بيروت -
من حسن اللقيس - للمرة الاولى في تاريخ الحرب الامنية بين لبنان
واسرائيل، يستشعر اللبنانيون من دون استثناء، مدى فظاعة الانتهاك الشخصي
لخصوصياتهم، بعدما نجح جهاز الاستخبارات الخارجية الاسرائيلي الـ"موساد" في
اختراق شبكة الهاتف النقال وزرع عملاء له.
لقد شكلت قضية التجسس لاسرائيل حدثا نوعيا هز الكيان اللبناني وباتت اسماء
شربل قزي وطارق الربعة وجورج ابي عبد الله والعقيد في الجيش اللبناني اديب
العلم وميلاد عيد وحديثا العقيد المتقاعد في الجيش اللبناني والقيادي في
التيار الوطني الحر فايز كرم على كل لسان وعناوين اتهام بالعمالة والخيانة.
تناقلت
الكثير من الاخبار والاساطير عن موظفي قطاع الاتصالات الذين القي القبض
عليهم بتهمة "التخابر والتجسس لصالح العدو الاسرائيلي"، لقد جعلت هذه
الاساطير من شربل القزي جيمس بوند لبنان، وهو في حقيقة الامر ليس الا احد
مشغلي الهاتف النقال في لبنان المسؤول عن وحدة صيانة تتفرع من القسم
التقني، بحسب لقبه الرسمي في شركة "الفا".
ولم يتدرج القزي في الشركة خلال الفترة التي قضاها الى اي منصب قيادي او
اداري وبالتالي هو ليس من الكوادر الادارية الرفيعة. هو من مواليد علمان
(ساحل قضاء الشوف) في العام 1954، سجله 31 متزوج ويسكن بلدة قنابة برمانا
في المتن الشمالي (شمال بيروت).
يقول
عنه عارفوه انهم فوجئوا بما نسب اليه من عمالة لجهاز "موساد"، فهو دمث
ومجتهد في عمله بشهادة رؤسائه، ولا يوحي بما قد يثير الشبهات حوله لا مهنيا
ولا اجتماعيا، اضافة الى ان طبيعته لا تشي بانه الرجل القوي الذي يهوى
الاعمال التي تحمل طابعا، ولو يسيرا من المخاطرة.
اما
طارق الربعة، فهو مهندس اتصالات رفيع المستوى في شركة "الفا" يعمل فيها
منذ العام 1996. هو من مواليد 1970 عمل في الشركة بصفة مهندس ارسال، كما
انه اعلى رتبة من قزي واكثر قدرة منه على التحكم بشبكة الاتصالات ومعرفة
اسرارها وخباياها.
ادعى القضاء اللبناني على الربعة في 28 تموز (يوليو) بتهمة التعامل مع
اسرائيل بعد توقيفه في 12 من نفس الشهر، وهو معرض لعقوبة الاعدام في حال
تمت ادانته. ويعتقد ان تاريخ بدء تعامله مع اسرائيل يعود الى العام 2001.
يبقى
جورج عبدالله، وهو موظف سابق في الشركة ذاتها، طرد من العمل قبل عامين
بعدما ابتكر برنامجا معلوماتيا استعمله لقرصنة كلمة المرور (الباسوورد)
العائدة الى زملائه في العمل.
اما
المشتبه به الرابع فهو ميلاد عيد الذي كان موظفا في وزارة الاتصالات وقد
تنقل في عدة مناصب اخرها رئيسا لمصلحة الاستثمار الدولي ويشمل عمله
الاتصالات وخدمة البث الفضائي.
تقاعد
من الوظيفة من حوالي عام ونصف العام، لكن تعاقد معه مدير عام شركة
"اوجيرو" عبد المنعم يوسف التي تشغل الهاتف الثابت في لبنان وكان يمارس نفس
الوظيفة التي مارسها في وزارة الاتصالات. وكان بحكم عمله يشارك في مؤتمرات
دولية وعربية ويبدو ان تشغيله من قبل العدو الاسرائيلي حصل في احد هذه
المؤتمرات، وجرى التحقيق مع عدد من موظفي "اوجيرو"، وتردد انه جرى توقيف
مساعدة له. وهناك تخوف من ان يكون وبحكم عمله قد امن خطوط اتصالات مباشرة
مع اسرائيل من دون ان يتم كشفه.
ووسع
جهاز الاستخبارات العسكرية التحقيق بعد القبض على موظفي قطاع الاتصالات
الاربعة المتهمين بالعمالة لاسرائيل في محاولة لمعرفة ما اذا كان لهم شركاء
في شركة "الفا" او شركة "ام.تي.سي.تاتش."، وهما مشغلا الهاتف النقال في
لبنان.
