دروس في التاريخ

لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من تعلم دروس التاريخ بشكل يكفل عدم تكرار الأخطاء. هذا الدرس تعلمته انجلترا منذ القدم و مارسته بشكل دائم مما مكنها – و هى الدولة الصغيرة على جزيرة منعزلة عن الكل جغرافيا - من التحكم فى مقادير العالم المتسع من أستراليا عبر الهند الى الخليج و الشرق الأوسط و جنوب أوروبا الى وسط و شمال أوروبا من ناحية ثم أفريقيا شمالا و جنوبا الى حدود أمريكا الجنوبية و كل ذلك عبر فترة زمنية لم تقل عن 200 عام و بتكاليف لم تصل الى 1 فى الألف مما تكبدته أمريكا منذ عام 1941 الى اليوم.
الدرس الأول هو عدم الافراط فى استخدام القوة العسكرية لكى لا ينشأ شعور بالثأر لدى السكان الذين تحتلهم بريطانيا. و هذا الدرس وعته بريطانيا مبكرا حيث أنها لم تكن أبدا محتلا قاسيا يحكم بالحديد و النار و يقهر ارادة السكان لدرجة أن الجيش الانجليزى الذى كان يحتل الهند ذات ال 450 مليون لم يزد تعداده فى يوم من الأيام عن 60 أو 70 ألف جندى. و مع ذلك فان معظم الانتفاضات التى قامت ضد بريطانيا فى الهند كانت تنتهى الى لا شىء لأن السياسيين البريطانيين من خريجى مدرسة الادارة فى الهند كانوا دائما قادرين على احياء الفرقة بين الطوائف الهندية المختلفة و ان لم تكن الفرقة موجودة عملوا على اشعالها لكى يمكن الاستفادة منها فى اطفاء نار التمرد ضد قواتها قليلة العدد. كذلك فان جيش الهند الانجليزى كان قوامه من المسلمين الهنود حيث طائفة الهندوس لم تكن فى ذلك الوقت تصلح للأعمال العسكرية بسبب جنوحها الى السلام و الاستكانة. و لعل هذا هو سبب الكراهية التى لا تزال موجودة بين الطرفين حتى اليوم رغم خروج ملايين المسلمين من الهند و تكوين دولة لهم فى الشرق و الغرب هى باكستان قبل القسمة.
الدرس الثانى هو اعطاء الشعوب المحتلة الانطباع أن جميع الأخطاء التى تحدث من قبل القوات البريطانية فى الدول المحتلة انما هى أخطاء فى التقدير ارتكبها حكام المستعمرات المحليون و لم تكن لندن تدرى بها ناهيك عن التصريح بالقيام بتلك الأخطاء.
فى أعقاب ثورة 1919 أرسلت بريطانيا لجنة ملنر للتحقيق فيما جرى و سؤال ممثلى الشعب المصرى عن رغباتهم المستقبلية مما هدأ خواطر المصريين و أعطاهم أملا جديدا فى امكانية حدوث تقدم.
فى أعقاب مذبحة أمريتسار فى ثلاثينات القرن العشرين فتحت الادارة البريطانية تحقيقا مع الجنرال داير المسئول عن المذبحة و أعطت للهنود الانطباع أن ذلك انما كان خطأ يصعب تكراره فى ظل الضمانات الى أعطاها الانجليز الى ممثلى الهنود فى تلك اللقاءات.
الدرس الثالث كان اعطاء المستعمرات دائما الانطباع بأن وجود انجلترا عسكريا على أرضهم انما هو ضمان لعدم وقوعهم تحت طائلة قوة أسوأ و أكثر وحشية من الانجليز ذاتهم و بالتالى يقوم جدل بين الوطنيين حول جدوى المقاومة و تنكسر روح المقاومة الموحدة بسبب اجراء تلك المناقشات التى غالبا ما تفضى الى لا شىء اللهم الا نسيان قضية المقاومة بعد ضياعها فى دهاليز التناقش الغير منتهى.
الدرس الرابع هو عدم محاولة تغيير الثقافة السائدة لدى الشعوب المحتلة و انما تغيير ظروف الحياة فقط عن طريق مشروعات تؤتى ثمارها على المدى المتوسط أو الطويل مع عدم المساس بالثقافة السائدة سواء اجتماعيا أو دينيا بل و اظهار الاحترام لتلك الثقافات و التشديد على أنه لا يوجد خلاف ثقافى أو صراع حضارات بين القيم البريطانية و العناصر الموجودة فى ثقافة الدول المحتلة.

هذه الدروس الهامة جدا لم تتعلمها أمريكا أبدا فى يوم من الأيام و لعل أفضل مثال على ذلك هو الكتاب الهزلى المكتوب فى منتصف الخمسينات من القرن العشرين " الأمريكى القبيح " للكاتب وليام ليدرر و الذى يتناول فيه أداء الادارة الأمريكية فى الشرق الأقصى فى ذلك الزمان و كيف أن عناصر التعالى و الجهل تسود عقلية القائمين على أمر السياسة الخارجية الأمريكية على عهد الرئيس آيزنهاور.
الواقع أن العناصر الى قام ليدرر بعرضها فى ذلك الكتاب لا تزال قائمة لم تتغير تقريبا حتى يومنا هذا و أكبر دليل على ذلك هو الفشل المدوى لأمريكا كقوة احتلال فى كافة الدول التى قامت بممارسة مغامرة الاحتلال العسكرى على أراضيها.
