واقع الحركة الوطنية الجزائرية بعد الحرب العالمية الثانية
خلال الحرب العالمية الثانية (1939ـ 1945) لم يتغير الموقف الفرنسي باعتبار (الجزائر فرنسية)، لا بل شنت السلطات الفرنسية حملة اعتقالات واسعة ضد المنظمات الوطنية وقادتها (خاصة حزب الشعب) وبرز خلال هذه الفترة فرحات عباس وحزبه (اتحاد المسلمين..) وقدم (بيان الشعب الجزائري) في 10فبراير ـ 1943، طالب فيه الاشتراك في الحكم وليس الاستقلال فيما أصرت السلطات الفرنسية على أن (الجزائر فرنسية) وأن ذلك (مبدأ لا يحتمل المناقشة)، لكن السلطات الفرنسية عادت وقدمت تحت ضغط الشعب وبيانات الحركة الوطنية وظروف الحرب العالمية الثانية مشروع (الإصلاحات) في 7 مارس ـ 1944، ولم يكن هذا المشروع إلا خطوة نحو الاندماج، فعارض الشعب ومنظماته الوطنية ذلك المشروع، وألفت الأحزاب الوطنية جبهة (أصدقاء البيان والحرية) في 14 مارس ـ1944، وحددت مطلباً (معتدلاً) يقوم على (الدفاع عن إنشاء جمهورية جزائرية ذات استقلال ذاتي تتوحد في اتحاد فيدرالي مع جمهورية فرنسية جديدة معادية للاستعمار)، كما حددت مطالب اجتماعية واقتصادية أخرى(14)، ويبدو أن هذا المطلب (المعتدل) قد تم تحت تأثير فرحات عباس، فيما تمت المطالب الاجتماعية والاقتصادية بتأثير حزب الشعب، إلا أنه في المؤتمر الأول لـ (أصدقاء البيان والحرية) المنعقد في مارس ـ 1945 يعود حزب الشعب إلى تأكيد موقفه السابق، فبعد أن ينادي بمصالي الحاج (زعيماً) لشعب الجزائر، ويطالب بالإفراج عنه (نفي إلى الكونغو عام 1943)، يؤكد على مبدأ (الاستقلال). وقد شعرت السلطات الفرنسية بخطورة جماعة (أصدقاء البيان والحرية) فاستغلت احتفالات الشعب بانتصار الحلفاء يوم 8 ماي ـ 1845، لتنفيذ مخطط التصفية بعد أن لمست تأكيد الشعب على الاستقلال التام (تحيا الجزائر المستقلة)، فكانت (مذابح سطيف) التي راح ضحيتها الآلاف (قدرتها العديد من المصادر بـ 45 لف شهيد) وقامت بحل (جماعة أصدقاء البيان) وممارسة الاعتقالات بشكل واسع شمل قادة الأحزاب الوطنية(15).
ما بعد احداث 08 ماي 1945
خلال تلك الفترة، تعمق الاتجاه الاستقلالي وبدأت فكرة العودة إلى أسلوب الكفاح المسلح تتشكل داخل هذا الاتجاه، فقد ذكر مؤرخ معاصر للأحداث آنذاك قوله، إن مجزرة 8 ـ ماي ـ 1945، كانت (طعنة مريرة بالنسبة للحركة الوطنية، أثبتت للشعب وأكدت للمناضلين المكافحين، بأن حرية الجزائر لا يمكن أن تتحقق بوسائل (اللاعنف) أو (الثورة بالقانون) وأن الاستعمار لا يمكن أن يسلم بحق الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال إلا بالقوة والعنف) و(أن هذه الحقيقة كانت محل دراسة طويلة وعميقة من طرف حزب الشعب..)(16)، وخاصة العناصر الشابة فيه. ومنذ هذه الفترة أيضاً، والفترات اللاحقة، كانت البداية للدعم العربي تجاه كفاح الشعب الجزائري من خلال جامعة الدول العربية (تأسست في 22 مارس ـ 1945) أو من الدول العربية المنضمة إليها كل على انفراد، إضافة إلى جهودها في المحافل الدولية. فلقد هبت الجامعة العربية مستنكرة بشدة هذا الظلم الإنساني المفجع، وقامت باطلاع الرأي العام العالمي على جرائم الفرنسيين في الجزائر واستصرخت ضمير الدول الكبرى للتوسط لدى الفرنسيين للكف عن جرائمهم، وعقدت من أجل ذلك عدة اتصالات ديبلوماسية لبيان رد الفعل لدول الجامعة العربية وإلى إقناع الدول التي أجرت معها الاتصالات بالخطأ الكبير الذي ترتكبه السياسة الفرنسية في المغرب العربي(17) ومنذ تلك الفترة بدأت القضية الجزائرية تأخذ طريقها في مدارج الجامعة العربية واهتماماتها العربية والدولية بشكل كبير
تمهيدات وضع الدستور.
