هداية الله في جاوة:
هداية الله سونن جاتي هو أحد دعاة الإسلام المخلصين الذين كان لهم الفضل بعد الله عز وجل في هداية كثير من أهل جزيرة جاوة للإسلام، ولقد ذكر المؤرخون الجاويون كالحاج علي خير الدين والكياهي محمد أرشد وغيرهم أن أول من جاء إلى جاوة من جهة الهند هو الإمام جمال الدين الحسين وذريته ونسله الملقبون بآل عظمة خان هم الذين قاموا بالدعوة والإرشاد بين القبائل الوثنية بجاوة ومنهم هداية الله سونن جاتي.
إن ما يبقيه علماء الرجال ودعاتهم من عظيم الآثار وجليل الأعمال يغنيهم عن كل ترجمة، والداعية المخلص هداية الله سونن جاتي قد كتب لنفسه ترجمة من نور في ميدان الدعوة إلى الله وكان سببًا في هداية نصف سكان جزيرة جاوة إلى الإسلام وقد شهد له بذلك الدور الرائع المؤرخون الأوربيون على الرغم من عداوتهم وبغضهم للدعاة المسلمين عمومًا وسونن جاتي خصوصًا؛ لذلك نجدهم في مواطن كثيرة ورغم اعترافهم بدوره الكبير في نشر الإسلام، نجدهم ينتقصونه ويتهمونه بخدمة مصالحه الشخصية، ويشككون في نسبته لآل عظمة خان وهكذا.
نشأ هداية الله في منطقة «شربون» في غرب جزيرة جاوة في بيت عريق في الدعوة والإرشاد، فتربى على همة عالية وشوق كبير لخدمة الإسلام، وقد اتصف هداية الله بالنجابة والفطنة وحسن العرض والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك كله مع الاستقامة والعبادة وطلب العلم اللازم لدعوته، وهو في نفس الوقت شديد الزهد لا يغير من أحواله ورسومه على الرغم من إقبال الأمراء والناس عليه، ومن شدة حب الناس له، قام سلطان إمارة دمك الإسلامية [ترنقانو] الثالث بتزويجه من أخته واتخذه من أخص مستشاريه، حتى أن هذا الداعية رغم اشتغاله بالدعوة والتنقل بين القرى، كان يتصدر المحافل العلمية وأيضًا كان قائدًا شجاعًا خبيرًا بتدابير الحروب وسياسة الممالك والتراتيب الإدارية وإجراءات العدل والتقدم.
كانت سلطنة دمك هي أول سلطنة إسلامية في جزيرة جاوة تكون لها السيطرة على أجزاء كبيرة من الجزيرة، وقد قامت على أنقاض الإمبراطورية الوثنية «ماجافاهيت» وذلك سنة 1478م، غير أن هذه السلطنة المسلمة قد عانت من عدو داخلي وآخر خارجي، أما العدو الداخلي فقد تمثل في بعض القبائل الوثنية التي دخلت الإسلام وقلوب أبنائها لم يتغلغل الإيمان فيها، وما زالوا يحنون لعادات وطقوس الوثنية وقد حاولت هذه القبائل دمج شعائر الإسلام بشعائر الوثنية والخلط بينهما والخروج بدين جديد، وكان من هؤلاء الضالين من كان له حظوة ومكانة أيام الحكم الوثني أراد استعادتها أيام الحكم الإسلامي وذلك بالتظاهر بالإسلام وإضمار الوثنية غير أن سلاطين المسلمين قد أدركوا خطورة هذه الطائفة وحذروا المسلمين منها ومن أفكارها وكمان السلطان عبد الفتاح ثم ولداه من بعده يونس وترنقانو من أشد الناس في هذه الطائفة الضالة، وترنقانو هذا هو السلطان الذي كان الإمام هداية الله سونن جاتي من أخص مستشاريه وقائد جيوشه.
أما العدو الخارجي فقد تمثل في البرتغاليين الذين احتلوا العديد من الموانئ جاوة وأنشأوا لهم مراكز تجارية وقواعد عسكرية هناك وعقدوا اتفاقيات تعاون مع أمراء الوثنيين في غرب جاوة مثل أمير سندا كلافا وفجاجران وغيرهم، فاستأذن الإمام هداية الله السلطان ترنقانو في الذهاب إلى غرب جاوة لنشر كلمة التوحيد والتصدي لمحاولات الصليبيين هناك بتهديد دولة الإسلام بجاوة، ودخل هداية الله هذه البلاد الواسعة وحده واستطاع بحسن دعوته ورائع بيانه أن يقنع زعماء القبائل ورؤوسهم باعتناق الإسلام، وكان زعيم القبيلة إذا أسلم أسلمت القبيلة بأسرها فاستجاب له أهل بانتن وأسلموا جميعًا، ثم دخل إلى سندا كلافا ودعا أهلها للإسلام وأميرهم هو الذي تحالف مع البرتغاليين، فاستجاب كثير منهم، وبدا أن الإسلام دين قومي لأهل جاوة يتصدون به للاحتلال البرتغالي.