بعد انتصار الثورة الشيوعية فى الصين دعا الجنرال دوجلاس ماك آرثر البطل الأسطورى فى حرب الباسيفيك و قاهر اليابان و صاحب أكبر استقبال شعبى عرفته الولايات المتحدة فى تاريخها – دعا الى استعمال القنبلة الذرية لمحاربة النظام الجديد فى الصين و ركب الشطط فى دعواه هذه الى أن أجبره الرئيس ترومان على ترك الخدمة بطريقة مخزية و كانت نهاية مأساوية لبطل قومى أسكرته خمر الانتصار فبدا كمن يهذى و يخرف و انتهى نهاية حزينة بائسة.
و عندما امتنعت الحكومة الألمانية عام 2003 عن تأييد الغزو الأمريكى للعراق أعلن السيد ريتشارد بيرل مساعد وزير الخارجية الأمريكى أنه على الحكومة الألمانية أن تستقيل لأنها فقدت شرعيتها عندما لم تؤيد الغزو !!! النتيجة أنه هو شخصيا استقال أو بالأحرى اضطر للاستقالة بسبيب تورطه ماليا مع احدى شركات التليفونات على ما أذكر. كذلك فان السيد رامسفيلد الذى حاول تقسيم أوروبا على هواه بين أوروبا القديمة و أوروبا الجديدة وجد نفسه بعدها بأقل من 18 شهرا بلا وظيفة بسبب نتيجة الانتخابات التشريعية الجزئية فى داخل أمريكا عام 2004 و التى جاءت كارثة على الجمهوريين. و بول فولفوفيتز – الذى ترك ادارة بوش ليصبح مديرا للبنك الدولى - منع بالفعل من المشاركة فى أعمال القمة الاقتصادية عام 2004 و أعلن الألمان المستضيفون للمؤتمر أنه شخصية غير مرغوب فى وجودها داخل المؤتمر !! و غيرهم و غيرهم جميعا جربوا ذلك الطريق الوعر و فشلوا فى كل محاولة لأن الرفض العالمى لمحاولات قسمة العالم الى أبيض و أسود لم تنجح أبدا.
انك لو طفت بتصريحات السياسيين الانجليز على مدى التاريخ كله فانك لن تجد أبدا تصريحا لأحدهم يتسم بتلك الوقاحة التى واجه بها بعض المسئولين الأمريكيين العالم و بساطة بل سذاجة المنظور الى شئون العالم. واحدا فقط حاول ذلك مرة وكانت النكسة من نصيبه و اختفى الى غياهب النسيان بسبب خداعه و تلاعبه و كذبه - أنتونى ايدن.
الأزمة التى يعيشها الرئيس أوباما الآن هى فى الواقع ليست من صنع يديه و انما هى نتيجة 8 سنوات من حكم المحافظين فى البيت الأبيض و نصف هذه المدة فى الكونجرس و قبلها غرور النصر و خيلاء القوة اللذان صاحبا معظم القرارات و الخيارات السياسية الأمريكية منذ انهيار السوفيت و انتصار الكويت.
ان الافراط فى استعمال القوة جعل من التحدى للارادة الأمريكية سمة معظم دول العالم – عدا لدى ادارات بلادنا العربية طبعا – مما جعل مهمة تنفيذ تلك المغامرات ضربا من المحال لا تقدر عليه لا أمريكا و لا أية دولة فى العالم و فكرة انشاء تحالفات دولية تنهض بأعباء تنفيذ تلك المغامرات أضحت فكرة غير مستساغة شرقا و غربا بل أن التحالفات التى تم تشكيلها سابقا بدأت الآن فى التفكك و أضحى كل طرف لا يبحث الا عن مصالحه المباشرة فى ظل أزمة اقتصادية أوجدتها البنوك الأمريكية الجشعة ثم عجزن عن ايجاد حل لها من أى نوع.
و هكذا فان الدرس الأول من دروس التعامل الدولى قد أثبت جدواه حينما تقاعست الادارة الأمريكية عن فهمه و العمل بأحكامه.
أما الدرس الثانى فالتحلى بعظاته و حكمه لم يكونا من فضائل الادارات الأمريكية حيث أننا لم نسمع عن حالة تأنيب أو توقيع جزاء على أحد ممن ارتكبوا أخطاء فى الدول التى قام الأمريكان باحتلالها خلال الأعوام الماضية مما أفقد الأمريكيين كثيرا من المصداقية على امتداد العالم.
أما الدرسين الثالث و الرابع فقد بات من الصعب العمل بأحكامهما أولا فى ظل عدم وجود قطب آخر تمسح به كل آثام البشرية و تلصق به الخطايا ( مثل الشيوعية ) و ثانيا اخفاق الأمريكيين فى فهم مغزى و عمق الثقافات السائدة و التى هى أقدم بكثير من الثقافة الأمريكية الواردة من خلف المحيطات بهدف تغيير العالم.
جدير بالذكر أن اسلوب تعامل أمريكا مع الدول الغربية التى قامت باحتلال أرضها بعد الحرب العالمية ( ألمانيا و ايطاليا و اليابان) هو مختلف تماما عن تعاملها مع باقى الدول و مع ذلك فان تلك الدول كانت هى مهد الحركات المضادة للهيمنة الأمريكية فما بالك بالدول التى يقوم الأمريكيون بمعاملتها بقدر أقل كثيرا من الاحترام و الندية !!
ان العجز الأمريكى البادى فى التعامل مع ايران ليس منشأه اليوم أو أمس و انما نشأ منذ بداية خروج العم سام من قارته المنعزلة محاولا الهيمنة على العالم و فى كل مرة كان الفشل من نصيبه على المدى الطويل.