الأصول القرآنية للفكر الجغرافي العربي

الأصول القرآنية للفكر الجغرافي العربي

د.عز الدين مفلح

الأصول القرآنية للفكر الجغرافي العربي Hilal8

فيالعصر العربي الإسلامي، لعب العرب دورا أساسيا في تقدم العلوم الحديثة،برغم تعدد أنواعها، مترجمين ومقتبسين، مما عثروا عليه من تراث الفراعنة،واليونان، والرومان، والفرس، والهنود وغيرهم، من أصحاب الحضاراتالقديمة... وكل هذا مكّن الأجيال التالية، من أن تقف على تطورات العلوم،من العصور المتعاقبة، وبعد دراستهم لتراث الأمم السابقة، بدؤوا في بناءنهضة عربية إسلامية مجيدة، فأضافوا ما رأوه من تحسينات ونظريات علمية.والفضل الأول يرجع إلى القرآن الكريم، الذي وضع نواة النهضة العربيةالإسلامية، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، ذلك الدستور السماوي الشامل،الذي أمرنا باتباعه، وأودع فيه مفاتيح العلم، في شكل إشارات وومضات، تحملحقائق مطلقة وشاملة ونهائية.
ومن زاوية الفكر الجغرافي، جاء في القرآن الكريم، ما يفسر كثيرا منالظواهر الجغرافية، التي كانت خافية في العصر القديم، حول حركة النجوموالكواكب، وتوازن الأرض وشكلها، ووظيفة الجبال، وأنواع السحب والأمطار،وأنواع الرياح والتوازن الكوني، والفضاء الكوني، وقوة التجاذب بينالأفلاك، وعوالم المجرات، وبحر الفضاء الكوني، وغيرها من الحقائقالجغرافية، التي وضعت الأساس العلمي السليم، لتطور الفكر الجغرافي.
ظواهر الجغرافية في القرآن الكريم
في قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان)، بمعنى أنالبحرين، العذب والمالح، بينهما برزخ أو غشاء دقيق، غير مرئي على الإطلاق،يحول دون اختلاط أحدهما بالآخر، وهنا يكمن الإعجاز القرآني، فعند لقاء نهرالنيل بمياه البحر المتوسط المالح، يندفع خط الماء العذب، يشق طريقه وسطمياه البحر المتوسط المالحة، دون أن يختلط بها، فهي حقيقة جغرافية أبرزهاالقرآن الكريم، منذ أكثر من 1400 عام.
وهنا لنا وقفة إجلال وخشوع، أمام هذا الإعجاز القرآني العظيم، في قولهتعالى: (مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان). وقوله تعالى: (يخرجمنهما اللؤلؤ والمرجان. فبأي آلاء ربكما تكذبان). وهذه الظاهرة الجغرافية،وردت في أربع سور قرآنية هي: الرحمن، والفرقان، والنحل، وفاطر. وجوانب هذهالظاهرة الجغرافية، تتمثل في وجود بحرين متجاورين، أجراهما الله تعالى،أحدهما عذب فرات، والثاني ملح أجاج، والماء في البحرين يلتقي، ولكنه لايمتزج أو يختلط، لوجود برزخ حاجز بينهما، ومن البحرين معا يستخرج اللؤلؤوالمرجان.
الصورة الجغرافية، تمثل إعجازا قرآنيا، فكيف يلتقي الماء العذب، والماءالمالح، ولا يختلطان ويمتزجان؟ وهذه ظاهرة هامة في الجغرافيا الطبيعية.وتتكرر في سورة الرحمن، صور جغرافية متنوعة، تحمل عظمة الرحمن وقدرتهالعظيمة المعجزة، في خلق نعمه لخير عباده، وهو سبحانه وتعالى، يوجه تقريعهإلى أولئك الذين يجحدون نعمه، أو ينكرون معجزاته في الإنس والجن، بقولهتعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان). وقد وردت في سورة الرحمن، إحدى وثلاثينمرة.
