مذبحة القلعة ونهاية دولة المماليك بعد
خروج الحملة الفرنسية من مصر سنة (11216 ه= 1801م)، سادت مصر حالةٌ من
الفوضى والاضطراب، نتيجة لصراع المماليك على الحكم، وانقسامهم على أنفسهم،
فبعضهم يسعى إلى السيطرة على الحكم في البلاد والوصول إلى السلطة بدعم من
إنجلترا، التي بدأ شعورها يتنامى بأهمية مصر، وخشيت من عودة النفوذ
الفرنسي إليها، ومن ثم فقد حرصت على أن توطد أقدامها في مصر، وأن يكون
أصحاب السلطة فيها من الموالين لها؛ فسعت إلى تأييد تلك الطائفة من
المماليك ومعاونتها على الوصول إلى الحكم.
أما
الفريق الآخر فكان يرى أنه يمكنه الاستقلال بالحكم دون مساعدة من أي قوى
خارجية، وذلك بإيجاد نوع من التحالف والتنسيق بين بعض قوى المماليك ذات
المصالح المشتركة، والأهداف المتقاربة.
قوى شعبية وزعامات وطنية
وظهرت
قوة أخرى في مصر لا تقل نفوذًا ولا تأثيرًا عن المماليك الذين بدأت قواهم
تخور وشوكتهم تضعف؛ نتيجة الصراع الدائم بينهم والمؤامرات المستمرة.
بدأت
تلك القوة الجديدة -قوة القيادات الشعبية متمثلة في العلماء والمشايخ
والتجار- يزداد تأثيرها ويتسع نفوذها مع ضعف المماليك، وأفرزت تلك القوة
زعامات وطنية أصيلة حاولت أن تساهم بشكل جاد في توجيهه الأمة، وإقالتها من
عثرتها، والنهوض بها في مواجهة الأخطار المحدقة بها، سواء في الداخل أو
الخارج.
وشعرت
تلك القيادات الشعبية والوطنية بحاجة البلاد إلى شخصية قوية يلتف حولها
الجميع لتتولى زمام الأمور في لبلاد، وتقود مسيرة الحياة فيها.
ووجدت
تلك القيادات بغيتها في أحد ضباط الحامية العثمانية، حيث توسمت فيه القدرة
والكفاءة لتولى حكم مصر، وكان ذلك الضابط هو "محمد علي" الذي التفت حوله
القيادات الشعبية حتى صدر فرمان ولايته لمصر في (12 صفر 1220ه= 12 من مايو
1805م).
وسعت
تلك القيادات إلى تثبيت دعائم حكم محمد علي لمصر، فقادوا حملة لجمع
التبرعات وتدبير الأموال اللازمة لدفع المرتبات المتأخرة للجنود الذين بدأ
التمرد يسري بينهم، كما كان لتلك القيادات دور مهم في الإبقاء عليه واليًا
للبلاد رغم محاولات "الباب العالي" نقله من مصر.
الإنجليز في رشيد
وكان
لتحالف تلك القيادات الوطنية ومن حولها جموع الشعب مع محمد علي أكبر الأثر
في إلحاق الهزيمة بالحملة العسكرية الإنجليزية التي ضمت نحو أربعة آلاف
جندي قرب "رشيد"، في (18 من المحرم 1222 ه= 29 من مارس 1807م) والتي جاءت
لتأييد بعض عناصر المماليك، وتمكينهم من الوصول إلى الحكم في مصر ليكونوا
أعوانًا لهم.
وأحس
محمد علي بخطورة المماليك، وتهديدهم لأمن واستقرار البلاد؛ فعمل على
إبعادهم عن القاهرة، وتعقّبهم في الصعيد، حتى استطاع أن يخضع الصعيد
لحكمه، واستقرت له الأمور، وأبدى له بعض المماليك الذين فروا إلى الصعيد
الطاعة والولاء، فسمح لهم بالعودة إلى القاهرة، ولكنهم ظلوا يتآمرون عليه
ويدبرون المكائد للتخلص منه.
أصبحت
مقاليد السلطة في مصر بيد محمد علي، واستقر له حكم البلاد، ولكنه بدأ يشعر
بالقلق إزاء تصاعد نفوذ القيادة الشعبية، والزعامة الوطنية التي كانت
سببًا في وصوله إلى الحكم، واختارته واليًا على البلاد، فبدأ يسعى إلى
التخلص منها خوفًا من انفرادها بالحكم بعد أن تُستنزف قوته في حرب
المماليك، وسعى محمد علي إلى الوقيعة بين القيادة الشعبية متمثلة في
المشايخ، ثم نفى السيد "عمر مكرم" خارج القاهرة في عام [1224 ه=1809م]،
واستطاع أن يقلص نفوذ المشايخ، ويحدّ من دورهم في الحياة العامة.