أثارت نشاطات هداية الله في جاوة الغربية مخاوف الوثنيين والبرتغاليين هناك وأذهلهم إقبال الناس هناك على الإسلام، فاتفق أمير سندا كلافا الوثني مع البرتغاليين على محاربة المسلمين، وأخذ البرتغاليون في تحضير قواتهم لذلك، وشعر الإمام هداية الله بذلك فأرسل إلى السلطان ترنقانو يطلب منه إرسال جيوش السلطنة لمحاربة التحالف الوثني ـ الصليبي، وبالفعل أرسل ترنقانو جيشًا كبيرًا مزودًا بالمدافع المحلية التي صنعها المسلمون بأنفسهم، وقد تولى الإمام هداية الله قيادة هذا الجيش وأشرف بنفسه على مواقعه وترتيباته، وقد أثمرت هذه الإدارة الناجحة لهداية الله في الانتصار الكبير والرائع للمسلمين على الأسطول البرتغالي الذي تكبد خسائر ضخمة وانسحب من المعركة وهو يجر أذيال الخيبة والهزيمة المريرة.
فرح أهل جاوة الغربية بانتصار المسلمين على البرتغاليين، وقد بهرتهم شخصية الإمام هداية الله وقد عرفوا صلاحه وتقواه وعطفه على الكبير والصغير، ورأوا من شجاعته ومهارته القيادية، فطلبوا منه أن يكون سلطانًا عليهم، فرد عليهم بكلام من ذهب يكشف عن حقيقة الدعاة المخلصين الذين لا يريدون من دعوتهم إلا إعلاء كلمة التوحيد، إذ قال: «إنني لا أستطيع قبول طلبكم لأنني إنما فتحت هذه البلاد بأمر السلطان ترنقانو وبجيوشه وهو سلطان مسلمي جاوة كلها، وأنا قائد من قواد جيشه، وأنا وأنتم رعية للسلطان، وهو الذي يحق له أن يولي من شاء على هذه البلاد، ويجب عليكم طاعة من يوليه عليكم»، وهذه شهادة للتاريخ نضعها أمام الطاعنين والمشككين في نوايا الدعاة وصدق إخلاصهم وفي أصل دعوتهم.
رد السلطان ترنقانو الجميل للإمام هداية الله سونن جاتي، إذ عيَّن ولده المجاهد حسن الدين واليًا على جاوة الغربية، وكان عمل السلطان هذا دليلاً على بعد نظره وخبرته الفذة بالرجال، إذ أن حسن الدين هذا سوف ينشأ مملكة إسلامية قوية في جاوة الغربية بعد سقوط مملكة دمك الإسلامية إثر اغتيال سلطانها العظيم ترنقانو سنة 1546م.
ومن الحقائق التاريخية الثابتة والتي حاول المستشرقون الأوروبيون طمسها وإخفائها أن عاصمة أندونيسيا الآن والمعروفة بجاكرتا قد تسمى سابقًا سندا كلافا وهو الاسم الوثني لها، فلما دخل أهلها في الإسلام على يد الإمام هداية الله، وانتصر المسلمون على البرتغاليين، أطلق الإمام هداية الله اسم «جاياكرتا» على البلد بدلاً من سندا كلافا، ومعنى جايا (الانتصار) ومعنى كرتا (العمران) وقد بقي ذلك الاسم حتى استولت هولندا على البلاد فأبدلت ذلك الاسم عام 1621م باسم تبافيا وهو اسم أشهر القبائل الهولندية.
بعد تولية حسن الدين على جاوة الغربية عاد الإمام هداية الله إلى دمك في جنوب سومطرة واشتغل بالدعوة والتعليم حتى سنة 1546م، وفيها جعله السلطان ترنقانو قائدًا للجيش الذي سيَّره لفتح جاوة الشرقية، وقد نجح هداية الله في الانتصار على أمير فاسروان الوثني، ولكن وقعت حادثة اغتيال السلطان ترنقانو في نفس السنة على يد أحد أتباع طائفة «أندجان» الضالة التي حاولت المزج بين الإسلام والهندوسية، وبعد ذلك تخلى هداية الله عن أمور الحكم والقيادة وتفرغ للعلم الدعوة والعبادة والتصدي لطائفة «أندجان» الضالة التي وجدت مساعدة قوية من البرتغاليين وبدأت في الظهور بقوة على ساحة الأحداث بجاوة كلها.
وظل سائرًا على طريق دعوته، هاديًا ومرشدًا لأهل جاوة كلهم، وقد هدى الله عز وجل على يديه في تلك الفترة آلاف الجاويين حتى أتاه اليقين سنة 1570م، وقد ترك أروع الأثر في تاريخ الإسلام في تلك البلاد النائية والتي فتحت بالحكمة والموعظة الحسنة