وهذه الظاهرة الجغرافية بجوانبها، تتحقق في الركن الشمالي الغربي، منالخليج العربي، قرب جزر البحرين، كما يبدو من الخريطة المعروفة، وهي منطقةاشتهرت منذ القدم، باستخراج اللؤلؤ والمرجان، من مياهها، وكانت من أهممناطق الإنتاج عالميا، حتى تحول الاهتمام اقتصاديا، نحو استخراج النفط منمياه الخليج العربي وسواحله، وكان الغواصون في موسم الصيف، يخرجون إلىمواطن الصيد في أعداد كبيرة، كانت تصل أحيانا إلى نحو 70 ألفا، وكانوايخرجون في أساطيل من سفن الصيد، من كل مناطق الخليج العربي. وكان هؤلاءالغواصون يحصلون على ما يحتاجون إليه من الماء العذب طوال موسم الصيد فينحو ثلاثة أشهر من عيون مياه عذبة، تندفع من قاع الخليج العربي اندفاعاقويا وسط الماء المالح، في شريط رأسي متدفق يحميه برزخ أو غشاء دقيق غيرمرئي، فلا يختلط الماء العذب بالماء المالح، وهذه العيون من الماء الجوفيالعذب منتشرة في قاع الخليج العربي حول جزر البحرين في مواقع تعرفبالكوكبات... والماء يندفق منها دون انقطاع، وهي تستمد الماء الجوفي مننفس المصدر الذي يغذي العيون في جزر البحرين وفي إقليم الحسا السعوديالمشرف على القسم الغربي من الخليج العربي في منطقة الهفوف ومنطقةالقطيف... والمياه الجوفية هنا غزيرة كما يبدو من خريطة القطاع الجغرافي.
هذه الصورة المتكاملة لهذه الظاهرة الجغرافية بل المعجزة القرآنية واضحةالمعالم في الجزيرة العربية أمام العرب. وهم أول من توجه إليهم خطابالقرآن الكريم. ففي هذه الصورة الجغرافية يتوافر بحران أحدهما مالح هوالخليج العربي، والآخر عذب فرات هو مجموعة الكوكبات أو العيون العذبة التييندفع منها الماء العذب من جوف قاع الخليج العربي. وفي هذه الصورة أيضايلتقي الماء العذب والمالح فيتوافر البرزخ المائي لشدة انبثاق مياه العيونمندفعة إلى أعلى من شريط رأسي مغلف بهذا البرزخ أو الغشاء الرقيق غيرالمرئي وهو لا يجعل أحد الماءين يبغي على الآخر ويمتزج به.
ومن البحرين يستخرج اللؤلؤ والمرجان كموطن من أهم مواطن إنتاجه في العالم.ويرجح أن جزر البحرين سميت بهذا التعريف الدقيق نسبة إلى هذين البحرينالمشار إليهما. وبعد.. ألا يمكن اعتبار هذين البحرين هما البحرانالمنشودان اللذان عناهما القرآن الكريم حيث تجري آياته تقول: (مرج البحرينيلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، يخرج منهمااللؤلؤ والمرجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان).
وفي قوله تعالى: (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريّاً وتستخرجوامنه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه، ولتبتغوا من فضله ولعلكمتشكرون). وقوله تعالى: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلالعلكم تهتدون). إنه يحدد الوظائف الاقتصادية للبحر جغرافياً ممثلة فيالبحر مصدراً رئيسياً لغذاء الإنسان من أسماك بأنواعها المختلفة وزيوتحيوانية بحرية، فضلا عن أهمية الطحالب حديثا في استخراج بعض الأدويةوالعقاقير الطبية...
والبحر كذلك طريق هام للمواصلات والنقل البحري. وهنا نشير إلى تنوع شبكاتالنقل البحري التي تغطي كل البحار والمحيطات، ونخص بالذكر أهم طريق ملاحيوهو الذي يمتد من المحيط الهادئ حتى سنغافورة جنوب شبه جزيرة الملايو وهيالبوابة البحرية للمحيط الهندي ثم يخترق هذا الطريق الملاحي المحيط الهنديإلى عدن عند باب المندب فالبحر الأحمر ثم قناة السويس إلى البحر المتوسطوبعده يخترق الطريق من مضيق جبل طارق إلى المحيط الأطلسي. وعند قناة بنمابأمريكا الوسطى، يخترق الطريق هذا الممر المائي ليعود إلى المحيط الهادئمرة أخرى. وفي هذا الطريق الرئيسي تصب عدة شبكات ملاحية آتية من البحارالمجاورة مثل الخليج العربي والبحر الأسود والأدرياتيكي عند القدمالإيطالي وخليج فرنسا والبحر الكاريبي وخليج بسكاي غرب فرنسا والبحرالكاريبي وخليج المكسيك بأمريكا الوسطى.
