الفتنة قبل العدوان
الإسرائيلي أم معه؟
خالد حدادة
أجواء التوتر هي الغالبة على الحياة السياسية في
لبنان والمنطقة. هذه الأجواء التي تفاجئ البعض من الأنظمة العربية
والسياسيين اللبنانيين وتقض مضاجعهم مما يزيد في حالة الارتباك والتوتر،
ليست اجواء جديدة. وكنا قد تحدثنا سابقاً في إطار نقاشنا إمكانيات تجدد
الحرب الاسرائيلية في المنطقة، أن هذه الحالة كانت دائماً راهنة نتيجة
الطبيعة الخاصة والوظيفية للكيان الصهيوني من جهة، ونتيجة تآمر معظم
الأنظمة العربية المزمن والراهن من جهة اخرى. وتحدثنا دائماً عن موقع لبنان
في هذا الصراع كونه المكان المساعد بأجوائه وبطبيعة نظامه وبتكوينه
لانطلاق صفارة الحرب.
وما عزز هذه القناعات هو نتائج حرب تموز 2006،
حيث ابتعدنا عن تعداد الخسائر عند كل جانب، وتركز تقييمنا على أن النتيجة
الأهم والأخطر في آن معاً لهذه الحرب أنها كانت الجرح الأكبر في وظيفة
الكيان الصهيوني، وهو في كل الأحوال الكيان ـ الوظيفة، وظيفة ضبط المنطقة
أمنياً وسياسياً لجعلها دائماً طوع السيطرة الأميركية على قرارها وثروتها.
إن
هذا الجرح الذي تسبب به صمود الشعب والجيش والمقاومة في لبنان، كان كبيراً
الى الحد الذي دفع لتطاير كل أوراق التين عن «المؤسسات الدولية» وعن حلف
شرم الشيخ، وأخيراً عن بعض الدول الأوروبية التي غالباً ما ادعت الحياد
والإيجابية في التعاطي مع القضية الفلسطينية وآخرها «اسبانيا ثاباتيرو»
و«فرنسا ساركوزي» التي بدأت تصعد من وتيرة تأييدها لإسرائيل، لدرجة ربط
مصير هذه الأخيرة (ووظيفتها) بمصير الغرب بأكمله. وهنا مجال آخر للحديث عن
«الطبقي» في هذا الصراع العالمي وارتباط هذا الموضوع بالأزمة العامة
للرأسمالية.
وليس بعيداً عن هذه الأجواء الانحياز الدائم لمجلس الأمن
ولمؤسساته المختلفة لصالح دور اسرائيل وعدوانيتها، وآخرها تقرير الأمين
العام للأمم المتحدة حول تنفيذ القرار 1701.
[[[
وفي سياق الحديث
نفسه عن الاحتضان الغربي ـ الرأسمالي والعربي ـ التابع لإسرائيل ولوظيفتها
في المنطقة، يدخل الحديث حول الأجواء الأخيرة في الوضع اللبناني وتهيئة
الأجواء الداخلية اللبنانية لاحتمالات تطور الصراع في المنطقة.
وفي هذا
المجال وفي إطار استفادة الآخر من دروس حرب تموز، لا بد من عودة هادئة
لتصريحات كوندوليزا رايس مع بدايات هذه الحرب. لقد تسرعت الوزيرة الأميركية
حينها في إعلان انتصار اسرائيل وبالتالي دعوة الأركان من «أصدقائها»
اللبنانيين لأخذ دورهم في تثبيت وقائع الانتصار في لبنان كجزء من إعادة
ترتيب اوضاع الشرق الأوسط... وهذا الموضوع بالذات كان «أمر اليوم» الذي
وجهته لهم في لقاء السفارة الأميركية في عوكر والذي أثار ريبة البعض من
الحاضرين، كما يقولون اليوم.
يتضح من كلام رايس أن الخطة حينها، كانت
تقتضي ضربة عسكرية اسرائيلية تدمر المقاومة وأيضاً الجيش اللبناني ومؤسسات
الدولة بحيث تلحق الفتنة الداخلية بها، أي العدوان أولاً والفتنة تالياً.
ويبدو
اليوم أن العدو الأميركي ـ الاسرائيلي، استفاد جيداً من فشل خطته السابقة
في حرب تموز، وهو يظهر من الدور الأولي المعطى اليوم للفتنة الداخلية التي
حكماً ستليها أو ترافقها المرحلة الثانية أي العدوان الاسرائيلي.
[[[
إن
الاستنتاج السابق باستبدال خطة العدوان ثم الفتنة، بخطة الفتنة قبل أو مع
العدوان، لا يحتاج للكثير من البراهين، من الحراك السياسي في الداخل
والمحتضن عربياً تحت شعار تحييد لبنان طوراً، والخطر الذي يشكله سلاح
المقاومة طوراً آخر، الى المحكمة الدولية في المقام الأخير...
إن
القرار الظني المفترض للمحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري
دخل أو هو أُدخل بشكل خاص من مصدرين مشبوهين وواضحي الاستهداف، أي من قبل
التصريحات الاسرائيلية ومن تقرير «دير شبيغل» في خانة التحضير لأجواء
الفتنة الداخلية ولن ندخل هنا في تلميحات بعض السياسيين اللبنانيين في هذا
المجال وتكفي الإشارة لـ «دير شبيغل» ولإسرائيل.
نعم، لم تعد قضية المحكمة قضية خلاف جزئي حول مجريات المحاكمة وآلياتها، بل تعدت ذلك لتصبح جزءاً من القضية الوطنية العامة.