كما
صادرت الاجهزة الامنية معظم المعدات الاليكترونية واجهزة الكومبيوتر
والتصوير الموجودة في مراكز عمل المشتبه بهم. ومن غير المستبعد ان تسفر
التحقيقات عن توقيف مشتبه بهم جدد في قضية العمالة لاسرائيل، علما بان
المحققين استمعوا الى افادات عشرات من الموظفين في شبكة "الفا" من دون ان
تثبت الشبهة على اي منهم.
وعلمت
ان وزارة الاتصالات باشرت عملية مسح شاملة لشبكة الهاتف النقال ولشبكة
الهاتف الثابت، من اجل التدقيق في كل ما يتصل بها ومراجعة كل البيانات
المتعلقة تفاديا لوجود اي ثغرات ناتجة عن توقيف المشتبه بهم.
وقال مصدر رسمي رفيع المستوى لـ
:
ان "عملية المسح ضرورية لتعزيز معايير السلامة والامان في مختلف الشبكات
الهاتفية، كما ان من شأنها التحقق من امكان زرع اي اجهزة تنصت اسرائيلية في
اي من تجهيزات الشبكتين الخليويتين"، وعلم ان التحقيق مع الموقوفين افرد
مساحة واسعة لهذا الاحتمال.
تقييمان مختلفان
ثمة معطيات متضاربة في تقييم خطورة الخرق الذي احدثه المشتبه بهم على
مستوى شبكة الهاتف الخليوي. وتبرز في هذا الاطار وجهتا نظر تقنيتان لما
يمكن ان يكون قد حصل:
وجهة
النظر الاولى تنطلق من ان جهات رسمية في الدولة اللبنانية، كما في قيادة
"حزب الله"، تتابع بدقة متناهية توقيف المشتبه بهم، والمعلومات التي
يبوحون بها الى المحققين، نظرا الى ان ما توافر يشير الى ان العمل الذي
قاموا به على امتداد اعوام يشكل تهديدا جديا للامن القومي ولامن المجتمع
اللبناني، اضافة الى اختراق شبكة الهاتف الخليوي.
وتروي
ان جهاز الاستخبارات العسكرية رمى الى توسيع التحقيق ليشمل شركتي الخليوي
لتطويق اي تداعيات محتملة على مستوى شبكة "ام.تي.سي.تاتش."، او لكشف
امكانية ان يكون المشتبه بهم انشأوا شبكتهم الخاصة او سهلوا لمشغليهم تجنيد
زملاء لهم.
ولاحظ
المحققون ان المشتبه به شربل قزي وهو الموقوف الاول، ذكي ويستعمل قدراته
الفنية والمهنية للتملص من جوانب محددة في التحقيق، خصوصا طبيعة المعلومات
التي سربها الى جهاز "موساد" ووحجمها والاعمال التي قام بها بناء على طلب
مشغليه ويبدو انه اعتمد المراوغة مع المحققين بغية تضليلهم.
يذكر
ان محققين متخصصين اخضعوا المشتبه بهم لجلسات استجواب مكثفة، نظرا الى
قدراتهم المهنية التي تتيح لهم الولوج الى مجمل المعطيات المتوافرة في شبكة
الهاتف الخليوي لجهة المشتركين وقاعدة البيانات والاتصالات، وصولا الى
امكان فبركة او "تصنيع" اتصالات وهمية، والتلاعب بها، او محو وحذف اتصالات
اجريت، كل ذلك بغية التغطية.
على سبيل المثال، التغطية على النشاط الهاتفي لشبكات التجسس الاسرائيلية،
اذا طلب منهم مشغلوهم ذلك، علما ان غالبية الشبكات التي فككتها الاجهزة
الامنية في العامين الاخيرين، كشفت بفعل الاعتماد على نظام معلوماتي خاص
قادر على تحليل المخابرات الهاتفية وفرزها.
وقد
سلمت فرنسا لقوى الامن الداخلي في العام 2006 جهاز تنصت واعتراض مخابرات
بغية مساعدة هذه القوى في رصد مكالمات المشتبه بهم في عملية اغتيال رئيس
الوزراء رفيق الحريري ومراقبة الحركات الاصولية، لكن شعبة المعلومات في هذه
القوى بدات في 2009 بالتنصت مما ادى الى اكتشاف هذا العدد من العملاء.