تشير هذه الآيات الكريمة إلى شبكات الأنهار وشبكات الطرق وأهميتهاالرئيسية في الاقتصاد الإقليمي... وخريطة أفريقيا الطبيعية تشكل مثلا جيدالشبكات النقل النهري في القارة، ولاسيما نهر النيل، هذا فضلا عن الممراتالجبلية في الشمال الأفريقي وحوض البحر المتوسط وأهميتها في ربط الوطنالعربي والإسلامي بالعالم الخارجي.
وتوضح خريطة أفريقيا أيضا الجزء القلب أو الرئيسي والخط الملاحي العالميالذي أشرنا إليه ومدى ارتباطه بالمحيطات والبحار المجاورة فضلا عن المضائقوالقنوات المائية. في قوله تعالى: (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرضالجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون). والأرضالجُرُز هي التي لا نبات فيها جرد قاحلة يابسة، وهنا إشارة إلى نوع منأنواع التربة الملحية الفقيرة الشديدة التماسك.
وفي موضع آخر أشار القرآن الكريم إلى ظاهرة تصنيف التربة في قوله تعالى Sad

وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقىبماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون).وفي هذه الآيات الكريمة أبرز القرآن الكريم الحقائق الجغرافية الآتية:ظاهرة التربة الملحية الفقيرة وهي على أنواع، منها: التربة السبخيةالمستنقعية. والتربة الملحية الجافة، وتربة بطون الأودية الجافة. وكلهامعروفة عند العرب في شبه الجزيرة العربية التي تقطعها شبكات كثيرة منالأودية الجافة، من أشهرها: وادي الروة ووادي الدواسر في وسط الجزيرة.ووادي حضرموت في جنوبها، وأودية جيزان ونجران في غربها. وكذلك أراضيالخليج العربي السبخية الفقيرة.
وهنا تبرز ظاهرة تباين أنواع التربة في الأراضي المتجاورة، كالتربةالطينية السوداء والتربة البنية والتربة الحمراء والتربة الصفراء، وتختلفباختلاف نسب عناصرها كالحديد مثلا وبعض الأملاح الأخرى. وهي أيضا ظاهرةواضحة المعالم ولاسيما في أراضي الحجاز والأنحاء المطلة على الخليج العربيوأراضي العراق وأراضي اليمن.
وهناك أيضاً ظاهرة التباين في أنواع الإنتاج الزراعي، من حيث مدى الجودةومتوسط إنتاج الفدان، وفقا لطبيعة التربة، من حيث سمكها وعناصرها، ومدىتماسك ذراتها ومدى وفرة مياه الري، من مياه الأنهار والأمطار والمياهالجوفية، من حيث كميتها وفصيلة وجودها. وفي قوله تعالى: (أولم ير الذينكفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما). إشارة واضحة لما أثبتهالعلم الحديث من انفصال الأرض عن الشمس مع باقي المجموعة الشمسية، حيثبردت تدريجيا مع بدء الكون وتكونت طبقات الأرض المختلفة وأصبحت بشكلهاالحالي كوكبا صالحا للحياة.