محمد علي ومؤامرات المماليك
وبالرغم
من محاولات محمد علي الدءوبة للتخلص من مراكز القوى في دولته متمثلة في
زعماء المماليك، فإنه ظل يقاسي من مؤامراتهم وغدرهم، وكانت كل الدلائل
تشير إلى أن المماليك سيتعاونون مع الإنجليز.
وفي
بداية شهر (المحرم 1226 ه= يناير 1811م) سافر محمد علي إلى السويس، ليتفقد
الأعمال التي كانت تجري في مينائها، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى القاهرة في
(10 من المحرم 1226ه= فبراير 1811م) بعد أن وصلته الأخبار بضبط رسائل
مريبة متبادلة بين مماليك القاهرة، وزملائهم في الوجه القبلي.
في
تلك الأثناء أرسل إليه السلطان العثماني "محمود" يطلب منه إرسال قواته إلى
نجد للمساعدة في القضاء على الثورة الوهابية، وعندئذ قرر محمد علي القضاء
على المماليك قبل خروج الجيش بقيادة ابنه "طوسون" إلى "نجد"؛ حتى لا
يثوروا ضده بعد خروج الجيش.
يوم المهرجان!
محمد علي في مجلس حكمه
أعد
"محمد علي" مهرجانًا فخمًا بالقلعة دعا إليه كبار رجال دولته، وجميع
الأمراء والبكوات والكشاف المماليك، فلبى المماليك تلك الدعوة وعدوها دليل
رضاه عنهم، وقبل ابتداء الحفل دخل البكوات المماليك على محمد علي فتلقاهم
بالحفاوة، ودعاهم إلى تناول القهوة معه، وشكرهم على إجابتهم دعوته، وألمح
إلى ما يناله ابنه من التكريم إذا ما ساروا معه في الموكب، وراح محمد علي
يتجاذب معهم أطراف الحديث؛ إمعانًا في إشعارهم بالأمن والود.
وحان
موعد تحرك الموكب، فنهض المماليك وبادلوا محمد علي التحية، وانضموا إلى
الموكب، وكان يتقدم الركب مجموعة من الفرسان في طليعة الموكب، بعدها كان
والي الشرطة ومحافظ المدينة، ثم كوكبه من الجنود الأرناؤود، ثم المماليك،
ومن بعدهم مجموعة أخرى من الجنود الأرناؤود، وعلى إثرهم كبار المدعوين
ورجال الدولة.
وتحرك
الموكب ليغادر القلعة، فسار في طريق ضيق نحو باب "العزب"، فلما اجتاز
الباب طليعة الموكب ووالي الشرطة والمحافظ، أُغْلِق الباب فجأة من الخارج
في وجه المماليك، ومن ورائهم الجنود الأرناؤود، وتحول الجنود بسرعة عن
الطريق، وتسلقوا الصخور على الجانبين، وراحوا يمطرون المماليك بوابل من
الرصاص، أخذت المفاجأة المماليك وساد بينهم الهرج والفوضى، وحاولوا
الفرار، ولكن كانت بنادق الجنود تحصدهم في كل مكان، ومن نجا منهم من
الرصاص فقد ذُبِح بوحشية.
وسقط
المماليك صرعى مضرجين في دمائهم، حتى امتلأ فناء القلعة بالجثث، ولم ينج
من المماليك الأربعمائة والسبعين الذين دخلوا القلعة في صبيحة ذلك اليوم
إلا واحد يسمى "أمين بك" كان في مؤخرة الصفوف، واستطاع أن يقفز بجواده من
فوق سور القلعة، وهرب بعد ذلك إلى الشام.
الفوضى تسود المدينة
وصل
خبر تلك المذبحة إلى الجماهير المحتشدة في الشوارع لمشاهدة الموكب فسرى
الذعر بينهم، وتفرق الناس، وأقفلت الدكاكين والأسواق، وهرع الجميع إلى
بيوتهم، وخلت الشوارع والطرقات من المارة.
وسرعان
ما انتشرت جماعات من الجنود الأرناؤود في أنحاء القاهرة يفتكون بكل من
يلقونه من المماليك وأتباعهم، ويقتحمون بيوتهم فينهبون ما تصل إليه
أيديهم، ويغتصبون نساءهم، وتجاوزوا بالقتل والنهب إلى البيوت المجاورة.
وكثر
القتل، واستمر النهب، وسادت الفوضى ثلاثة أيام، قُتل خلالها نحو ألف من
المماليك ونُهب خمسمائة بيت، ولم يتوقف السلب والنهب إلا بعد أن نزل محمد
علي إلى شوارع المدينة، وتمكن من السيطرة على جنوده وأعاد الانضباط..
وهكذا استطاع محمد علي الانفراد بالحكم، ولكن على أشلاء المعارضين.
منقول <B>