وتكشف
وجهة النظر هذه ان المشتبه بهم، او على الاقل احدهم، قادر على الولوج حتى
الى بصمة اي مشترك في الشبكة الخليوية، مما يتيح لهم تزوير هذه البصمة
وفبركة اتصال وزج البصمة الصوتية المزورة فيه، فينتج بذلك اتصال هاتفي
لصاحب البصمة الصوتية المزورة ينسب اليه ما لم يقله او ما لم يكن فعله
حقيقة.
وتخشى
وجهة النظر هذه ان تكون اسرائيل استخدمت المشتبه بهم في تركيب اتصالات
هاتفية مزورة للتاثيرعلى التحقيقات التي اجريت بين عامي 2005 و2009 وتزويد
معطيات مزورة ومركبة، خصوصا ان السجلات الهاتفية لعبت دورا اساسيا في
التحقيقات، لاسيما التحقيق بمقتل الرئيس رفيق الحريري وعدد من السياسيين
وقادة الراي. اذ كانت لجنة التحقيق الدولية ترتكز في تحقيقاتها الى السجلات
الهاتفية المحفوظة في وزارة الاتصالات وفي شركتي الخليوي بحيث تحللها
للوصول الى المعلومات المطلوبة.
كما
ان التحقيق العسكري مع المشتبه بهم ركز على كيفية حصولهم على المفاتيح
السرية للشبكة، ولا يستبعد اي من الاحتمالات بما فيها احتمال ان تكون
لمديرة شركة "الفا" التنفيذية السابقة الالمانية الجنسية انيكي بوتر علاقة
مباشرة بهذا الخرق الامني، خصوصا انها سبق ان فرت من لبنان قبل نحو عامين
في ظروف غامضة، ولم تتضح الى الان ملابسات فرارها.
وجهة
النظر الثانية تشير الى ان السبيل الوحيد الذي جعل المعطيات لدى شركة
"ألفا" متاحة للاستخبارات الاسرائيلية هو عن طريق قرصنة برمجيات الشركة
بواسطة برنامج معلوماتي خاص يتم تحميله على الكومبيوتر الرئيس، وهو مستبعد
على الارجح نظرا لتعقيدات السلامة العامة التي تعتمدها الشبكة ولان الامر
بحاجة الى مهندس متخصص، فضلا عن سهولة كشف اي قرصنة في قسم المعلومات في
الشركة.
ويقول مصدر امني لـ
:
ان "التحقيقات الامنية والقضائية مع المشتبه بهم من عملاء الهاتف النقال
قادت اجهزة الاستخبارات اللبنانية الى مراكمة المزيد من الخبرات في مجال
مكافحة التجسس، وباكتشاف هؤلاء العملاء باتت امام نوع جديد من الخروق
الاسرائيلية لشبكة الاتصالات اللبنانية، خروق لم تعتد عليها، لا هي ولا
جهاز الامن التابع لـ"حزب الله" الذي له نشاط فاعل في مجال الحرب الامنية
مع اسرائيل.
وقال مصدر وزاري رفيع المستوى لـ
:
ان "هذه التحقيقات استوجبت اعادة النظر في طرق الامن والسلامة في شركتي
الهاتف الخليوي كما في شبكة الهاتف الثابت". واضاف: ان "ثلث اللبنانيين
اودعوا الشركات معطيات ومعلومات شخصية تبدا من اماكن سكنهم ولا تنتهي
بارقام حساباتهم المصرفية، ما يعني ان اسرائيل ربما حازت او قرصنت معلومات
تصنف في نطاق الامن القومي اللبناني، ويفترض معالجة جذرية لسد ثغرات خطرة
جدا، قد تمتد مفاعيلها سنوات وربما عقودا".
يبقى
ان نشير الى ان معظم الجواسيس الذين يتم التحقيق معهم اليوم هم من كل
طوائف المجتمع اللبناني، لكن دوافع هؤلاء ليست واحدة، وان كان عنصر المال
هو الدافع الاساسي. يضاف اليه نظرة بعض هؤلاء الى الصراع العربي الاسرائيلي
والى بعض الانظمة العربية خصوصا سورية التي كان لبعض منهم تجربة قاسية
معها.
وتردد ان وزير الخارجية علي الشامي يعد ملفا متكاملا لتقديم شكوى الى مجلس الامن في قضية العملاء.
مصير
هؤلاء جميعا متوقف على الاحكام التي ستصدرها المحاكم المختصة بحقهم، مع
اعلان رئيس الجمهورية ميشال سليمان انه لن يتدخل في عمل هذه المحاكم لكنه
سيوقع اي حكم بالاعدام يصدر عنها بحق اي متهم من المتهمين. وكان الامين
العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله طالب بتنفيذ احكام الاعدام وعدم
مراعاة الطائفية في هذا المجال.