وفي قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون)، بمعنى بنينا السماءبقوة وإنا لقادرون وما مسنا في ذلك من تعب ولا مشقة، هنا إشارة إلى اتساعالكون وتمدده. والقرآن الكريم قد جاء بحقيقة نهائية ومطلقة لا تقبل الجدلعن تمدد الكون واتساعه. هذا الكون الذي يحتوي على أعداد ضخمة من المجموعاتالشمسية. والمدهش حقا أن يخرج عربي من قلب الجزيرة العربية، منذ أكثر من1400 عام لم يقرأ حرفا عن علم الفلك كما كان عند المصريين واليونانوالبابليين القدامى رغم خلو علومهم من ظاهرة تمدد الكون، ويأتي بمثل هذهالحقائق الكونية العظيمة فلا يمكن أن يكون ذلك إلا من عند الله تعالىالواحد الأحد... مما يزيدنا إيمانا بالله القوى العزيز وبملائكته وكتبهورسله واليوم الآخر.
وكم هو معجز حقا قول القرآن الكريم في قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهاداوالجبال أوتادا). بمعنى أن الأرض فراش للإنسان كالمهد، وأن الجبال تشكلأوتادا تثبت ضبط توازن القشرة الأرضية، إذ وجد بالبحث العلمي أن سمكالقشرة الأرضية تحت القارات هو خمسة كيلو مترات، أما سمكها تحت الجبالفيقدر بحوالي 35 كيلو متراً وتتخذ شكل الأوتاد تحافظ على توازن سطح الأرضفوق صخور الباطن اللينة. وقد عرفت هذه الحقائق عن طبيعة الجبال ووظيفتهامنذ عام 1956 ممثلة في السياج الجبلي حول حوض البحر المتوسط... وكم منقوانين وحقائق أشار إليها القرآن الكريم عرف بعضها العلم في العصر الحديث.
القرآن الكريم وتطور الفكر الجغرافي
وهكذا فتح القرآن الكريم للجغرافيين العرب أو المسلمين أبوابا متنوعةلتطور الفكر الجغرافي منذ صدر الإسلام حتى الوقت الحاضر وفي المستقبل وقدشهدت الفترة التي بين القرنين الثامن والثاني عشر الميلادي عصرا كان العربفيه سادة العالم في مختلف العلوم والفنون. وأصبحت اللغة العربية هي اللغةالدولية للعلوم، ومنذ ظهور الإسلام الحنيف رحل كثير من العرب خارج شبهالجزيرة العربية إلى آسيا وحوض البحر المتوسط، وتوغلوا في القلب الأفريقيناشرين الإسلام والتجارة. ولولا عصر نهضة الإسلام لما عرفت أوروبا شيئا عنالفكر القديم الذي ترجم وزود بالشرح والتفسير في كتابات علماء الإسلام، منمختلف حقول الثقافة والمعرفة، وقد ظهرت المكتبات التي حوت هذا التراثالخالد، مثل مكتبة الجامع الأزهر بمصر، ومكتبات بغداد والبصرة والإسكندريةوتونس والقيروان وغيرها. هذا فضلا عن المكتبات الخاصة التي ترمز إلى حبالعلم، والاهتمام بالكتب. وقد شكلت دكاكين الوراقين وأصحاب المكتباتوالمخطوطات مكانا ممتازا لالتقاء أهل العلم والمعرفة كما جاء في كتاباتياقوت الحموي وغيره من المؤرخين.
جغرافيّو الإسلام
واهتم عدد كبير من جغرافيي الإسلام بحوض البحر المتوسط واعتبروه مهداًلتطور الفكر الجغرافي، ولنضرب بعض الأمثلة لما جاء في كتابات هذه النخبةالمتميزة من جغرافيي العرب والمسلمين، ف(ابن واصل) الذي ولد في بغدادوتجول في معظم مدن الحوض الكبير في القرن العاشر الميلادي- الرابع الهجري،ركز على ما عرف فيما بعد بجغرافية المدن فقال عن برقة إنها مدينة هامةكمركز تجاري لتجارة الجلود والتمور ومن أهم مراكز المواصلات بين مصروالقيروان، أما طرابلس فهي مدينة بيضاء بنيت من الصخر الجيري الأبيض علىساحل البحر المتوسط أراضيها خصبة جيدة تعطي أوفر الثمار ولاسيما منالفاكهة كالخوخ والكمثرى اللذين لا شبيه لهما بمكان، وهي ميناء هام تحيطبه المراكب ليلا ونهارا حاملة التجارة ما بين بلاد الروم وأرض المغرب.وأهلها قوم معروفون بنظافة الأعراض والثياب والأحوال والعشرة الحسنة.
