة
دورهم في معارضة النظام، يؤكد أن الوسيلة الوحيدة للتعبير هي أن يقوم أناس
محترمون وأصحاء عقليا بالسعي للوصول إلى السلطة؛ لأن المناصب تركت للأوغاد.
يبقى أن ننهي وقفتنا بسطور وجهها مايكل مور لبوش الابن قال فيها:
"عزيزي بوش، كنا أنا وأنت كالعائلة الواحدة، وتعود علاقتنا الشخصية إلى
سنوات طويلة؛ فلا أنت ولا أنا نرغب في نشر تفاصيل هذه العلاقة لأسباب
واضحة، وأهمها أن أحدا لن يصدقها.
في أواخر الثمانينيات أقلعت عن تناول الخمور بعد عناء وبعد شقاء امتد
لسنوات كنت تسعى خلالها لإيجاد نفسك، فساعدك والدك عن طريق مشروع نفطي هنا
وضمك لفريق كرة هناك، واتضح لي لفترة ما أنه لم تكن لديك الرغبة مطلقا في
أن تعتلي كرسي الرئاسة، دائما نلقى عثرات ونفشل في الوظائف التي لا نرغب
فيها.. فمن لم يفعل ذلك؟
عزيزي بوش، إن كل أولئك الذين يتسكعون حول البيت الأبيض مثل تشيني
ورامسفيلد وباول ليس فيهم صديق واحد لك؛ فكلهم عجائز وصلوا سابقا إلى البيت
الأبيض لتناول سيجار جيد وللاستمتاع بشرب كأس وهم يحلمون بقصف المدنيين
دون تمييز في بنما.
لكنك كنت واحدًا منا، وقعت في أخطاء كثيرة، وكنت طالبًا متوسط الأداء؛ لذلك
فإنهم بمنتهى السهولة سيتمكنون من نهش لحمك حيا وبعدها سيلفظون عظامك دون
أدنى رحمة".