هذه هي الجزائر........ومضات من تاريخ الجزائر الطويل ننقلها للاخوة في هذا المنتدى وهي عبارة عن سلسلة طويلة لم يتم مراعاة الترتيب الزمني فيها وان كان لاحداث حرب التحرير الوطني وارهاصاتها النصيب الاكبر فيها، ولايفوتني ان أتوجه بالشكر الجزيل للباحث محمد عباس الذي كان وراء هذه الصفحات.
ملحمة اليخت ''دينا''
''قراصنة متربصون في مهمة انتحارية''
ليلة 30 مارس 1955، أرسى اليخت ''دينا'' بشواطئ الناظور، وعلى متنه أول شحنة من الأسلحة الموجهة إلى الجبهة الغربية التي تعاني من ندرة هذه المادة الحيوية منذ اندلاع ثورة فاتح نوفمبر .1954 مغامرة هذا اليخت، الذي يحمل اسم صاحبته ملكة الأردن السابقة عبد الحميد دينا، يرويها أحد أبطالها نذير بوزار المدعو عبد القادر، قائد مجموعة الشبان المتطوعين الذين كان من بينهم الطالب محمد بوخروبة الذي سيشتهر لاحقا باسم هواري بومدين*رئيس الاركان لجيش التحرير الوطني ثم رئيس الجزائر بعدها*.
وتصحح شهادة بوزار(*) بعض المعلومات المتداولة حول هذه المغامرة المثيرة التي كانت عبارة عن ''مهمة انتحارية'' أسندت ''لقراصنة متربصين''.
الطابع الانتحاري يتجلى في المركب نفسه: زورق إنقاذ في الأصل، أدخل عليه صاحبه والد الملكة دينا تعديلات ليصبح ''يختا''، قبل أن يهديه لابنته باسمها.. هذا المركب مرقم بالأردن ويحمل علَم هذا البلد، وكان في حالة رثة، تفرض عليه أن يكتفي بالإبحار قريبا من الشواطئ وألا يغامر في أعماق البحر. وكان قائده جان (ميلان باتشيش) اليوغوسلافي، المسلم، يعرف حالة المركب جيدا، وأن به ثقبا تتسرّب منه مياه الأمواج المتناثرة أو مياه الأمطار.. لكن تكتّم على ذلك، وقبِل قيادة أول رحلة لإمداد ثوار الغرب الجزائري.
ويضم طاقم المركب إلى جانب القائد الربّان إبراهيم النيال، وهو سوداني مختص في تجارة التهريب، على سابق علاقة بأحمد بن بلة وبعض قادة تحرير المغرب كذلك، كما يضم بحارا مصريا مساعدا للنيال، وبحارا متربصا شاميا يقوم بالطبخ في نفس الوقت، فضلا عن ميكانيكي ليبي.
ويقود مجموعة الثوار المرافقين لشحنة الأسلحة (21طنا) نذير (عبد القادر) بوزار، الضابط السابق بالجيش الفرنسي، والذي التحق بالقاهرة قادما من المغرب في خريف .1953
وتضم المجموعة ''7 قراصنة متربصين'' (1) لم يسبق لأكثرهم أن ركبوا البحر وهم:
ـ محمد الصالح العرفاوي، المعروف بالزناني، وهو ثائر لجأ إلى القاهرة بعد انتفاضة فاشلة قام بها المدعو مدني ناحية سوق أهراس.
ـ الجيلالي، وهو ثائر من منطقة القبائل لجأ إلى القاهرة بعد تصفية حارس غابة.
ـ محمد بوخروبة طالب سابق بالأزهر والثانوية الخديوية. كان ضمن دفعة أولى من 20 متطوعا تم تدريبهم على الأسلحة وحرب العصابات ما بين ديسمبر 54 وفبراير .55
ـ أما الأربعة الباقون فيذكر اثنين منهم باسميهما فقط وهما: سي امحمد وسي علي، وهو طالب من منطقة القبائل، فضلا عن طالبين آخرين لم يتذكر اسميهما.
أبحر المركب المثقل بجولته وبهذا الكم من الركاب في 28 فبراير، وكان في توديعه بميناء الإسكندرية ضابط مصري، رفقة مسؤول جزائري يشير إليه الشاهد بحرفي ''س.هـ''، كان المفروض أن يتجه مباشرة إلى طرابلس لشحن كمية إضافية من الأسلحة، لكن حالته فضلا عن زوبعة بحرية مباغتة اضطرته إلى التوقف مرتين بدرنة ثم في بنغازي،
كانت كلتا المرحلتين قاسية على المركب المتواضع ـ الذي لا يتوفر على جهاز لاسلكي ـ وأكثر قسوة على ''الثوار المتربصين''، خاصة بعد أن تضافر عليهم دوار البحر والجوع والوسخ، فضلا عن غزو القمل!
أمام هذه الأهوال، ساءت سلوكات الثوار، وانعكس ذلك في حساسيتهم المفرطة إزاء القائد جان والنيال اللذين يعاملانهم أحيانا بمنطق الباشوية السائد في مصر، ناسيين أنهم جزائريون وثوار إلى جانب ذلك! ولحسن الحظ أن المسؤول بوزار وجد إلى جانب صديقه الزناتي وبوخروبة الذي فرض نفسه كمساعد أول بفضل انضباطه وصموده في نفس الوقت. ومع ذلك، استغل طاقم ''دينا'' الرسو بطرابلس في 8 مارس للنزول إلى المدينة والتظلّم لدى بن بلة ورفاقه!