في عام 1946، أصدرت الحكومة الفرنسية قراراً بعودة الحياة الطبيعية إلى فرنسا، والتمهيد لوضع دستور جديد للبلاد وانعكس ذلك على مستعمراتها في الخارج، وعليه، فقد استفادت أقطار المغرب العربي (الجزائر، تونس، موريتانيا، المغرب) من ذلك، وفي الجزائر أصدرت السلطات الفرنسية المحتلة عفواً عاماً عن الزعماء الجزائريين المعتقلين، فعاد نشاط الحركة الوطنية، وتشكل حزبان جديدان في التسمية الأول هو (حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري) برئاسة فرحات عباس، والذي انتقل فيه خلال مسيرته (حتى عام 1956)، من (الاندماج) إلى (الاعتدال) ـ الاستقلال الذاتي ـ، وكان هذا التغيير بسبب يأسه من سياسة الإدماج، وشعوره بالتفرقة في المعاملة بين الجزائريين وأقرانهم الفرنسيين، وكان تأسيس هذا الحزب، بداية انفصال فرحات عباس عن (اتحاد المسلمين الجزائريين المنتخبين). أما الحزب الثاني فهو (حزب الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية) برئاسة مصالي الحاج، وقد شكله أتباعه أثناء نفيه، وهذا الحزب هو الواجهة العلنية لحزب الشعب، فيما استمرت بقية الأحزاب الوطنية على حالها.
على الرغم من دعوة الحكومة الفرنسية إلى (عودة الحياة الطبيعية) إلا أنه لم يطرأ تغيير جوهري على سياستها في الجزائر وبقية أقطار المغرب العربي، فقد نص دستور الجمهورية الفرنسية الرابعة (صدر في 10 أكتوبر ـ 1946) على أن الجزائر (جزء من فرنسا)، كما أن التشريع الخاص بتأسيس (الجمعية الجزائرية) [صدر في 20 سبتمبر ـ 1947] والذي أشار إلى إعطاء بعض الحقوق السياسية للجزائريين بقي (حبراً على ورق)، إضافة لما جرى فيه من (تزوير) في عمليات الانتخاب(18) وهذا ما دفع بالحركة الوطنية الجزائرية وفي عموم أقطار المغرب العربي إلى التأكيد على ضرورة تغيير أسلوب النضال بالاتجاه الذي يجبر الحكومة الفرنسية وسلطاتها المحتلة في المغرب العربي إلى الرضوخ للمطالب الوطنية في الحرية والاستقلال. وبدأت مرحلة جديدة في الكفاح الوطني والمغاربي في الداخل والخارج (دمشق ـ القاهرة)، تجسدت فيها الاتجاهات الوحدوية بشكل أكبر على صعيد الفكرة والتطبيق بتأسيس (مكتب المغرب العربي) في القاهرة عام 1947 فضلاً عن فرعه في دمشق، وتأسيس (لجنة تحرير المغرب العربي) برئاسة محمد بن عبد الكريم الخطابي في مطلع عام 1948 وفي القاهرة أيضاً كما سيتضح لاحقاً.
(1) فاضل حسن وزميله: التاريخ الأوربي الحديث 1815 ـ 1939، ط1، مطابع دار الكتب (الموصل 1982)، ص143ـ 145,
(2) عبد الحميد براهيمي: المغرب العربي في مفترق الطرق في ظل التحولات العالمية، مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت 1996) ص53؛ حسين، المصدر السابق،
ص146.
(3) للمزيد من التفاصيل، انظر:
د. شوقي الجمل: المغرب العربي الكبير في العصر الحديث، مكتبة النهضة المصرية، (القاهرة 1976)، ص257ـ405؛
د. زاهية قدورة: تاريخ العرب الحديث، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، (بيروت 1975)، ص488ـ595؛
Charles Rober Ageron: Histoire de L’Algerie Contemoraine, 1830 – 1976 Presses Universitaires de France, (paris 1977), PP. 6 – 6.