(والبياتي) من أهل العراق نبغ في الجغرافية الفلكية ورصد النجوم، ودرسبالنقد والتحليل كتابات بطليموس الجغرافية، حتى لقب بطليموس العرب، ولهأبحاث قيمة في القرن العاشر الميلادي في الجغرافية التطبيقية والفلكية...
وأبو عبدالله محمد الإدريسي ولد في بلدة سبتة بالمغرب من الأسرة الأدريسيةالتي تنتمي إلى (النبي إدريس) في قرطبة ثم تجول في الأندلس وفي معظم أجزاءالبحر المتوسط ولا سيما الشمال الأفريقي وآسيا الصغرى، ثم عاش ضيفا علىملك صقلية النورماندي روجيه الثاني وكان ملكا محبا للعلم والعلماء وفيضيافته ألف كتابه المشهور "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق".
واهتم الادريسي خاصة بمظاهر الجغرافية البشرية لحوض البحر المتوسط معالعناية بالجانب الخرائطي فجاءت خريطته عن العالم من أدق خرائط ذلك العصر،واهتم بنهر النيل وكان دقيقا جدا في تحديد مجراه ومتابعة بحيراتهالمختلفة، وأشار إلى برك النوبة وما بها من تماسيح وأسماك، وما بالسودانمن فواكه ونبات، وأعطى لحوض البحر المتوسط عناية خاصة في دراساتهالجغرافية، معتبرا أنه يشكل مهدا للحضارات وموطنا لتطورالبحث الجغرافي.
وأخيرا نشير إلى الشيخ الإمام أبي عبدالله ياقوت الحموي، وقد ولد في بلادالروم وهي الأناضول الحالية، حتى سمي أحيانا بالرومي، وقد أسر وهو صغيروبيع لتاجر حموي كان يقيم في بغداد فنسب إليه واهتم التاجر بتربية ياقوتليساعده في تجارته، وأرسله في تجارات له في الخليج العربي وعمان والشام،فتشبع بحب الرحلات والدراسة الإقليمية للأرض، وسكانها وإنتاجها، وأعتقهسيده، واتجه ياقوت إلى نسخ الكتب ليعيش منها، وتعرف على الكثير من رجالالعلم والأدب، ثم تعاون مع سيده فاستأنف أسفاره التجارية. وبعد عودته وجدسيده قد مات، وأوصى له ببعض ثروته التي استفاد بها بتجارة الكتب والتأليفالجغرافي. وقد تجول في حوض البحر المتوسط مع العناية ببلاد الشام،والجزيرة العربية، وآسيا الصغرى، ومصر، وضم كل هذه الرحلات في كتابه (معجمالبلدان العربية) الذي أتمه في عام 621ه- 1114م ويعتبر الكتاب مرجعا فيالجغرافيا الإقليمية، وله كتاب آخر وهو (معجم البلدان)، جمع فيه بين البحثالجغرافي والإقليمي ومقومات الأدب والأديب وتوفي عام 627ه.
الفكر الجغرافي العربي
ممثل للفكر الوسيط
بينما كانت أوروبا تعاني كسوفا في الحضارة، انتشر في الشرق الدين الإسلاميالحنيف انتشارا سريعا، واتسعت رقعة دولة الإسلام، لتمتد إلى شواطئ الأطلسيوحوض البحر المتوسط غربا حتى حدود الصين شرقا، كما توغلت في العمقالأفريقي، حتى النطاق الاستوائي، وبذلك بزغت الحضارة الإسلامية، وازدهرتعلومها المختلفة، ومنها الفكر الجغرافي.
وبالنسبة للتراث الإنساني، فإن تيار الفكر بقي منسابا ومستمر الجريانبظهور الحضارة العربية، والفكر الجغرافي العربي هو الممثل الصحيح للفكرالوسيط، واقتصرت الفترة المظلمة من القرون الوسطى حضاريا على الوسطالأوروبي، حيث انحسرت المسيحية في ظل البربرية إلى الصوامع والأديرة،حاملة معها بقايا تراث الفكر الكلاسيكي.