لقد
كان هذا الارتباط منذ أن كانت المحكمة، ولن نقف كثيراً هنا عند بديهية
ارتباطها كمؤسسة بمجلس الأمن وصاحب القرار الحاسم بتكوينها وبتعيين اعضائها
وبالتالي لا يمكن أن يكون لهذا المجلس، الأميركي الهوى والقرار، محكمة
منزهة وخارج السيطرة فهذا بعيد عن التصديق، مهما كانت درجة «العبط السياسي»
عند بعض السياسيين في لبنان.
لن ندخل بتفصيلات النقاش حول هذه القضية،
بل سنكتفي بسؤال وحيد للمحكمة ولمن يتطوع للدفاع عن دورها أياً كان هذا
الدور: ما هي الصدفة التي جمعت بين مسار التحقيق حتى حزيران الماضي، مع
الطبيعة السياسية للسلطة التي عمل الغرب والعرب لتثبيتها في لبنان حتى ذلك
الوقت؟ هل هي صدفة التركيز على دور سوريا والضباط الأربعة في تلك المرحلة
وتحييد الآخرين، وبشكل خاص حزب الله؟ وهل السنوات الأربع لم تكن كافية عند
قضاة ومحققين كبار لاكتشاف التزوير في شهادات الشهود، أم أن ضرورات تثبيت
السلطة ومعركة عزل سوريا ومحاصرتها كانت تقتضي هذا المسار؟ واليوم مع
انقلاب الخطة اصبحنا بحاجة الى مسار آخر؟
نعم، بغض النظر عن التحقيق
المفترض، لقد اصيبت مصداقية المحكمة بجرح كبير. وإذا كان موضوع «الحقيقة»
مهماً، خصوصاً عند اللبنانيين، فالمطلوب كان قبل البدء بمسار آخر للتحقيق
وبغض النظر عن طبيعته، معالجة هذا الجرح في المصداقية. وسوى ذلك ستتحول كل
قرارات المحكمة الى وجهة نظر تنضم الى أدوات انقسام الرأي العام اللبناني
على اسس غير وطنية. وبالتالي سنتحول بطبيعة الأمور الى أداة للفتنة يستفيد
منها الأميركي والاسرائيلي في خطتهما العدوانية.
[[[
نعم، استطاع
العدو دراسة نتائج معارك تموز ويعمل على معالجتها، سواء على المستوى
الميداني التسليحي بدعم متسارع من اميركا يصل لحدود الفانتوم ـ 35 والقبة
الحديدية وغيرهما التي يصرح العدو باكتمالها في تشرين الثاني (لاحظ الصدفة
في هذا التاريخ مع إرهاصات تأجيل القرار الظني للمحكمة الدولية حتى
تشرين؟)، أو على مستوى التحضير للفتنة الداخلية اللبنانية، أم على صعيد
تطويع النظام العربي والوضع الفلسطيني بما يخدم هذه الخطة.
بالمقابل،
هل استطاعت القوى اللبنانية وخصوصاً تلك التي عليها جزء كبير من تبعات
مواجهة الخطة الأميركية ـ الاسرائيلية، الاستفادة من نتائج الصمود في تموز
2006 وبالتالي تحصين الوضع اللبناني في مواجهة احتمالات التآمر والعدوان
الجديد؟. وإذا ما تجاوزنا الخطاب الأخير للسيد حسن نصر الله والتأملات
السياسية للعماد ميشال عون، فإن ما حدث من تطورات بعد حرب تموز لا يشي بأن
هذه القوى استفادت كفاية من نتائج العدوان لتحصين الوطن وتعزيز صموده.
لن
نغوص في التفصيلات اليوم ونحن عانينا كثيراً وبُح صوتنا منذ عشرات السنين
ونحن ندعو لعدم عزل حركة مقاومة العدوان الاسرائيلي عن عملية تغيير طبيعة
النظام الطائفي وانعكاسه على المقاومة، ودوره الرديف للاعتداءات
الاسرائيلية، لكن كل ذلك كان يقابل بممارسات معاكسة نراها طبيعية نتيجة
بنية وتركيبة هذه القوى، المذهبية والطائفية.
اليوم، أمام خطورة
الاستهداف الاميركي ـ الاسرائيلي، ومع ترابط العدوان مع شروط الفتنة
الداخلية التي يؤمنها النظام الطائفي، أصبحت أمرا ضرورياً دعوة هذه القوى
للتفكير الجدي بهذه الملاحظات.
اصبح ضرورياً النظر الى شبكات التجسس
و«البيئة المغذية» لها، على ما جاء بخطاب الأمين العام لحزب الله، كقضية
تطال جوهر النظام الطائفي الذي يؤمن شروط التبعية للخارج ويجعل من العمالة
وخصوصاً لاسرائيل ضرورة حماية، ووجهة نظر، وبالتالي الوصول الى استنتاج
حاسم يتجاوز الالتباس اللغوي في الحديث عن «البيئات الحاضنة»، للاعتراف بأن
النظام اللبناني هو البيئة الحاضنة لهذه الأجواء.
وارتباطاً بمهمة
التغيير هذه، التي تتجاوز البعد الطبقي الى وجود لبنان ككيان وطني محصن
بوجه الخطر الاسرائيلي الدائم والداهم، يأتي الموقف من «حكومة النفاق
الوطني»، هذه الحكومة المعطَّلة والمعطِّلة، بتكوينها وطبيعتها، وغير
القادرة (وبعضها لا يريد) على تحصين لبنان أمام احتمالات الفتنة والعدوان.
نعم، هذه الحكومة هي بطبيعتها وارتباطها بأسس النظام الطائفي اصبحت ليس فقط
عاجزة عن مواجهة العدوان، بل ربما هي احد شروط نجاحه. والعمل على تغييرها
يتحول الى قضية وطنية بعد أن كان حاجة للاصلاح السياسي وقضية اجتماعية، وأي
تأخير في هذا المجال سيعمق الوهن الداخلي بوجه العدو.