(4) للمزيد من التفاصيل عن سياسة فرنسا في الجزائر منذ عام 1830 وحتى عام 1962 على الصُّعُد السياسية والاقتصادية والاجتماعية الثقافية والصحية وغيرها، انظر:
عبد الرزاق الهلالي: قصة الأرض والفلاح والإصلاح الزراعي في الوطن العربي، ط1، دار الكشاف (بيروت 1967)، ص44 ـ 45 ـ 151، 176 ـ 177، 310؛
جان دولف: يقظة العالم العربي، ترجمة لجنة من الأساتذة الجامعيين، دار الكشاف، (بيروت 1960)، ص243، 281ـ282؛
حكمت شبر: الجوانب القانونية لنضال الشعب العربي من أجل الاستقلال، دار الحرية للطباعة، (بغداد 1975)، ص148، 150ـ 154، 159؛
ج. لاندا: تاريخ الثورة الجزائرية 1954ـ 1962، دار ناركا (العلم) للنشر، (موسكو 1983)، ص21؛ (مصدر روسي).
مجلة المجاهد (الجزائرية): أضواء على السياسة الاستعمارية التعليمية في الجزائر 1940ـ1962، العدد (1965) السنة 1988، ص36ـ37؛ براهيمي، المصدر السابق، ص54.
(5) امحمد مالكي: الحركات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت 1994)، ص166ـ 179؛ براهيمي، المصدر السابق، ص55.
(6) عبد القادر جغلول: تاريخ الجزائر الحديث، ط2، ترجمة، فيصل عباس، دار الحداثة، (بيروت 1982)، ص131ـ132؛
علال الفاسي: محاضرات في المغرب العربي منذ الحرب العالمية الأولى، مطبعة نهضة مصر، (القاهرة 1955)، ص77ـ80؛ مالكي، المصدر نفسه، ص177.
(7) جغلول، المصدر السابق، ص132.
( للمزيد من التفاصيل، انظر:
خيرية عبد الصاحب وادي: الفكر القومي العربي في المغرب العربي، دار الرشيد للنشر، (بغداد 1982)، ص72ـ74، 76ـ78، 85ـ87، 90ـ97، 102، 211ـ116، 118ـ120؛ مالكي، المصدر السابق، ص231ـ235.
(9) لم يتوقف فرحات عباس عند هذا الاتجاه الاندماجي، بل انتقل في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى (الاعتدال) في المطالبة بالحقوق الوطنية الجزائرية ـ الاستقلال الذاتي ـ ثم ما لبث أن قادته بصيرته السياسية إلى الدفاع عن الاستقلال الكامل للجزائر والالتقاء مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية عام 1956. للمزيد انظر:
صلاح العقاد: المغرب العربي، مكتبة الانجلو المصرية، (القاهرة 1980)، ص393ـ395؛ الفاسي، المصدر السابق، ص91؛
مجلة الدستور، العدد 489، السنة 17، تموز ـ يوليو 1987، ص15.
(10) د. محمد المنجي الصيادي: ملامح التطور الفكري في المغرب العربي، المستقبل العربي، العدد (2) السنة (بيروت 1980)، ص16؛ مالكي، المصدر السابق، ص266،276، 285ـ296؛ محمد قنانيش ومحفوظ قداش: نجم الشمال الأفريقي 1926ـ1937، ديوان المطبوعات الجامعية (الجزائر 1984)، ص40ـ48، 5ـ58.
(11) المجلة التاريخية المغربية، العدد (15 كانون الثاني ـ يناير ـ 1976)، ص59؛ براهيمي، المصدر السابق، ص66.
(12) للمزيد من التفاصيل، انظر:
علي الشلقاني: ثورة الجزائر، ط1، (بلا)، (القاهرة 1956)، ص204ـ205؛ مجموعة مؤلفين: تاريخ الأقطار العربية المعاصر، دار التقدم، (موسكو 1976) الجزء الثاني، ص226ـ232؛
Marlin Robbe: Welt des islam, verilag ur populiarwissen – schatche, (leibzig 1966), PP.133 – 134, (مصدر ألماني);
الفاسي، المصدر السابق، ص82ـ83، 89ـ94، وادي، المصدر السابق، ص129، 134ـ144؛
(13) الصيادي، المصدر السابق، ص18.
(14) للمزيد من التفاصيل، انظر:
الشلقاني، المصدر السابق، ص195ـ204؛ شبر، المصدر السابق، ص151ـ152؛
(15) الشلقاني، المصدر نفسه، ص204ـ208.
(16) يحيى بو عزيز: ثورات الجزائر في القرنين التاسع عشر والعشرين، ط1، دار البعث (قسطنطينة 1908)، ص293.
(17) جميل الشقيري: الأهداف القومية والدولية لجامعة الدول العربية، بلا، (دمشق 1955)، ص225.
(18) العقاد، المصدر السابق، ص229.