في اليوم الموالي زار بن بلة المركب، ففوجئ بوزار بالإمكانيات الضئيلة المتوفرة لديه بالعاصمة الليبية.. هذه الإمكانيات المحدودة أدت عمليا إلى فشل محاولة شحن 5,7 أطنان إضافية من الأسلحة. وحسنا كان ذلك، لأن حالة المركب ذاتها لم تكن تسمح بمزيد من الثقل. وللتخفيف أكثر على المركب، اتفق بوزار مع بن بلة على أن يبقى الطلاب الثلاثة برئاسة سي علي بطرابلس، ليلتحقوا بالجزائر عبر الحدود الشرقية.
وقبل أن يستأنف بوزار ورفاقه الأربعة رحلتهم باتجاه صقلية، في 13 مارس، زارهم بن بلة خفية لينبههم لضرورة التزام الحيطة والحذر، ويطمئنهم في نفس الوقت بأنه سيكون في استقبالهم على شواطئ الناظور بالمغرب. وأثناء الرحلة ما بين طرابلس ''وبليرمو''، تعرض المركب أول مرة لمراقبة بحرية وجوية من وحدات الأسطول السادس الأمريكي على الأرجح.
وفي ''بليرمو'' استراح ركاب دينا من 17 إلى 20 مارس. وقد وجدوا بها س. هـ (الذي كان في توديعهم بالإسكندرية) فقدم لهم مبلغا من المال لاقتناء حاجاتهم من المؤونة والوقود، فضلا عن خطة سير المشوار الأخير: ''بليرمو'' ـ ''قرطخنة'' (إسبانيا). لكن قبل الوصول، يتحول المركب جنوبا نحو شواطئ مليلية بالريف الإسباني.
غادر المركب صقلية بعد ظهر 20 مارس في الاتجاه المذكور. وفي 26 منه على الساعة الخامسة عصرا، أطل أول مرة على الشواطئ الجزائرية المغربية. كان بوخروبة أول من شاهد الشاطئ فأخذ يصرخ:
''يا الخاوة بلادنا! يا الخاوة بلادنا!''.. ثم سارع إلى بوزار يقبّله بلا حساب، وما إن وضع رأسه على رأسه حتى انهمرت الدموع من عينيه، لتنساب غزيرة على وجه محتضنه. وبعد هذه اللحظة العاطفية، تدفق الحماس الوطني من حناجر الثوار الشباب الذين أنشدوا كرجل واحد: ''بلادي بلادي.. أنت حبي وفؤادي''!
حسب الموعد الأول، أن يقترب المركب ليلة 27 مارس من شواطئ شرق الناظور، على أن يتلقى على الساعة العاشرة والنصف إشارات ضوئية تحدد له مكان الإنزال.. لكن الإشارات المنتظرة لم تأت. وبعد فترة حرجة من الانتظار، اضطرب البحر مرة أخرى فلجأ القائد ''جان'' مكرها إلى ميناء مليلية، حيث تعرّض المركب إلى تفتيش دقيق من طرف شرطة الميناء، دون أن تكتشف البطاقة المشبوهة لحسن الحظ.
وفي مليلية، تمكن بوزار من الاتصال بشبكة جبهة التحرير هناك، فحددت له ليلة 30 مارس لإنزال الحمولة شرق مرسى ''كابو دي أفوى'' (رأس الماء). وكان ثوار المنطقة الخامسة هذه المرة في الموعد، فأطلقوا الإشارات الضوئية في الوقت المناسب. وبناء على ذلك اقترب المركب من الشاطئ، وبعد عملية تثبيته استقبل بوزار ورفاقه على متنه المجاهد عمار شيبان (المدعو بومدين)، وتم الاتفاق على تكوين سلسلة من الثوار، بعد مد خطين من الجبال ما بين اليخت والشاطئ، وهكذا بدأت عملية الإنزال.
كان السلاح يجمع بداية في ربوة بين الشاطئ وحافة الجبل، ثم ينقل بعد ذلك إلى المنازل على الأكتاف والحمير، في انتظار توزيعه بنسبة الثلثين إلى جيش التحرير الوطني والثلث الباقي إلى جيش التحرير المغربي...
وبعد إنجاز العملية، جنح اليخت مدفوعا بحركة الأمواج القوية.. وقد أبقى فيه بوزار رفاقه الأربعة رفقة الطاقم، والتحق بالثوار الذين شاركوا في إنزال الأسلحة.
وفي صبيحة 30 مارس، اكتشف خفر السواحل الإسبانية اليخت الجانح، فقاموا بسحبه إلى مرسى ''كابو دي أفوى''.. وبعد التحريات العادية اعتبر الأمر جنوحا اضطراريا.. فأفرج عن طاقمه وبوخروبة ورفاقه الثلاثة. وقد أقام الجميع بفندق هناك تحت غطاء إصلاح المركب... وهناك اتصل بهم بوزار خفية، قبل أن يلتحق بجيش التحرير المغربي الذي عيّنه قائدا مدربا بمركز جنان الرهوني في ضواحي تطوان.
ومن ''كابو دي أفوى'' تم تهريب بوخروبة ورفاقه إلى داخل الجزائر، بينما عاد اليخت ''دينا'' من حيث أتى بمجرد إصلاحه.
وهكذا تنتهي ''أوديسا دينا'' حسب تعبير القائد نذير بوزار.
(*) NADIR BOZAR, L'odyssée
du dina, bouchene- enal, Alger 1993
(1) الثوار السبعة حسب فتحي الديب هم: محمد بوخروبة، محمد الصالح العرفاوي، محمد عبد الرحمان (الجيلالي؟)، محمد حسين (سي أمحمد؟)، عبد العزيز مشري، علي مجاوى، أحمد شنوت.