وقد امتاز حوض البحر المتوسط بظهور العديد من مراكز البحث العلمي، التيانتشرت في العراق والشام ومصر وكل الشمال الأفريقي وأراضي الأندلس، حتىالجنوب الفرنسي، وازداد استقرار الكيان الحضاري للدولة، وازداد الاهتمامبالمعرفة واكتسابها، ولاسيما بعد قيام الدولة العباسية، منذ القرن التاسعالميلادي، حيث بدأت عملية النقل والترجمة من الهندية والفارسيةواللاتينية، وكانت الجغرافيا من أكثر العلوم تطورا، ولاسيمإ بعد ترجمةمؤلفات استرابو وبطليموس وغيرهما من قادة الفكر القديم.
وأهم ما يميز الفكر الجغرافي في العصر العربي الإسلامي، ولاسيما في حوضالبحر المتوسط، ظاهرة التخصص الجغرافي، بمعنى أن البحث الجغرافي تشعب إلىعلوم جغرافية متخصصة، فظهرت الجغرافيا الفلكية والرياضية، ومن أعلامهاالخوارزمي الذي اشتهر بجداوله الدقيقة، وكذلك كتاب (رسم الأرض) الذي عينفيه مركز كل مكان على سطح العالم المعروف نسبة إلى خطي طوله وعرضه. كماتبلورت الجغرافيا الإقليمية بفرعيها العام وجغرافية الإقليم الخاص كماأشرنا في كتابات الإدريسي وياقوت الحموي وغيرهما. وهنا نشير إلى كتاب(جزيرة العرب) للهمداني وهو عرض تحليلي دقيق لشرق حوض البحر المتوسط.
ونؤكد هنا أن العرب في كتاباتهم الجغرافية، اتبعوا المنهج التحليلي، فيمناقشة الظواهر المختلفة، مع تنوع الأمثلة الإقليمية، ولا سيما في حوضالبحر المتوسط، فلهم الفضل الأول في التفسير العلمي لكثير من الظواهرالجغرافية ولاسيما الطبيعية منها، كنشأة الجبال الالتوائية والتعريةالمائية وأنواع الأمواج والرياح وتباين أنماط التربة...
إن الفكر الجغرافي العربي الذي ظل مزدهرا، كركن هام من أركان الحضارةالإنسانية، طول خمسة قرون، بدأ ينكمش مع تقلص نفوذ الدولة العربية، تاركاالمجال لأوروبا، تدخل عصر النهضة منذ القرن الرابع عشر، ثم عصرالاستكشافات الجغرافية، من القرن الخامس عشر الميلادي، ولهذا الفكرالجغرافي العربي الفضل الأول في الحفاظ على الفكر الجغرافي القديم، معإثرائه بقدر كبير من المعرفة الجغرافية العلمية الدقيقة. وفي عصر النهضةوالعصر الحديث، أخذ ينمو شعاع هذه النهضة الفكرية في حوض البحر المتوسط،وفي إيطاليا أولاً، إحياء للعلوم الكلاسيكية ومنها الجغرافيا.
كما يلاحظ أن نمو الكشف الجغرافي منبعثاً من أسبانيا والبرتغال، يشكل حركةامتدت بعد انتصار الأسبان على العرب في الأندلس، فأصبح للجغرافية شأن هامفي مجال التطور الخرائطي، الذي أضاف المناطق التي تم كشفها من العالمالجديد. وكان للعرب الفضل في نمو هذه الحركة الفكرية التي سادت الجنوبالأوروبي ثم انتشرت على المستوى العالمي.

» التطور التاريخي للفكر الجغرافي وبعض المفاهيم الخاصةللفكر
» دور الأسلام في الفكر الجغرافي العربي للدكتور سعدون شلال
» الفكر الجغرافي عند الاغريق
» طبيعة الفكر الجغرافي وتطوره
» كتاب انجليزي 2009 عن المغرب العربي يتحدث عن العلاقات المغرب العربي بشكل عام واهم شيء التسلح